إن عمليّة التنقيب في الأرشيف اللبناني والعربي بغية العثور على كمٍّ هائل من المديح للنظام السوري في حقبة حافظ وبشار الأسد عملية سهلة. تستطيع أن تفتح عشوائيّاً صفحة المحليّات من أي جريدة لبنانيّة من التسعينيات حتى عام 2005 وتجد خزانة من المديح والتملّق والثناء والطأطأة من قبل أدعياء «ثورة السيادة والاستقلال» ومن أدعياء دعم «الثورة السوريّة» هذه الأيّام. بقي النظام السوري أم زال، الأرشيف لن يزول وسيستطيع كاتب (وكاتبة) التاريخ العودة إلى الماضي لتوثيق التناقضات والأكاذيب التي ألفناها من الساسة في لبنان.
والأطرف أن ساسة لبنان لا يتقلّبون فقط _ والتقلّب سمة الساسة في مختلف أصقاع الأرض _ لكنهم يتقلّبون من أقصى طرف إلى أقصى الطرف الآخر، ما يسمّى الانقلاب 180 درجة. لا حرج عندهم في رشاقتهم الأيديولوجيّة المتنقّلة. خذ وليد جنبلاط مثلاً: لم يتقلّب فقط، بل تقلّب من رجل يعتبر أن الجيش السوري هو موضع ثقة أكثر من الجيش اللبناني (ألم يرفض تسليم سلاحه الميليشياوي إلا للجيش السوري؟)، إلى رجل يحلّل دم من يقاتل في صفوف هذا الجيش. تقلّب من رجل اعتبر في ربيع عام 2011 أن بشّار يريد الإصلاح وأن الخطر الإسلامي في سوريا حقيقي، إلى زاعق عن «الثورة السوريّة» ونصير لجبهة النصرة نفسها. لكن حالة وليد جنبلاط، وإن كانت متطرّفة من حيث كثرة التقلّب وحدّتها، ليست استثنائيّة.
تعود إلى محطات مفصليّة في تاريخ نظام حكم آل الأسد في سوريا وتكتشف كم من مهرجانات من المديح والتملّق صاحبت تلك المحطة نفسها. وموت باسل الأسد كان واحدة من تلك المحطات. باسل الأسد، مثله مثل كل أبناء (وليس بنات) الحكّام العرب، يولد نابغة. لكن باسل برز أكثر لأنّ جهاز الدعاية في النظام السوري آنذاك جعل منه «الرجل الكامل»: فهو سياسي حكيم وفارس ماهر ومقاتل مغوار وقائد جماهير.
والمناسبات العائليّة لآل الأسد، الحزينة منها والفرحة، كانت دوماً فرصة كي يحج زعماء لبنان وأتباعهم لتقديم واجب الطاعة والولاء. من موت والدة حافظ الأسد إلى موت ابنه باسل: تقاطر زعماء لبنان وأتباعهم ومن كل المشارب السياسيّة والحزبيّة.
وقعت بالصدفة في مكتبة جامعة كاليفورنيا في بيركلي على كتاب بعنوان «باسل حافظ الأسد: منارة الأجيال» الصادر عام 1994. والعنوان يحتوي على مراثٍ كُتبت عن باسل الأسد وجلّها بأقلام ساسة لبنانيّين. ولكن لا يجوز إدراج كلمة رفيق الحريري عن باسل الأسد لأنه _ خلافاً لصناديد 14 آذار _ لم يتفوّه بكلمة في حياته ضد النظام السوري ولم يعترض مرّة علناً على أفعال النظام السوري أو سياساته. على العكس، في حياته لم ينف رفيق أنّه كان مستزلماً لأصغر ضبّاط الاستخبارات الذين كان يتلقّى منهم الأوامر. وحتى عندما كان رفيق يتعرّض للإذلال من قبل رجال الاستخبارات، لم يكن يعترض بكلمة، ولم يكن ولاؤه للنظام السوري ينقص قيد أنملة.
طبعاً، أنتجت الحركة الحريريّة في لبنان سرديّة بطوليّة جديدة عن رفيق الحريري مفادها أنه كان كاذباً: أنه كان يثني على النظام السوري في العلن ويتملّق لقادة أجهزة نظامه فيما كان ينتقد النظام السوري في السرّ أو على متن يخته في البحر المتوسط. يريدوننا أن نصدّق أن الحريري الحقيقي كان حريصاً على سيادة لبنان ومتبرّماً من التدخّل السوري في شؤون لبنان، فيما كان الحريري العلني يؤيّد النظام السوري في كل المحطات، وفيما كان هو يناشد النظام السوري التدخّل في الشؤون اللبنانيّة إلى جانب فريقه وضدّ خصومه المحليّين (ولم تكن الصداقة والخصومة عنده متعلّقتين بالسيادة، بل بشؤون الصفقات التي كان يريد دوماً إمرارها من دون الالتفات إلى القانون أو المصلحة العامّة).
لكنّ لمروان حمادة دوراً مميّزاً. وحمادة، الذي شابت علاقته بوليد جنبلاط بعض الشوائب، لم يختلف مع جنبلاط في تقلّباته التي كانت تعبّر عن مواقفه هو أيضاً. تقلّب حمادة، وهو واحد من أتباع جنبلاط وحاشيته على مرّ عقود، ثم توقّف عن التقلّب عندما انتقل من الحظيرة الجنبلاطيّة إلى الحظيرة الحريريّة. وقد يكون غازي العريضي اليوم يعاني في علاقته بجنبلاط ما عاناه مروان حمادة الذي فقد حظوة التوزير التلقائي. كان الحريري في السياسة اللبنانيّة يعمل وفق مبدأ ياسر عرفات في السياسة الفلسطينيّة: كان لا يمانع في وجود تنظيمات أخرى، لكنه كان يستعمل المال كي يستولي على شخصيّات وقادة داخل المنظمات المُنافسة. وعليه، كان ياسر عبد ربّه (نائب الأمين العام آنذاك) في الجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين وبسّام أبو شريف في الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين وسمير غوشة في جبهة النضال وأبو العبّاس في جبهة التحرير الفلسطينيّة من حصّة ياسر عرفات، وكانوا ينعمون بنعمه ويحظون بشرف مرافقته في سفراته التي لا تنتهي.
وهكذا عمل رفيق الحريري في السياسة في لبنان: كان يبتاع لنفسه شخصيّات ووزراء من حركة أمل ومن فريق وليد جنبلاط ومن كل الأحزاب الأخرى، بما فيها القوّات اللبنانيّة. كان يشتريهم بالمال ويغريهم بالمناصب والسفرات على متن طائرته الخاصّة. لهذا، بات نبيه برّي يتساءل إذا كان محمد عبد الحميد بيضون هو من حصته في الوزارة أو من حصة رفيق الحريري، كما كان يتساءل وليد جنبلاط إذا كان مروان حمادة من حصته هو أو من حصة رفيق الحريري. وينطبق هذا على كثيرين في السياسة اللبنانيّة، وخصوصاً على من كان يُروّج له على أساس أنه «حيادي» أو «مستقل»، وهي الكلمة التي يستعين بها تمام سلام هذه الأيّام لإمرار تعيينات حريريّة المنشأ والهوى (والحيادي والمُستقل يكون دوماً من متلقّي النعم الحريريّة).
مروان حمادة يتناسى ماضياً طويلاً وعريقاً له في مديح حكم آل الأسد. يريدنا أن نصدّق أنه ثائر ومناضل من أجل الحريّة والسيادة. قد يكون هذا ممكناً لو أن حمادة وُلد اليوم ولو أن لا تاريخ سياسيّاً له. ثم نأتي إلى مرثاته لباسل حافظ الأسد.
وكتاب غازي موسى المذكور اسمه أعلاه يتضمّن مراثي ألقيت في باسل الأسد، وفيها طبعاً مساهمات لبنانيّة، مثل رفيق الحريري الذي تحوّل _ من دون علمه _ بعد وفاته إلى رمز لمقارعة النظام السوري. لعلّ أحمد الحريري يقرأ الكلمة تلك قبل أن يصيح متغنّياً بـ«الثورة السوريّة» كي يتبيّن تراث عائلته في الاستزلام للنظام الذي يسعى اليوم إلى إسقاطه.
وكلمة مروان حمادة في الكتاب هي بعنوان «كيف يغيب؟» وهذا نصّها الحرفي:
«غاب الرائد باسل حافظ الأسد ولكن روحه لم تغب. غاب، ولكن شبابه استمرّ في شباب العرب. غاب، ولكن شجاعته بقيت تنمو في قلب كل واحد من أبناء حافظ الأسد. غاب، ولكن فروسيّته ظلّت تمتطي التحديّات. تقود خطى الجيل العربي الواعد. غاب، أما حسّه الإنساني والاجتماعي فماثل في أعماقنا لا يمحوه الزمن ولا العوادي. غاب، أما ريادته فستتواصل في المثل والقيم التي تشبّع منها وأشاعها في مجتمعه وأمته. إذا كان لغياب باسل الأسد هذا المعنى، فهل غاب فعلاً؟ بالطبع لا. أمثال باسل يغيبون مادة فقط. لأنهم عندما يرحلون يزداد حضورهم ويتعاظم تأثيرهم وينسحب مثلهم ليشكل منارة طموحات أجيال الشباب العربي. نحن لن نبكيك يا باسل لأنك لم ترحل. لن نبكيك لأن في رحم كل عربيّة قطعة منك مصيرها أن تزهر يوماً. لن نبكيك لأن أمة عزيزة لا تبكي على نفسها إنما تستمدّ من المصيبة قوة ومنعة وحياة تجدّد. أما أنتم يا سيادة القائد فلستم وحدكم في هذا المصاب. وثقوا أن كل شاب من شباب العرب هو باسل آخر وآخر. فيكف يغيب؟ وكيف تخبو نار العروبة الخالدة؟».
الكلمة بحد ذاتها ليست مفاجئة لعلمنا وعلمكم (وعلمكنّ) بتراث حمادة السياسي، لكن المفاجأة في التطرّف في التملّق والإفراط في المديح والتكسّب.
هذا ما قاله مروان حمادة عن باسل حافظ الأسد. وقد تقيّاً مديحاً عبر السنوات عن قادة النظام السوري، كذلك فإنه كتب ونطق مدائح عن بشّار الأسد. لكن مروان حمادة تعلّم السياسة على يد وليد جنبلاط، حيث انعدام المبادئ هو رأس الحكمة والحنكة، وحيث التقلّب بناءً على حسابات مصالح ماديّة ومعنويّة يطغى على غيره من العناصر. وتدرّج حمادة في السياسة بعد ذاك في مدرسة رفيق الحريري، حيث يقول المرء الشيء في العلن، ويقول عكسه في السرّ.
مروان حمادة ظهر على حقيقته في «ويكيليكس»: الرجل الذي اعتنق البعثيّة الأسديّة في سنوات حكم النظام السوري في لبنان تحوّل (أو كان في الأساس، وإن في السرّ) حريصاً على المصالح الصهيونيّة _ الأميركيّة في لبنان. لكن كتابة المراثي عن أفراد عائلات الطغاة العرب هواية وحرفة عند وليد جنبلاط، الرجل الذي مهّد لعودته إلى حضن الرياض عبر كتابة مرثيات في كل مَن مات من آل سعود، من الأميرة سيطة (التي بكاها بحرقة الخنساء) إلى الأمير سطّام، الذي حرص على تقديم واجب العزاء به شخصيّاً.
نظلم مروان حمادة لو رأينا فيه نموذجاً فريداً في السياسة اللبنانيّة، لأنه في الواقع نتاج فاقع للنفاق والرياء في هذه السياسة.
لكن مشهد حمادة (الذي حمل خريطة بمواقع شبكة اتصالات حزب الله وجال فيها على عواصم الدول _ الصديقة لإسرائيل) وهو يعظ في شؤون الديموقراطيّة أو يفتي في أمور «الربيع العربي» أو ينطق كراعٍ لـ«الثورة السوريّة» مُنفّر أكثر من العادة. كلّما نطق حمادة هذا عن «الثورة السوريّة»، اسألوه: أنتَ ماذا قلت في رثاء باسل حافظ الأسد؟ هات أسمعنا.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)