يرد مصطلح «التطبيع» في مجالات عدة مختلفة تخدم سياقات متشابهة: ففي علم الاجتماع، يعني «التطبيع» العمليات الاجتماعية التي تتحوّل فيها الأفكار والأفعال والسلوكيات (التي قد تكون غير مقبولة سابقاً أو مستهجنة) إلى أمر «طبيعي» ومقبول وعادي، وجزء من الحياة اليومية للناس ضمن منظومتهم القيمية/ الاجتماعية. أما في الدبلوماسية وعالم العلاقات الدولية، فـ«التطبيع» يعني عودة العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية وغيرها بين دولتين كانتا قبل ذلك في حالة حرب أو عداء أو انقطاع للعلاقات بينهما، أو لم تتمتعا بأية علاقة كانت. وفي العربية، تستعمل كلمة التطبيع أيضاً في سياق التعامل مع الخيل بمعنى: الترويض وتهيئة الحصان ليتقبّل راكبه ويطيعه.
أول دخول لهذا المصطلح في سياق العلاقة مع «إسرائيل» في المنطقة العربية كان إثر توقيع معاهدة «كامب ديفيد» بين نظام أنور السادات في مصر والكيان الصهيوني عام 1979، وبرعاية من الولايات المتحدة الأميركية التي وُقّعت هذه المعاهدة تحت إشرافها الكامل، والتي استمرّ النظام الحاكم في مصر في الحفاظ عليها وعلى ما ترتّب عليها من نتائج تحت رئاسة حسني مبارك، وفي حقبة محمد مرسي والإخوان المسلمين. كنتيجة مباشرة للمعاهدة، جرى «تطبيع» العلاقات بين «البلدين» (بالمعنى الدبلوماسي)، ومحاولة استئناف العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية والتجارية والسياحية وغيرها، مما أدى إلى ظهور مباشر لحركة «مناهضة التطبيع» كردّ فعل في الأوساط الشعبيّة، والثقافيّة، والحزبيّة المُعارضة، التي رفضت إقامة علاقات من أي نوع مع «إسرائيل» على أي مستوى، ودانت وجرّمت (معنويّاً) أي اتصال أو تعاون ومن أي نوع كان مع «إسرائيل» كنظام أو مؤسسات (حكومية كانت أو «مدنيّة»)، أو على مستوى الأفراد.
مع فصل مصر من جامعة الدول العربية إثر توقيع اتفاقية «كامب ديفيد»، ومقاطعتها نسبيّاً على المستوى العربي، ظلت مقاومة التطبيع ومفرداتها ومفاهيمها محصورة في القطر المصريّ ولم تتجاوزه على نحو مؤثر إلى غيره من الأقطار العربية لانحصار الممارسات التطبيعية داخل مصر في حينه، لكن مع انطلاق أعمال مؤتمر مدريد للسلام (1991) الذي حضرته منظمة التحرير الفلسطينية وحكومات دول الطوق (سوريا، لبنان، الأردن) والراعيين (أميركا والاتحاد السوفياتي) لإطلاق عملية «السلام» مع «إسرائيل» التي كانت حاضرة أيضاً، ولتمهيد الطريق أمام توقيع معاهدة أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية (1993) ومن ثم معاهدة وادي عربة مع النظام الأردني (1994)، وخروج العلاقات التي جمعت النظام الرسمي العربي بالمؤسسات الصهيونية من ضبابية السرية إلى وضوح العلن، وتحوّل «إسرائيل» على الصعيد الرسمي العربي إلى «شريك» أو «صديق» في أسوأ الأحوال، بما في ذلك افتتاح ممثليات دبلوماسية أو تجارية لها في كثير من العواصم العربية، والمجاهرة بإقامة علاقات تجارية أو سياسية أو ثقافية أو غيرها في أخرى، أو إلى دولة معترف بها على حدود الأراضي المحتلة قبل عام 1967 مع عدم التحرّك لاستعادة الأراضي المحتلّة الأخرى ضمن هذا المنطق (الضفة الغربية، غزة، شبعا، الجولان، وغيرها) والقبول بـ/ والمحافظة على «الأمر الواقع» في أحسنها؛ مع كل هذا، تحوّل التطبيع في تسعينيات القرن الماضي من المستوى الرسمي والمجال السياسي (الذي كان مطبِّعاً في الأساس قبل كل تلك الاتفاقيات والمعاهدات) إلى قضية عمّت المنطقة العربيّة كاملة بكامل مستوياتها، وصارت مفردات مقاومتها جزءاً يومياً من النضال الشعبي لكل شعوبها، إذ صار تحدّي التطبيع تحديّاً عاماً يطل برأسه في كل مكان: من القطاع السياحي، ومن التجارة والمنتجات الاستهلاكية، ومن مهرجانات الأفلام واللقاءات الثقافية، ومن الصحافة والإعلام، ومن المجال السياسي ذاته طبعاً.
ورغم هذا التاريخ الطويل لحركة مقاومة التطبيع، إلا أن المادة النظرية/ المفاهيمية المتعلّقة بها، التي يمكن على أساسها بناء المواقف والأولويات والإجابة عن الأسئلة، نادرة. وبينما يرتكز عمل لجان مقاومة التطبيع على تعريفات مبتسرة وسطحية وتسووية الطابع، مهتمة أكثر بنقاط التوافق بين مكوّناتها السياسية والإيديولوجية، يغيب الفهم العميق لماهية المشروع الصهيوني نفسه، وبالتالي بناء تعريف مفاهيمي يرتقي بكلمة التطبيع من خانة «الشتيمة» إلى خانة «المفهوم المعرفي»، ويعمل على الانتقال بمقاومة التطبيع من خانة «رد الفعل» الانفعالية والميكانيكية إلى خانة «الفعل» الذي يحتكم بشروطه لا بشروط خصمه، ويقدر – بناءً على ذلك - على التأسيس للمستقبل. هذا ما ستحاوله هذه الوثيقة.

من ردّ الفعل إلى الفعل الممنهج

في سياق تحوّل الأنظمة الرسميّة العربية من صيغة لاءات قمّة الخرطوم الشكليّة (1967) في التعاطي مع «إسرائيل» (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) إلى صيغة الانخراط المتسارع والفعليّ في المشروع الصهيوني، فإن الحال يستدعي تعميق تعريف التطبيع ومقاومته، والانتقال به من حالة ردّ الفعل المرتبط بمواجهة النتائج (أي مواجهة العلاقات الناتجة عن معاهدات «السلام» ومرحلة الاعتراف الرسمي بـ«إسرائيل» مثل العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والثقافية والرياضية وغيرها)، إلى مواجهة المسبّب ذاته، وهو هنا المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني ودولته.
ولنوقف الانزياح عن الجوهريّ باتجاه ما هو فرعيّ، فالجوهري في تعريف التطبيع هو: الاعتراف بشرعية الكيان الاستعماري الاستيطاني الصهيوني المسمى «إسرائيل»، وشرعية مشروعه، وشرعية الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، والتعاطي معها على أنها جميعها أمر طبيعي أو مسألة تحتّمها «الواقعية السياسية» أو أي مبرّر آخر. «إسرائيل» لكونها التشكل الماديّ للاستعمار الاستيطاني الصهيوني تمثّل ظلماً لا يمكن القبول به لمجرّد وجوده، حالها في ذلك كحال الموقف من أي نوع من أنواع الظلم كالعبوديّة والاستغلال وغيرهما، فكيف إن أضفنا إليها سلسلة طويلة من المذابح والاعتداءات، وارتباطاتها مع القوى الإمبريالية والاستعمار، وتوسعيّتها ومحاولتها الهيمنة على محيطها، بل وأدائها دوراً مسانداً للأنظمة القمعية والديكتاتورية في العالم (جنوب أفريقيا، العديد من أنظمة دول أميركا الوسطى والجنوبيّة، وغيرها)؟
هكذا نستطيع القول إنّ التطبيع يتمثّل مادياً بمساحة كبيرة من المواقف السياسية والممارسات المختلفة التي تبدأ من الاعتراف (المباشر أو غير المباشر) بشرعية المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني و/ أو القبول بقيام الدولة الصهيونية على أي مساحة مهما كانت من أراضي المنطقة العربية المحتلة منذ الاستعمار البريطاني/ الفرنسي؛ وتمتدّ لتشمل أية علاقات (مثل العلاقات الاقتصادية أو السياسية أو الثقافية أو الرياضية أو غيرها) مع هذا الكيان أو مؤسساته أو أفراده، أو الترويج له بأشكال مختلفة، أو الدعوة إلى التعايش معه والقبول به كأمر واقع، أو أية ممارسات أخرى تشرعن «إسرائيل» ومؤسساتها وتدخلها كمكوّن «طبيعي» ومقبول في نسيج المنطقة.
وتكتسب الأفعال المترتّبة على نتائج «معاهدات السلام» أو مستحقّاتها، «قيمة» تطبيعية أكبر، مثل أخذ تأشيرة دخول (فيزا) من السفارات «الإسرائيلية». فمثل هذه الأفعال تعترف بِـ وتؤكد (بشكل مباشر وغير مباشر) على شرعيّة «إسرائيل» وسيادتها على الأراضي التي استعمرتها، وبالتالي أحقيّتها في إعطاء تأشيرات الدخول إلى هذه الأراضي (كعمل سياديّ)، وفوق ذلك يمثّل أخذ التأشيرة «الإسرائيلية» قبولاً مباشراً بمعاهدات «السلام» ونتائجها، فلولا مثل هذه المعاهدات لم تكن السفارات والممثليّات لتوجد في العواصم العربيّة، ولم تكن «سلطة أوسلو» (المنزوعة السلطة في الواقع) لتوجد كوكيل عن الاستعمار الصهيوني في بعض مناطق الضفة الغربية، ولم يكن مواطنو الدول العربيّة ليستطيعوا أخذ مثل هذه التأشيرات والتصاريح لدخول الأراضي المحتلة عامي 1948 و1967 من الأساس (باستثناء بعض الفلسطينيين ممن كانت لهم عائلات في الاراضي المحتلة عام 1967 ممن كانوا يستطيعون استصدار «تصاريح احتلال» خاصة لهم للزيارة). هذا إضافة إلى القيمة الدعائية التي تكسبها «إسرائيل» عبر الادّعاء بأنها دولة «ديمقراطية» و»منفتحة» تمدّ ذراعيها للجميع بينما يرفضها الآخرون «المنغلقون»، وفوق ذلك فإن هذه الممارسات تفتح الباب رويداً رويداً في الفهم الجمعيّ للناس، وعلى مدار فترة تاريخية أطول، لتحوّل «إسرائيل» (من خلال زيارتها) إلى أمر «طبيعي» ومقبول.
بهذا المعنى، تتساوى مقاومة التطبيع مع مقاومة الصهيونية والمشروع الصهيوني. كلاهما مصطلحٌ يفيد المعنى ذاته، لكن مفهوم مقاومة التطبيع يشير أكثر إلى التحوّلات التي نشأت في فترة «السلام» والعلاقات العلنيّة للأنظمة العربيّة مع «إسرائيل»، وانزياح هذه العلاقات عن المستوى السياسي فقط (أثناء العلاقات السريّة) إلى كافة المستويات الأخرى، ويؤكد على الطبيعة «الشعبيّة» والاختراقيّة الأعمق للتطبيع، وعملها على مستوى تزوير الوعي والذاكرة الجمعيّة والتاريخ، بالإضافة إلى أن لا طبيعية الكيان الصهيوني الناتجة عن التقسيم الاستعماري للمنطقة العربية تحيلنا أيضاً على لاطبيعية الكيانات القُطرية الناتجة عن نفس التقسيم، والعلاقة العضوية التي تجمع كل هذه الكيانات بعضها ببعض ككيانات وظيفيّة مفرغة من امكانيات التحرّر وتابعة للقوى الإقليمية والدولية (بنى الهيمنة)، وهو ما يؤكد بدوره على ضرورة ترابط العمل على هذه السياقات والعوامل الداخلية والخارجية بسبب تشابكها العضوي، ويجعل من الضروري تقديم خطاب متكامل يقدم رؤية لا تتناقض مستوياتها المختلفة مع بعضها البعض، وتوضح ترابط بنية الاستعمار الخارجي مع الهيمنة الداخلية، وتقدم نقداً شاملاً لإفرازات بنية الهيمنة هذه وأدواتها المتناقضة بكليّتها مع العدالة ومصالح المجموع الاجتماعي.
لذلك كله فإن مفهوم «التطبيع» ومقاومته أشمل وأعمق، وأكثر ارتباطاً بواقعنا المعاصر، ويحيلنا لا على الصهيونية بشكلها المنفصل المجرّد، بل على الصهيونية والاستعمار والامبريالية معاً، وارتباطهم الوثيق، وافرازاتهم الجغرافية والسياسية والهوياتية والفكرية.

ما هي «الصهيونية»؟

تتلخّص أعمدة خطاب التأسيس والتثبيت المشرعِن للحركة الصهيونية في ثلاثة أمور جميعها مفبركة: الأوّل العمل على تحويل الدين اليهودي (الذي ينتمي الأفراد المعتقدون به ـــ مثلهم مثل المعتقدين بأية أديان أخرى أو أولئك الذين لا يعتقدون بأي دين - إلى مروحة واسعة من القوميات والاثنيات والخلفيات والمرجعيات الفكرية والسياسية والهوياتيّة) إلى قوميّة ذات أصل عرقيّ واحد وتاريخ مشترك...إلخ، الثاني ادّعاء التمثيل الحصري لليهود واليهوديّة (رغم وجود جماعات يهودية متديّنة وعلمانية ترفض الصهيونية)، وتتساوى بذلك الصهيونية مع الأصوليات الدينية التي تدّعي لنفسها تمثيلها وحدها للدين، وصوابيّة تفسيرها الحصريّ للنص الديني، وتنفي تنوّع وتعدّد القراءات والتأويلات والتفسيرات والمذاهب داخل بنية الدين الواحد، وتجعل منه ظاهرة ما فوق تاريخية، الثالث الاستناد إلى فهم محدّد وحرفيّ للمقولات الأسطورية التوراتية (التي لا أساس حقيقي لها في الواقع) في سياق تبرير الحق التاريخي في الاستعمار الاستيطاني وإبادة السكان الأصليين (وهي بالمناسبة ذات المفاهيم التوراتية التي استعملها المستعمرون البيض الأوائل في الأميركيتين)، وتحويل الرواية التوراتية الأسطوريّة إلى رواية تاريخية.
هذه هي الأعمدة المفبركة التي يسقط في فخّها الكثير ممن يُشغلون بمقاومة الصهيونية والتطبيع، بينما تقوم تصوّراتهم الردّ – فعليّة بتعزيز المشروع الذي يراد مواجهته. فالقول (مثلاً) إن الصهيونية تساوي اليهودية، وإنهما وجهان لعملة واحدة، يعزّز مقولات الصهيونية الثلاث جميعها: فيؤكد النظر إلى اليهودية كقومية لا كدين يتوزّع أفراده على كل القوميّات والخلفيّات الفكريّة، ويؤكد تمثيل الصهيونية الحصريّ لليهود (رغم خطأ ذلك)، ويعزّر الفهم المحدّد والحرفيّ للمقولات الأسطورية التوراتية ويتبنّى تاريخيّتها المزوّرة رغم وجود تيارات إصلاحية وتفكيكية كبيرة داخل اليهودية والمسيحية لا تفهم النص الديني بحرفيّته، هذا بالإضافة إلى النقد العلمي/ العلماني الذي يأتي من خارج النص الديني لا من داخله. وفق ذلك، سيؤدي الموقف العدائي من اليهود بصفتهم يهوداً، إلى دفع المزيد منهم إلى أحضان الصهيونية، بدلاً من العمل على العكس.
الحركة الصهيونية حركة براغماتيّة، ولا مشكلة لديها في العمل على، وترويج، عناصر ليست أساسية فيها: فهي لا تجد مشكلة في توظيف القومية من جهة، وتوظيف الدين والخرافات الدينية من جهة أخرى، رغم أنها قامت أصلاً على أكتاف غير المؤمنين والعلمانيين (بن غوريون وموشيه دايان مثلاً)، وكان خيار تأسيس مشروعها في الجنوب الغربي لبلاد الشام واحداً من عدّة بدائل جغرافية أخرى في مناطق أخرى من العالم، مما يعني أن آباء الصهيونية المؤسسين كانوا واعين تماماً للتزوير الذي تقوم عليه أطروحتهم؛ إلا أن هذه الطروحات البراغماتية تنكشف تماماً عند فحص تناقضات المجتمع «الإسرائيلي» الداخلية: الصراع الشديد بين العلمانيين والمتديّنين، والتمييز السافر بين «الإسرائيليين» البيض (الأوروبيين) واليهود الملوّنين (العرب والأفارقة)، ووجود مستعمرين من غير اليهود (من الروس تحديداً)، كل هذا يدحض فكرة أن العامل الموحّد للمجتمع «الإسرائيلي» هو الدين اليهودي، ويؤكد على أن الرابط الاستعماري الاستيطاني هو الأساس (مع ما تفرزه الرأسمالية من واقع طبقي داخل مجتمع المستوطنين أنفسهم، وهو واقع لا يلغي حقيقة أن جميع تلك الطبقات هي جزء من مشروع الاستعمار الاستيطاني بكليّته)، وأن الحركة الصهيونية هي في الأساس حركة استعمار استيطاني مرتبطة عضوياً بالبنى الاستعمارية والامبريالية والرأسمالية، وأن هذا هو العامل الأكثر أهمية في مواجهة مشروعها وتفكيكه من حيث أخلاقيته وشرعيته أولاً، وفعاليته ثانياً.
لهذا تعمل الصهيونية على نحو حثيث على تحويل مقولاتها المزوّرة إلى حقائق «طبيعية»، وصرف النظر عن الأساس الموضوعي للصهيونية من خلال تطبيع النسخة المزوّرة من «الحقائق» والمفاهيم والأسس، مما يضمن الانتقال من مستوى تفكيك هذه الأخيرة، إلى مستوى مناوشة النتائج المترتّبة عليها، مع ملاحظة الفارق النوعيّ الكبير بين الأمرين، وهو ما يؤدي إلى استبباب القواعد التأسيسية للصهيونية وتحويل النظر إلى مفرزاتها فقط.

منظومة التطبيع الاقتصادية: الاستعمار والامبريالية والرأسمالية

علينا ألا ننسى أن الاستعمار (البريطاني والفرنسي) كان هو العامل الأساسي في إنشاء «إسرائيل» ودعمها كقاعدة استعمارية متقدّمة له في سياق سعي الاستعمار لنهب موارد الدول المستعمَرة لصالح اقتصادها الرأسمالي، ولفتح أسواق جديدة لمنتجات وسلع هذا الاقتصاد، وحيث إن المنطقة العربية تمتلك أهمية جيواستراتيجية كبيرة في ما يتعلق بطرق التجارة العالمية البريّة والبحريّة، وتمتلك احتياطيّات كبرى من النفط – عصب الاقتصاد الرأسمالي المعاصر -، فقد أُنشئت «إسرائيل» في قلب المنطقة العربية، لتكون، من جهة، قاعدة استعمارية متقدّمة للحفاظ على المصالح الاستعمارية والتدخل العسكري أو السياسي المباشر من أجل ذلك، ولتشكل، من جهة أخرى، ضامناً لإدامة تبعيّة المنطقة عبر إعاقة تحرّر شعوبها، وهو ما يؤكد أن «إسرائيل» هي دولة وظيفية مرتبطة عضوياً بالاستعمار والقوى العالمية المهيمنة في سياقها الرأسمالي، ولهذا لم يكن مستغرباً أن تتحوّل الحركة الصهيونية و«إسرائيل» من الحاضنة البريطانية (قبل وبعد الحرب العالمية الأولى) إلى الولايات المتحدة (بعد الحرب العالمية الثانية) مع صعود هذه الأخيرة كأكبر قوّة إمبريالية في العالم، وليس مستغرباً أن الدعم العسكري والمالي والسياسي لـ«إسرائيل» تضطلع به الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي على نحو خاص، ولن يكون مستغرباً إن تحوّلت «إسرائيل» في المستقبل إلى جزء عضوي من إمبريالية أخرى في حال تغيّر ميزان القوى العالمي.
علينا أن نلاحظ محاولات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المستمرة لدمج «إسرائيل» اقتصادياً في المنطقة لهذا الغرض، من خلال تعزيز وتشجيع التجارة البينية، واتفاقيات التجارة الحرة والمدن الصناعية، والتصدير من خلال الموانئ الاسرائيلية، ومشاريع البنية التحتية الكبرى مثل قناة البحرين وشبكات الكهرباء والغاز وسكك الحديد وغيرها. إن محاولة «إسرائيل» التحوّل إلى المحور الاقتصادي الأكبر والمحوري في المنطقة العربية وما بعدها (ما سمّته الولايات المتحدة: الشرق الأوسط الأوسع) من خلال إخضاع المحيط اقتصادياً وتحويله إلى مخزن للعمالة الرخيصة (اتفاقيات التجارة الحرّة والمدن الصناعية المؤهلة QIZs مع الأردن ومصر والسلطة الفلسطينية على سبيل المثال) ومنفذ استهلاكي للتسويق السلعي يشير على نحو مباشر إلى مسألتين: الأولى هي مركزية المنظومة الاستغلالية/ الهيمنية الرأسمالية بالنسبة لـ«إسرائيل» ووضعها هي نفسها كجزء فاعل من هذه المنظومة على المستوى العالمي، الثانية أن رؤية «إسرائيل» لمحيطها الحيوي المباشر تتعدى حدودها الميثولوجية (من النيل إلى الفرات) إلى منطقة تمتد من المغرب على الأطلسي إلى آسيا الوسطى شرقاً، وهو ما يفسّر التنافس الشرس بين القوى الإقليمية الثلاث («إسرائيل»، تركيا، إيران) في مدّ النفوذ في هذه المساحة.
كل هذا يؤدي بنا إلى القول بأن مواجهة المشروع الصهيوني والتطبيع، تعني مواجهة الرأسمالية أيضاً، من حيث أن الأولى هي جزء لا يتجزأ من بنية الثانية.

التطبيع والتمويل الأجنبي

«الاندماج [الاقتصادي] الإقليمي يمنع النزاعات من خلال جعل الشركاء التجاريين معتمدين أكثر على بعضهم البعض»، هذا ما يرد حرفيّاً في «استراتيجية التعاون التنموي مع الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أيلول 2010 – كانون الأول 2015» لوكالة التنمية الدولية السويدية (SIDA) التابعة لوزارة الخارجية السويدية، هذه الاستراتيجية التي تركز على مشاريع المياه الإقليمية الكبرى العابرة للحدود (مع «إسرائيل» طبعاً)، وعلى دمج «إسرائيل» اقتصادياً في المنطقة العربية، كمقدّمة أساسية لتصفية قضية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وتطبيع «إسرائيل» في المنطقة العربية (بلغة وكالة التنمية السويدية: «منع النزاعات» كما يرد أعلاه)، وكمقدّمة لإلحاق المنطقة تماماً بالسوق الرأسمالية العالمية (بكلمات وكالة التنمية السويدية: «الاندماج [الاقتصاديّ الاقليمي سيكون، خطوة باتجاه الاندماج في السوق العالمية»).
الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC) تضع ضمن أولوياتها لمنطقة «الشرق الأوسط» تحقيق «سلام مستدام» ودعم «الوسائل السلميّة لحل النزاعات»، والإشارات واضحة إلى «إسرائيل»، فمع من سيتم تحقيق «السلام» وحلّ «النزاع» في منطقة «الشرق الأوسط» إن لم يكن الأمر متعلّقاً بإسرائيل؟
جئنا بهذين المثالين من دولتين لهما تأثير سياسي قليل (السويد وسويسرا) للبرهنة على أنه حتى مثل هذه الدول «الصغيرة» ذات التأثير القليل، تدفع بكامل قوّتها باتجاه إدماج «إسرائيل» في المنطقة وتطبيعها (من خلال المشاريع المشتركة، التعاون والتواصل عبر الحدود، مبادرات السلام، مبادرات حل النزاعات، التعامل مع «الإقليم» كوحدة واحدة متكاملة). فإذا كان هذا حال المنظّمات التمويلية التابعة للدول «الصغيرة»، فكيف الحال إذا مع الممولين الكبار مثل الـUSAID التابعة للخارجية الأميركية، أو الاتحاد الأوروبي ومؤسساتها الكبرى مثل مؤسسة آنا ليند التي تعلن بكل وضوح أهدافها التطبيعية؟
معظم وكالات التمويل والمعاهد الثقافية تتبع لوزارات الخارجية في بلادها (SIDA، USAID، SDC، CIDA، British Council، Institute Francis، وغيرها) وبالتالي فهي جزء من ذراع السياسة الخارجية لبلدانها التي تدعم «إسرائيل» بالمطلق وفي كل المحافل وتحت كل الظروف. أما المؤسسات الألمانية (فدريدرش ناومان، فريدريش إيبرت، هاينرش بول، روزا لوكسمبورغ) فهي تتبع الأحزاب الألمانية (الديمقراطي الحر، الاجتماعي الديمقراطي، الخضر، اليسار) وجميعها يدعم «إسرائيل» ويقبلها وبالمشروع الصهيوني الذي أنتجتها.
لا نسمع شيئاً من هذه الجهات عن الاستعمار الاستيطاني والتوسعية والعدوانية والقتل والتشريد والمذابح والهيمنة، كل ما نسمعه منها هو عن «السلام» و«حل النزاعات» و«التعايش» و«مدّ الجسور» و«الدمج الاقتصادي» و«مشاريع البنى التحتية المشتركة» والمشاريع الثقافية المشتركة. إن هؤلاء المموِّلين (والجهات التي تأخذ الأموال منهم وتنفذ مشاريع بالتعاون معهم) لا يوزّعون الأموال هكذا دون تبعات، فكلّهم يعملون وفقاً لاستراتيجيّات مكتوبة وواضحة في ما يتعلّق بمنطقتنا، وبالتالي فهم يشاركون بشكل كبير بإعادة انتاج المنطقة ودمج «إسرائيل» فيها بالمعنى البنيوي وعلى الصعد الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتشكيل فئات مرتبطة مالياً بالمموّلين، بما يؤدي إلى إنتاج تبعية اقتصادية كبرى داخل المجتمعات لا تستطيع الانفكاك عن المموّلين (الضفة الغربية كنموذج واضح على هذا الأمر)، وبنفس الوقت، يعمل التمويل على تدمير محاولات انجاز استقلالية مالية للمشاريع المحلية لأن التمويل – وببساطة - موجود من الخارج، وهو ما يؤدي إلى المزيد من التبعية.
التمويل الأجنبي إذاً هو جزئية داخل بنية التطبيع الكبيرة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والجيوسياسية التي شرحناها سابقاً، بل إنها أكبر أثراً لأنها تعتمد على انتاج التبعية المالية المباشرة، وبالتالي تأبيد الهيمنة، ووأد محاولات إنجاز المشاريع بشكل مستقل، وتعمل على تطبيع «إسرائيل» من خلال مسارات عميقة (نفسية، اجتماعية، ثقافية) تعمل على مستويات الوعي والخطاب. وهكذا فإن مقاومة التمويل الأجنبي هو جزء لا يتجزأ من مقاومة التطبيع.
بين مقاومة التطبيع، ومقاطعة «إسرائيل» وداعميها
المقاطعة ليست استراتيجية عمل. المقاطعة آلية – قد تكون واحدة من ضمن آليات أخرى كثيرة - لتحقيق استراتيجية. الاستراتيجية نأخذها من مقاومة التطبيع، وفي حالة «إسرائيل»، ينبغي أن تكون الاستراتيجية هي إنهاء الظلم التاريخي الناتج عن المشروع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني، أي تصفيته. هذا يتطلب جهداً أممياً/ دولياً على صعيد القوى المناهضة للظلم والاستعمار والامبريالية، لأن مواجهة «إسرائيل» تعني وبالضرورة مواجهة القوى الدولية الكبرى المساندة لها والمرتبطة بها عضوياً (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على نحو أساسي)، ومواجهة النظام الاقتصادي الاستغلالي الهيمني الذي تمثله (الرأسمالية). لن تستطيع قوى محلية الطابع هزم «إسرائيل» ومَن هم وراءها. «عولمة المقاومة» في مواجهة المشروع الصهيوني هي ضرورة، لكن الضروري أيضاً تحديد الهدف الذي تريد تحقيقه هذه المقاومة: تصفية المشروع الصهيوني، لا الوصول إلى تسويات معه (حل الدولتين، حل الدولة الثنائية القومية، حل الدولة الديمقراطية العلمانية).
حملات المقاطعة العربية والدولية تحوّل مواجهة «إسرائيل» إلى مسؤولية فرديّة/ اجتماعيّة من جهة، وعالمية من جهة أخرى، وهذا أمر هام جداً، لكن إشكاليتها الكبيرة هي انحصارها في العمل على الأداة (المقاطعة) دون العمل على تبني استراتيجية جذرية واحدة هي التي أشرنا إليها أعلاه، وهذه نقطة ضعفها. ولهذا فلا تعارض بين المقاطعة ومقاومة التطبيع إن تبنّت حملات المقاطعة مفاهيم واستراتيجيّات مقاومة التطبيع الموضّحة في هذه الورقة، وهذا ما نشجّعه.
* كاتب أردني (هذه الورقة هي إحدى وثائق «مسار تحرري»: http://taharruri.net)

** يودّ الكاتب أن يشكر أحمد الشولي، ومجد محسن، وثريا الريّس، ونضال الزغيّر، ورامي أبو جبارة، وأيضاً المشاركين في الندوة والورشة حول مقاومة التطبيع التي أقامها «مسار تحرري» يومي 2 شباط و8 آذار 2013، لمساهماتهم المباشرة وغير المباشرة في هذه الورقة.



مسار تحرري – مقتطف من الوثيقة الأساسية

من أجل نضال وحدويّ طبقي لادينيّ عابر للوطنيّات والقوميّات: على النضال في منطقتنا (التي سنصطلح على تسميتها «المنطقة العربية» لتسهيل التصوّر الجغرافي لها لا أكثر) أن يتجاوز فكرة الهوية الوطنية أو القومية أو الدينية أو الطائفية بالكامل، الوحدة التي يجدر الحديث عنها وعن إنجازها هي وحدة المضطهدين، خارج هذا التعريف، فإننا نجد أن فكرة تأسيس الهوية على «القومية» أو «العروبة» أو «الوطنية» أو «الدين» أو «الطائفة» هي مجرد فكرة ضبابية تميل إلى الشوفينية وتؤدي إليها في نهاية المطاف. الفكرة من مشروعنا هو إنهاء هذه الشوفينيات والسجون الهويّاتية، والعمل من خلال ممارسة نضالية لادينية عابرة للقُطريات والقوميات على حد سواء، هكذا نتغلّب على المنطق التفتيتي الذي لا يكتفي بتقسيم العرب إلى سنة وشيعة ومسلمين ومسيحيين، بل يستخدم أيضاً التناقضات «القومية» بين العرب والفرس، وبين العرب والأتراك، وبين العرب والأكراد، وبين العرب والأمازيغ، وهكذا. وظيفة هذا المشروع هي تجاوز هذا المنطق بالتحديد. الحديث إذاً عن «وحدة عربية» سيكون خارج السياق. يفترض بنا الحديث عن «وحدة الشعوب المضطهدة» أو «وحدة الفئات المتضررة» في صيغة نسترجع فيها ما تم تفتيته كنتيجة للخطاب «القومي» و«الديني» و«الطائفي». إننا نرى أن الصراع في المنطقة العربية ضد الامبريالية وأدواتها وحلفائها من الصهيونية ونظم الحكم القُطرية هو صراع ضد منظومة متكاملة تنتج الاستغلال الذي ترزح شعوب المنطقة تحت وطأته، صراع عليه أن يكون دائم التجدد موضوعيا لضرورات العمل الشعبي المشترك العابر للأديان والطوائف والقوميات والاثنيات والوطنيات نحو التحرر، وهو ما يمثل مساهمتهم الإنسانية الملتحمة مع حركات التحرر والنضال العالمية في خلخلة قواعد النظام الرأسمالي الذي يقبع على صدور كل البشر كناظم لآليات الاستغلال والإفقار وإدامتها.