التملّق والسجود لآل سعود بلغا أوجهما هذا الأسبوع. وائل أبو فاعور خرج من المجلس الوزاري الذي أقرّ وثيقة «التضامن» مع آل سعود متجهّم الوجه. قال إن الوثيقة لم تكن قويّة كفاية. كم من التملّق والسجود يكفي؟ وهناك نوّاب لم نسمع بهم من قبل نطقوا: مَن سمع بالنائب نضال طمعة من قبل؟ مَن رأى له وجهاً؟ هذا النائب عبّر عن شديد امتعاضه. وفي «بيت الوسط»، وقفوا بالصفّ كلٌ يريد أن يبايع قبل الآخر، المرّة تلو المرّة. وهناك أحمد الحريري الذي قال إنه قدِم إلى السفارة لتقديم الشكر إلى المملكة. أي أن الشكر واجب للمملكة على معاقبتها للبنان وجيشه وعلى تحذيرها رعاياها من مغبّة السفر إلى لبنان. وتهافت إلى «قصر الحريري» زرافات من رجال الأعمال ورجال الدين ورجال السياسة (أي ثلاثي الشرور السيّئ في لبنان) للتوقيع على عريضة المزيد من الانصياع للنظام الذي يُسجّل أرقاماً قياسيّة في قطع الرؤوس هذه الأيّام.الطاعة والولاء لا يكفيان عند آل سعود، بل تلاوة إعلان الطاعة والولاء واجب دوري، وإلا تتوقّف الهبات. لكن ميشال سليمان (وديعة غازي كنعان التي لم يأخذها معه عند رحيله من لبنان) قال إن إعلان بعبدا يفرض إعلان التماهي مع النظام السعودي لأن تلقّي المنح والعطايا الماليّة أولى من النأي بالنفس ــ الأمّارة بالسوء، والعذر لسكنى القصور يكمن في حفظ الجميل للمانح. وسعد الحريري عاد آخر مرّة إلى لبنان بإعلان منحة سعوديّة، وهو عاد هذه المرّة بإعلان سحب المنحة. وسحب المنحة أو العطيّة أو المكرمة عند العرب من القبائح (طالما يُسوّغ آل سعود سياساتهم وأفعالهم الذميمة بالاستناد إلى أحاديث نبويّة، يمكن تذكيرهم بحديث نبوي يقول «إن مثل الذي يعود في عطيته كمثل الكلب أكل حتى إذا شبع قاء ثم عاد في قيئه فأكله»).
لم يُجمع على تأييد الحكم السعودي في لبنان إلّا المستفيدون منه

وحزب الله كعادته يتردّد في التعاطي مع القضايا العربيّة: هو لا يحسم أمره إذا كان يريد «أفضل العلاقات مع المملكة»، كما ردّد من قبل، أم أنه يريد أن يفتح صراعاً. والنائب حسن فضل الله تحدّث هذا الأسبوع عن «دول معيّنة»، ولا ندري إذا كان هناك في الحزب مَن لا يزال يسعى للحصول على تأشيرات للحج. هل أن الحزب يخضع لتأثيرات التمنّع الإيراني أم أن الحزب لا يستطيع أن يفتح الصراع مع آل سعود إلى الآخر بسبب فشله في التعاطي مع سياسة الضخ الطائفي التي فعلت فعلها في لبنان والمنطقة؟ لكن وزراء الحزب وافقوا على صيغة التملّق والتضامن مع النظام الذي يحمّله حسن نصرالله (وعن حق) المسؤوليّة عن الحروب الدائرة في المنطقة وعن التحالف مع العدوّ الصهيوني. كيف ستفهم القاعدة الحزبيّة هذا التناقض؟ ولو أُطلِق سراح أمير الكبتاغون ــ وهذا الأمر مُرجّح لإرضاء آل سعود ــ سيكون ذلك بموافقة من حزب الله. أي أن الثبات غائب عن سياسة حزب الله العربيّة. كما أن حزب الله، مثله مثل كل إعلام الممانعة، لا يميّز بين الأنظمة الخليجيّة وشعبنا في شبه الجزيرة. والكلام العنصري في ذم العرب والبدو و«العربان» يعبّر عن العنصريّة المشرقيّة التقليديّة ضد أهل الخليج.
ليست هذه أوّل هزّة في العلاقة بين دولة لبنان ومملكة آل سعود. فقد شاب العلاقة بين الدولتين توتّرات ونزاعات دارت كلّها ــ وليس معظمها ــ حول رغبة النظام السعودي الصفيقة في إخراس الأصوات المعارضة له في لبنان. ووليد جنبلاط ذكّر بخجل بأن الخلاف مع المملكة وبين قطاع من الشعب اللبناني قديم. والصحيح أنه كان هناك دوماً خلاف مع النظام السعودي. لم يُجمع على تأييد الحكم السعودي في لبنان إلا المستفيدون منه (هؤلاء الذين كان يُطلب منهم في سنوات الحرب الوقوف أمام الكاميرات وهم يتلقّون الشيكات من السفير علي الشاعر الذي دبّر أمر اختطاف وقتل ناصر السعيد من لبنان). والصراع الناصري ــ السعودي لم يكن في داخل العروبة، وإنما حول العروبة: جمال عبد الناصر مثّل الخيار العروبي، فيما مثّل آل سعود ودول الخليج الخيار الإسلامي (الرجعي دوماً). ولم يناصر آل سعود حينها إلّا قوى اليمين الرجعي في لبنان المُتمثّلة بالكتائب و«الأحرار» (الذين حملوا السلاح ضد الخيار العروبي للبنان)، فيما لعب صائب سلام، كعادته، على الحبلين (وصائب سلام هذا ــ كي لا ننسى ــ كان السياسي اللبناني الوحيد الذي جاهر علناً بتأييده لمبادرة أنور السادات في زيارة الكيان الغاصب عام ١٩٧٧ ــ حتى قادة الجبهة اللبنانيّة تمنّعوا). كان سلام رجل سلطان بن عبد العزيز في لبنان، لكنه كان يدرك أن الفوز بالانتخابات النيابيّة يحتاج إلى صورة انتخابية مع عبد الناصر الذي كان يجاهر بتأييده تقيةً منه. (حاول سلام أن يستعين في أوائل الثمانينيات بصدّام حسين وأطلق تسمية «مدينة صدّام حسين الطبيّة» في قلب بيروت، لكن الأموال لم تأتِ، فأزيلت اللوحة الإعلانيّة العملاقة من محلّة قصقص).
لكن الصراع بين بعض لبنان وآل سعود كان في جانب كبير منه حول العروبة، التي باتت أداة دعائيّة في يد النظام السعودي فقط لأنه يستطيع أن يرميها في وجه النظام الإيراني. لكن للعروبة مضامين، مثل تحرير فلسطين وتعزيز الهويّة العربيّة ضد الهويّات القطريّة الشوفينيّة التي يرعاها في لبنان وفي كل الدول العربيّة آل سعود. والعروبة تعني معاداة المشاريع الاستعماريّة في العالم العربي، كما تعني العمل على رفض التجزئة وقيام وحدة عربيّة بين الدول. كل هذه المضامين كانت ولا تزال في تضاد مع سياسات وأحكام آل سعود. وقد أصبحت الميليشيات والأحزاب التي تربّت في حضن العدوّ الإسرائيلي هي الأمينة على العروبة في لبنان، فيما تنفي أنظمة الخليج العروبة عن الذين طردوا العدوّ الإسرائيلي من لبنان. أصبح اللوبي الصهيوني في لبنان هو الذي يصنّف الناس بين وطنيّين عروبيّين وبين متطفلين ودخلاء على العروبة. وجمال عبد الناصر (الذي لم يتوقّف عن لسع النظام السعودي من قبره، ولهذا هم لم يغفروا له) نزع صفة العروبة ــ عن حق ــ عن كل أنظمة الخليج التي لم تكن تريد من المُستعمِر أن يرحل. والحكومة الإماراتيّة والحكومة السعوديّة أعلنتا قبل أسبوع واحد أنهما لن تشاركا في قوّات في سوريا إلا تحت قيادة أميركيّة: هذا هو التعريف الخليجي (الرسمي) للعروبة التي يريدون فرضها على لبنان... والقوّات الخليجيّة ــ الأميركيّة تدافع عن عروبة اليمن بالقنابل والصواريخ. وفريق العروبة المُفاجئ في لبنان هو نفسه الذي خاض انتخاباته بعد اغتيال الحريري تحت شعار «لبنان أوّلاً» (وفات الملاحظة في حينه أن أوّل من أطلق شعار «لبنان أوّلاً» هو أنطوان لحد في عام ١٩٩٦، بعدما سلّمه إيّاه مُرشده، أوري لوبراني). وسعد الحريري يأمر بـ«الوفاء إلى الدول العربيّة»، لكن أي منها يقصد؟ هل يقصد تلك الدولة العربيّة التي خدمها أبوه بماله وجهده وعرقه وسجوده على مرّ نحو ثلاثة عقود؟ أم أن الدول التي تختلف مع آل سعود تخرج عن العروبة؟
واللافت في لبنان أن فئة الكتّاب والمثقّفين (في أكثريّتهم) تقدّم النصح للطبقة السياسيّة حول كيفيّة إرضاء الملك والأمراء. واحد يذكّر بأنه تلقّى ذات مرّة اتصالاً من سلمان عندما كان أميراً، وآخر (بعدما روّج لعبد الناصر وصدّام حسين من بعده) يُطلق كتاباً عن منجزات الأشهر الأولى من حكم الملك سلمان بعنوان «قاطرة سلمان: الحزم والعزم على طريق الاستقرار العربي والتأسيس الثاني». لكن أسوأ ما يصدر عن الكتّاب هو التذكير والتحذير من عواقب انتقاد ومعارضة آل سعود على الرهائن اللبنانيّين في دول الخليج. كيف يمكن لممتهني الكتابة والثقافة والشعر اعتماد مبدأ تطويع سياسة الدولة (التي يلحّون يوميّاً في ضرورة العبور إليها) لمصالح دولة أخرى تستضيف جالية تعمل فيها؟ هذه كأن نهدّد دولة سريلانكا أو إثيوبيا بأن نطرد العاملات السريلانكيّات والإثيوبيات من لبنان في حال تعارض السياسة الخارجيّة للدولتين مع سياسة لبنان. لا بل إن من الكتّاب والصحافيّين مَن يعتبر أن من حق الدولة المُضيفة أن تملي على دولة أخرى سياسات وقرارات مقابل عدم طرد جالية أجنبيّة منها. والغضبة السعوديّة لم تكن فقط بسبب الاعتراض على عدم موافقة لبنان على قرار يدين الاعتداء على حجارة سفارة في إيران (لماذا لم يصدر اعتراض سعودي عبر الجامعة العربيّة والمؤتمر الرجعي الإسلامي عن الاعتداء على السفارة السعوديّة في القاهرة من قبل الثوّار الشباب هناك بعد سقوط مبارك؟). كانت السعوديّة تريد من لبنان الموافقة على قرار يصمُ فيه أكبر حزب لبناني بالإرهاب، ومن قبل حكومات موغلة في التحريض الطائفي المذهبي ضد الشيعة. أي أن لبنان مُطالب بالموافقة على إثارة الفتنة في أرضه لأن السعوديّة «تحتضن» (ما هو المعنى القانوني للاحتضان؟ هل أن كل جالية أجنبيّة هي مُحتضنة من قبل الدولة المضيفة؟ وهل أن الاحتضان هذا مشروط بالموافقة على كل سياسات الدولة المضيفة؟) والتهديد بالطرد جزء من دبلوماسيّة دول الخليج، وهو اختصاص: الكويت طردت الجالية الفلسطينيّة من الكويت في عام ١٩٩١ (وسرقت ثرواتها وخيراتها) كما أن السعوديّة طردت الجالية اليمنيّة بعد عام ١٩٩٠ لأن اليمن رفضت أن تؤيّد القرار الأميركي بضرب العراق.
ورواية وليد جنبلاط عن تاريخ العلاقة مع آل سعود كانت ــ كعادته ــ غير صحيحة: ليس صحيحاً أنّ خلافاً بسيطاً وقع بين «بعض اليسار اللبناني» والنظام السعودي «في فترة ما». في كل التاريخ المعاصر للبنان، كان قطاع كبير من اللبنانيّين يقف بقوّة ضد الحكم السعودي (وكان معظم إعلام لبنان يقف مع عبد الناصر ضد آل سعود، لكن كان ذلك في حقبة كان فيها العمل الصحافي عملاً عقائديّاً وليس استزلاماً، مع أن بعض الإعلام اللبناني كان مُموّلاً مباشرة من النظام السعودي والكويتي). كان القوميّون العرب واليساريّون والمتنوّرون يقفون بقوّة مع عبد الناصر ضد آل سعود، وكان بين الطبقة التقليديّة مَن اختار الوقوف مع عبد الناصر ضد آل سعود لأسباب انتخابية. أما كمال جنبلاط، وبالرغم من تقلّب شاب ميسرته السياسيّة (لكن ليس إلى الدرجة التي امتهنها ابنه من بعده) فكان يعيّر خصمه الدائم، صائب سلام بأنه «عميل سعودي» (كان تبادل الشتائم والإهانات من سمات الصراع بين كمال جنبلاط وصائب سلام). كمال جنبلاط كان لا يقصّر في هجاء المملكة السعوديّة التي كانت تدعم الفريق الانعزالي في بداية الحرب الأهليّة: لقد تشارك أعتى الأنظمة الملكيّة في الشرق الأوسط، إيران والسعوديّة والأردن، في تمويل وتسليح ميليشيا الكتائب والأحرار. (كان النظام الأردني يتخصّص في «احتضان» ميليشيا «الأحرار» لما للملك حسين من علاقة وثيقة مع شمعون منذ صراع عام ١٩٥٨ في لبنان والأردن). وجاهر كمال جنبلاط في ذكرى النكبة في ١٩٧٦ بأن «أكثر دول النفط مشتركة في المؤامرة» ضد الشعب الفلسطيني. هذا السجلّ تغاضى عن وليد جنبلاط عندما تحدّث عن لقاء بين كمال جنبلاط والملك فيصل، كأن اللقاء أنهى العداء بين الطرفين. نسي أنه هو أيضاً كان يعيّر صائب سلام بأنه عميل سعودي (كما أنه رمى التهمة نفسها، لا بل زاد عليها تهمة العمالة للعدوّ، ضد رفيق الحريري في فترات انقطاع الدفق المالي عنه). صحيح أن جنبلاط جال على دول الخليج في عام ١٩٧٦، لكنه عاد وأكّد أن الجولة أقنعته بأن «معظم الدول العربيّة لا تريد أن يُقام في لبنان نظام تقدّمي عربي متطوّر» (راجع «النهار»، ٩ أيّار، ١٩٧٦).
يمكن أن يساهم «أمير الكبتاغون» في تحسين العلاقات بين البلدين

وفي بداية الحرب الأهليّة، حاول صائب سلام أن يجرّ المملكة إلى دعمه عبر المجاهرة الدوريّة برفض «المسلمين في لبنان» ــ كأنه كان يتحدّث باسمهم ــ للشيوعيّة واليسار. وطار سلام في بداية الحرب إلى السعوديّة في جولة كان القصد فيها، كما شرح، توضيح طبيعة رفض المسلمين للشيوعيّة. وعاد سلام بدعم وتمويل من المملكة وأنشأ ميليشيا خاصّة به سماها «روّاد الإصلاح»، وتولّى ياسر عرفات تسليح تلك الميليشيا. وكان تمّام سلام («الآدمي»، كما كان يعرّف عن نفسه في الحملات الانتخابيّة في التسعينيات) هو قائد هذه الميليشيا. لكن روّاد الإصلاح لم تمض بعيداً في محاولتها جذب المسلمين لأن أكثرهم كان منضوياً في حركات وتنظيمات يساريّة وقوميّة عربيّة. فشل البديل السعودي عن الحركة الوطنيّة اللبنانيّة، وفشلت السعوديّة في التعويل على القوّات اللبنانيّة وعلى ترشيح بشير الجميّل (السيّئ الذكر).
لكن نهاية الحرب (الرسميّة) في الطائف، خوّلت النظام السوري الإشراف على النظام اللبناني (وبمباركة غربيّة مكافأة للنظام على مشاركته في (وتغطيته لـ) العدوان الأميركي على العراق في ١٩٩١. لكن السعوديّة نالت حصّتها من خلال مواطنها، رفيق الحريري. ولم يتعثّر النفوذ السعودي في لبنان إلا بعدما تعارضت مصلحة النظام السوري مع مصلحة النظام السعودي (ولا ندري إذا كان اغتيال الحريري هو السبب أم النتيجة لذلك التعارض). وأسباب الغضبة السعوديّة متعدّدة: كتب عامر محسن عن استثمار سعودي لم يُفلح. وبالفعل، فإن النظام السعودي أنفق المليارات من الدولارات في لبنان على انتخابات وعلى حملات دعاية وعلى تحويل «فرع المعلومات» إلى ميليشيا قادرة وفاعلة، وتقاطع الإنفاق المالي السعودي مع الإنفاق المالي الغربي ضد الهدف الواحد: حزب الله وكلّ من يشارك في مقاومة العدوّ الإسرائيلي. كما أن النظام السعودي لم يعد في زمن الملك عبدالله حيث كان نصف التسويات مقبولاً: النظام السعودي جذب طاغية السودان من محور إيران إلى محوره هو، وضاق ذرعاً بهذا البلد الصغير الذي لم يتحوّل بالرغم من محاولات سعوديّة لتنصيب زعماء شيعة بدلاء عن حسن نصرالله (ماذا يشكو زعيم «المجلس الإسلامي العربي»، محمد علي الحسيني، والذي أسبغت عليه الحكومة السعوديّة لقب «علّامة»، كما تسبغ على كل رجل دين شيعي يواليها)؟ وهذا الضيق السعودي من الفشل في لبنان يزيد من ضيقه فشل في اليمن وتقهقر في سوريا. الخيارات باتت تضيق أمام النظام السعودي، ومقابلة محمد بن سلمان مع «إيكونوميست» (لم ينطق بها الأمير، بل نطق بها واحد من مستشاريه) لم تحسّن الموقف.
ما يجري أبعد وأكبر من لبنان. الحكم السعودي يريد أن يغلق العالم العربي وبإحكام، ويُغلق عليه ستائرَه. هذا هو السجن العربي الحقيقي. تحقّق لآل سعود بعد الغزو الأميركي للعراق، وبعد الحرب السوريّة ما لم يتحقّق لهم في عقود طويلة: إمكانيّة الإمساك بزمام القرار والسلطة والرأي والمشيئة في كل العالم العربي. كان النظامان العراقي والليبي، بما يملكان من ثروات نفظيّة، قادرين على الحصول على بعض عناصر الإعلام العربي. كان هناك إمكانيّة للمناورة وللتعبير عن آراء قد تتعارض مع مشيئة آل سعود، مع أن النظام الصدّامي (كما النظام السوري الأسدي) تجنّب في تاريخه فتح صراعات مع النظام السعودي الذي موّل حربه ضد إيران. ليس هناك من منافسين لآل سعود في العالم العربي، والحقن الطائفي فعل فعله، وآزرت قطاعات من الرأي العام القيادة السعوديّة، وإن غاب الإجماع. استطلاعات الرأي العربيّة، وخصوصاً تلك التي تعطي وزناً للرأي العام في مصر (أكبر الدول العربيّة من حيث عدد السكّان) ــ خلافاً لـ«المؤشّر العربي» الذي ساوى بين حجم السكّان في مصر وفي الأردن ــ لا تعكس حالة إجماع أبداً. لكن النظام السعودي مصرٌّ على جعل العالم العربي مملكة أكبر للوهابيّة. الطاغية السوداني ابتيع بسعر لا يجاوز أسعار رؤساء لبنان عبر التاريخ، والنظام الجزائري ليس في وضع يؤهّله لرفع لواء المعارضة ضد آل سعود. والرأي العام المصري عبّر عن حقيقة موقفه من آل سعود في تلك الفترة من الحريّة التي تلت سقوط مبارك، لكن أيمن نور (وليد جنبلاط مصر) قاد تظاهرة من الساسة والكتّاب المصريّين في زيارة تملّق وسجود لآل سعود.
الفشل السياسي والعسكري لم يمنع النظام السعودي من تحقيق ما لم يُحقّقه في تاريخه: لم يسبق أن أحكمت المملكة السيطرة على كل مقدّرات العالم العربي كما هو الأمر الآن. لهذا، فإن لبنان، الأقل انغلاقاً وخضوعاً من باقي الدول العربيّة، شوكة يريد آل سعود استئصالها، أو تطويعها ــ بالاشتراك مع العدوّ الإسرائيلي.
من حق ساسة آل سعود في لبنان (هم أحق بتسمية «الجالية السعوديّة في لبنان») أن يضطربوا ويتخبّطوا في محاولة إرضاء آل سعود. والتنافس على أشدّه بين ساسة الفريقين لمراضاة دول الخليج... فالمرشّح الرئاسي الحريريّ، سليمان فرنجيّة (وقد أصبح وسطيّاً) لم يعلّق على كل ما يجري، مع أنه لا يفوّت فرصة للتذكير بالعلاقة التاريخيّة بين «آل فرنجيّة وآل عبد العزيز» (لعلّه يقصد آل سعود). وعبد الرحيم مراد وفيصل كرامي يزايدان في الحرص على العلاقة مع المملكة السعوديّة والكل يُوافق على أنها أنهت الحرب، مع أن «الطائف» تزامن مع تمويل المملكة لتفجيرات نعرف منها (نقلاً عن بوب وودورد في كتاب «حجاب») متفجّرة بير العبد التي أودت بحياة العشرات من اللبنانيّين واللبنانيّات. لكن الأزمة لن تزيد إلا من عمق «العلاقة التاريخيّة» بين آل سعود ولبنان. ويمكن أن يساهم «أمير الكبتاغون» السعودي في تحسين العلاقات بين البلدين، فهو خبير في شؤون لبنان وصناعته. والحكومة السعوديّة أعلنت أن السفر بين البلدين مسموح في حالات «الضرورة القصوى». أليس الكبتاغون من تلك الضرورات؟