منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1971 لم يكن لدولة قطر دور يذكر في العلاقات العربية، حيث كانت مجرد رقم يصطف خلف السعودية في صفّ مجلس التعاون الخليجي المعلن عن قيامه عام 1981، ولم تمارس الشغب في هذا الصف بخلاف ما كانت سلطنة عمان أو الكويت تفعلانه في هذا الموضوع أو ذاك. في الحرب اليمنية بين الشمال والجنوب (1994) أعطت الدوحة صورة جديدة: في ذلك الحدث اليمني الكبير، قامت قطر، وبخلاف الدول الخمس الأخرى التي اصطفت بزعامة السعودية مؤيدة بشكل أو بآخر انفصاليي الجنوب (الماركسيون سابقاً) والذين كانت الرياض خلف صنعاء ضدهم في فترة الحرب الباردة، بالوقوف وراء واشنطن التي أيدت وحدويي الشمال، في رؤية أميركية بدأت معالمها مع تأييد جورج بوش للوحدة اليمنية في 22 أيار 1990، التي كانت تعني انشاء كيان قوي آخر في شبه الجزيرة العربية يجاور المملكة السعودية، وهو ما كانت الرياض تعيه جيداً وتتملكها الهواجس الكبيرة
تجاهه.
كان هذا أول بروز قطري في العلاقات العربية، كان لافتاً توجهه ضد السعودية حيث ارتبطت الأسرة الأميرية في قطر بعلاقات وطيدة قديمة مع آل سعود. في تلك الفترة كان ولي العهد القطري الشيخ حمد هو الحاكم الفعلي في الدوحة منذ عام 1992، قبل أن يطيح أباه في انقلاب 27 حزيران 1995، الذي ردّ عليه والده بمحاولة انقلابية فاشلة في شباط 1996 لم تكن فقط مدعومة من الرياض، وإنما أيضاً شارك فيها سعوديون ظلوا مسجونين في السجن القطري لأكثر من عقد من الزمن.
كان واضحاً، مع انشاء قناة «الجزيرة» (1 تشرين الثاني 1996)، أنّ الدوحة يراد لها أن تلعب دوراً لا يأتي من قواها الذاتية: تحرشات اعلامية مدروسة بالرياض بلغت ذروتها عام 2002 مع طرح قضية «صفقة اليمامة» للطائرات بين البريطانيين والسعوديين، وهو ما دفع السعودية على الأرجح إلى انشاء قناة «العربية» في بداية عام 2003. وطرح قضية الحريات في العالم العربي التي تمثل بالنسبة للأنظمة العربية ما مثلته قنبلة هيروشيما بالنسبة لليابانيين، مع تركيز ضد العواصم العربية الكبرى في القاهرة والرياض والجزائر والرباط، هي جميعها في صف واشنطن. في مناسبتين مفصليتين، هما ضرب برجي نيويورك وغزو العراق، لعبت «الجزيرة» وتلاقت مع عواطف غالبية الشارع العربي الذي كان في الضفة الأخرى ضد واشنطن، فيما لم يكن بعيداً عنها سوى بكيلومترات قليلة مقرّ القيادة المركزية الأميركية (الوسطى) الموجودة في الأراضي القطرية، والتي هي المركز القيادي لعمليات تمتد من اسلام آباد إلى نواكشوط ومن اسطنبول إلى مقديشو، حيث تم عملياً منها إدارة غزوي أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003، وهو شيء لم يكن بعيداً بالتأكيد عن ادراك أسامة بن لادن وأيمن الظواهري لما كانا يخصصان «الجزيرة» بأشرطة فيديو خطبهما ضد الأميركيين بين عامي 2002 و2005.
كانت «الجزيرة» سلاح الهندسة للدور القطري، فمع تجمع غيوم غزو العراق، بدأت ملامح تظهر بأن الدور القطري لا يراد له أن يقتصر على ماكينة اعلامية بحجم «الجزيرة» وفاعليتها. قبيل أسابيع قليلة من بدء الغزو العسكري، قام وزير الخارجية القطري بزيارة لبغداد، عرض فيها على الرئيس العراقي الذهاب إلى المنفى في إحدى العواصم العربية «لتفادي الغزو». يقال، وفق رواة عراقيين، بأنّ صدام حسين في ذلك اللقاء، الذي استغرق عشر دقائق فقط، قد طلب من مرافقه عبد حمود، الذي يحضر المقابلات معه واقفاً، بأن يحمل الوزير القطري فوراً ليس فقط إلى خارج القاعة وإنما «إلى الأبعد».
هنا، إذا أردنا احصاء الدور القطري في الاقليم خلال العقد الأول من القرن الجديد، يمكننا أن نعد التالي: أخذ دور اعمار الجنوب اللبناني بعد حرب تموز 2006 إلى درجة منح أمير قطر لقب «أمير المقاومة»، ثم لقاءه في نيويورك مع تسيبي ليفني في 25 أيلول 2007. تنظيم قطر اتفاق الدوحة بعد أزمة 7 أيار 2008 في لبنان، والذي أنتج اتفاقاً يعادل ما أنتجته الرياض في الطائف عام 1989. كان عام 2008 حصيلة توافق أميركي ــ سوري ــ إيراني بمعزل عن السعودية، قبل أن تنتج معادلة «س ــ س» (سوريا ــ السعودية) في لبنان، وربما رداً من الرياض على الدوحة. كما طرْح الدوحة لمبادرة حل للنزاع اليمني بين السلطة المركزية والمتمردين الحوثيين أنتجت مؤتمراً عام 2008 بالدوحة قبل أن يفشل بسبب اتهام الرئيس صالح للقطريين بالانحياز للحوثيين، الذين كانوا على علاقة وثيقة مع طهران، التي كانت آنذاك على علاقات جيدة مع الدوحة. عام 2010 نظمت الدوحة مؤتمراً جمع الرئيس السوداني وزعيم كبرى الحركات الدارفورية (حركة العدل والمساواة)، الدكتور خليل ابراهيم، كانت نتيجته اتفاقاً سودانياً جديداً. كان التقارب القطري الوثيق من دمشق في فترة 2007 ــ 2010 نوعاً من رأس حربة ديبلوماسية مع أردوغان أنقرة وباريس ساركوزي من أجلّ فك التحالف السوري ــ الإيراني. عام 2010 فتحت حركة طالبان الأفغانية مكتباً في الدوحة، اتضح لاحقاً أن مهمته عبر القناة القطرية انتاج اتفاقية بين الحركة وواشنطن في مرحلة أفغانستان ما بعد الخروج العسكري الأميركي، الذي تأمل واشنطن من خلال تلك المحادثات أن لا يكون على طراز ما بعد الخروج السوفياتي عام 1989من بلاد الأفغان، ولا على نتائج خروجها من عراق ما بعد 31 كانون الأول 2011.
في فترة 2011 ــ 2013، أخذ الدور القطري الاقليمي أبعاداً أكبر: دور رأس الحربة الاقليمية لواشنطن بالتعاون مع تركيا، وبوصف أنقرة والدوحة هما الرعاة للتنظيم العالمي للإخوان المسلمين، من أجل تنظيم وهندسة التغييرات الداخلية العربية بعدمت فوجئ البيت الأبيض بانفجار البنية الداخلية العربية للكثير من الأنظمة، ابتداءً من تونس. نجح هذا في القاهرة وطرابلس الغرب وتونس وصنعاء (في الأخيرة بمشاركة الرياض التي لا يمكن القفز فوقها في الشؤون اليمنية) وفشل في دمشق بسبب تحول الأرض السورية إلى ميدان لصراع أميركي ــ تركي ــ خليجي ضد موسكو وطهران ودول «البريكس».
الآن، هناك سؤال لم يطرح حتى يومنا هذا في عوالم الفكر والسياسة العربيتين: ما هي أسباب نفخ هذا البالون الذي اسمه دولة قطر؟ ثم: ما هي الوظيفة من وراء ذلك؟ بعد هذا وذاك: ما هي الآليات والعوامل، غير العامل الأميركي، التي جعلت دولة صغيرة، ولو كانت تملك الكثير من المال، تقوم بأدوار هي أكبر من حجمها بكثير. من الواضح أنها مربوطة بخيط أميركي، في زمن كانت تجارب عبد الناصر والملك فيصل بن عبد العزيز وصدام حسين (والآن إيران الخامنئي) تعطي دلالات واضحة على أنه ممنوع أميركياً انشاء أدوار اقليمية مستقلة لدول المنطقة؟
* كاتب سوري