راهناً، يمكن ملاحظة استعداد الموالاة السنية في البحرين لأداء دور معارض للنظام في محطات عديدة، لعل أحد تجلياتها برودة الترحيب، بل القلق من تعيين ولي العهد سلمان بن حمد آل خليفة نائباً أول لرئيس الوزراء، علماً بأن الشيخ سلمان مهيأ، نظرياً ودستورياً، في أية لحظة لتسلّم زمام السلطة.وينظر إلى ولي العهد في الغرب وفي أوساط الجمعيات المعارضة البحرينية باعتباره شخصية معتدلة، لذا سارعت «الوفاق» الشيعية، كبرى جمعيات المعارضة، إلى الترحيب بتعيينه وبحرارة بالغة بعد ساعات عديدة من إصدار الملك حمد أمره بذلك في 11 آذار/ مارس 2013.
وفي المقابل، لن تجد في اليوم ذاته، وفي صحف اليوم التالي، أية بيانات منسوبة إلى الجمعيات السنية الموالية، ترحب بتعيين ولي العهد في منصب تنفيذي رفيع. ينطبق ذلك على جمعية المنبر الإسلامي، النافذة في دوائر صنع القرار الرسمي، التي تمثل خط الإخوان المسلمين في البحرين، والتي عُين رئيسها السابق د. صلاح علي وزيراً لحقوق الإنسان في نيسان/ أبريل 2012، في محاولة لطمأنة الجمعية التي تعبر عن المواطنين السنة من أصل إيراني، الذين يسمون «الهولة» في البحرين.
وبحسب تقرير البندر الشهير، فإن أعضاء جمعية المنبر الإسلامي هم الأذرع الرئيسية لتطبيق خطة تحجيم الدور الشيعي (= المعارض بحسب التصنيف الرسمي) في البحرين، عبر شبكة حكومية سرية، يتزعمها الوزير الحالي في الديوان الملكي أحمد عطية الله، وتساعده شخصيات ناشطة أو محسوبة على المنبر الإسلامي.
المستشار السابق للشؤون الاستراتيجية في الديوان الملكي البحريني د. صلاح البندر يعتقد أنّ الجماعات العرقية الممثلة في جمعية المنبر الإسلامي، وامتداداتها في المؤسسات المالية والإعلامية هم الذين يغذون، أكثر من غيرهم، الخلاف الشيعي ـــ الخليفي، ويعتاشون عليه، وهو خلاف عميق أصلاً، وهم (نخبة المنبر الإسلامي) يظلون يعتقدون أن تقارباً شيعياً ـــ خليفياً ينبغي ألا يحصل لأنه يضر بمصالحهم، وهو أمر باتت الكثير من الجماعات السنية الأخرى تعتقد بصوابه.
الموقف السلبي من تعيين ولي العهد في منصبه الجديد ينطبق أيضاً على جماعة الأصالة السلفية التي لم تصدر بياناً ترحيبياً هي الأخرى. وقد عُين رئيس الأصالة السابق غانم البوعينين، في نيسان/ أبريل 2012، وزيراً للدولة للشؤون الخارجية، في محاولة لاحتواء مخاوف النخبة السنية من أن تقديم تنازلات للمعارضة لن يجري من وراء ظهورهم.
كذلك لم يُصدر تجمع «الوحدة الوطنية» بياناً ترحيبياً بالتعيين الجديد لولي العهد، رغم أنه يكاد يصدر بيانات في قضايا أقل أهمية. وتشكل التجمع في أعقاب احتشاد الموالين السنة في جامع الفاتح، في 21 شباط/ فبراير 2011، رداً على تجمع المعارضين، وأغلبهم من الشيعة، في دوار اللؤلؤة في 15 فبراير 2011. وضمّ التجمع في بداية نشأته أبرز الرموز السنية الموالية، برئاسة الشخصية السنية المعروفة والمعارض السابق د. عبد اللطيف المحمود، الأمر الذي أعطى انطباعاً بأن مسار الإصلاح غير متوافَق عليه وطنياً، فيما بدا أن مارداً سنياً قد يكون في طريقه إلى الخروج من قمقمه.
بيد أن أطرافاً في السلطة ضغطت من أجل تسجيل التجمع ضمن قانون الجمعيات السياسية، من أجل تحقيق أهداف عديدة أبرزها: امتصاص قلق الجماعات السنية الموالية تقليدياً للنظام، مثل المنبر الإسلامي (الإخوان المسلمين)، والأصالة (السلفيون)، الذين شعروا بأن التشكيل الجديد (تجمع الوحدة الوطنية) قادم ليأخذ موقعهم الشعبي، وأمام السلطة.
أما الأمر الآخر، والأكثر أهمية، فجعل الجماعات السنية متعددة الأقطاب، بما يُمكّن القصر من إدارة الموالين، كما كان يفعل قبيل شباط/ فبراير 2011. وقد جرى ذلك بالفعل، ويكاد يتقلص تجمع الوحدة الوطنية إلى درجة تصل إلى واحد في المئة مقارنة بالزخم الكبير وقت نشوئه.
ولعل أهم ما تحقق للسلطة إثر خضوع تجمع «الفاتح» الجديد لقانون الجمعيات، هو إنهاء الأمل بأن تحقق القوة الناشئة تيارا سنياً شعبياً عاماً، لا جمعية سياسة ضيقة وصاحبة أهداف سياسية وانتخابية، وأدى ذلك إلى إحباط فرص الوحدة بين القوى السنية وتحقيق معادلة خروج «المارد السني من القمقم»، إذ بقي المارد المفترض في قمقم السلطة، فيما أحيط زعيم المارد المفترض د. عبد اللطيف المحمود بحبال السلطة، الذي يصعب عليه الفكاك منها، وخصوصاً بعدما مضى (المحمود) في تأييد الخطوات الأمنية العنيفة الرسمية، المذمومة عالمياً، ومضى في رفض مطالب المعارضة إلى أكثر مما طمحت السلطة ذاتها. لقد كبل بذلك نفسه بسلاسل من حديد يصعب الفكاك منها.
إنها ولا شك أبرز نجاحات آل خليفة، الذين يواجهون كتلة شيعية تكون صماء، ولا يريدون تكرار ذلك مع الجانب السني. من الحق القول إنّهم أجادوا اللعب هذه المرة على وتر الخوف السني من الشيعة، وسجلوا نقاطاً مذهلة لمصلحتهم، جعلت السنة الموالين يتبرعون لممارسة العنف ضد المعارضين.
ولعل من المثير العلم أن كثيراً مما جرى في الفترة التي أعقبت اندلاع الاحتجاجات في فبراير 2011، بما في ذلك زيادة النعرة الطائفية، واختيار د. المحمود زعيماً للموالين السنة، كان جزءاً مما وثقه تقرير البندر.

ما وراء البرود السني تجاه الإصلاح

سيكون مثيراً معرفة أن المؤسسة التشريعية لم تصدر بياناً ترحيبياً بتعيين ولي العهد في منصبه الجديد. وتسيطر الجماعات الموالية للسلطة على البرلمان، الذي استقالت منه المعارضة في فبراير 2011، احتجاجاً على العنف الرسمي ضد المحتجين السلميين المطالبين بالديمقراطية.
وقد بث تلفزيون البحرين يوم الخميس 14 آذار/ مارس 2013 تسجيلاً مصوراً لمهنئي ولي العهد، مدته 16 دقيقة، اختيرت زواياه بعناية لم تنجح في إظهار حجم التأييد السياسي الشعبي لولي العهد، وإذا كان متوقعاً أن لا تجد وجوه المعارضة بين جمهور المهنئين في ظل هذا الشد والجذب، فإن عدم حضور القيادات السنية يؤكد فرضية عدم ارتياح الجمعيات السنية للسياسات التي توصف بالإصلاحية، التي يتبعها ولي العهد.
المأخذ الأكبر من قبل الأطراف الموالية على ولي العهد يعود إلى الصورة التي شكلها الإعلام المحلي والدولي للشيخ سلمان إبان اعتصامات اللؤلؤة الحاشدة، حينها جرى ابراز الابن البكر للملك على أنه شخصية معتدلة، تشجع على التظاهر في ميدان اللؤلؤة، وترحب بالحوار، ومستعدة للتفاهم مع المعارضة، بل والمضي معها في صيغة قد تحدث انقلاباً في توازنات الحكم كما في مبادرته المكونة من سبع نقاط، التي أجهضها التدخل السعودي، والتي ضمنت عناصر مهمة من أسس الملكيات الدستورية، الأمر الذي ترفضه الجماعات الموالية التي كانت وما زالت متمسكة بالأمر الواقع.
لمن يعرف خيوط اللعبة في البحرين، فإن مجمل المواقف التي تتبناها الجمعيات الموالية يصوغها عادة وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد آل خليفة، الرجل القوي في النظام، الذي لا يرتاح للدور المحدود أصلاً الذي يؤديه ولي العهد في السياسة العامة، بمعنى أنه يبدو صعباً للغاية اعتبار مواقف الموالاة منفصلة عن مواقف الشخصيات النافذة في القصر، وذلك ما يعزز فرضية الصراع بين أجنحة السلطة بشأن خطوات الخروج من الأزمة.
إن تحالف آل خليفة مع النخبة السنية ليس أبدياً. ففي السياسة لا توجد علاقات، بل مصالح دائمة. بيد أن الطرفين، وإن اختلفا في بعض المحطات وحدود ومناطق النفوذ، فقد أظهرا قدراً كبيراً من فهم ما يجب عليهما القيام به للحفاظ على الأمر الواقع، فيما حدود اللعبة سمحت للطرفين بالدفع بالمعارضين الشيعة في زاوية لا تخلو من العزلة، أحياناً.
ليس السُنة في البحرين سوى بشر يفضلون الحفاظ على مكاسبهم التي يعدّونها «تاريخية». لقد أعتادوا أن يحظوا بصفة المواطنين الأَولى بالرعاية، ولن يرضوا عن ذلك بديلاً بالسهولة التي يمكن تصورها. إنهم مثل العلويين في سوريا، الأقلية التي تحكم، أو جزء منه، أو تعيش على تخومه.
على أن ما يميز سنّة البحرين عن شيعته، يختصره ولي عهد بقوله: «صحيح أن الشيعة أغلبية، لكن السنة يملكون السلاح»، بحسب ما سربت «ويكيليكس»، لذا فإن زرقاوي بحريني يمكن توقع بروزه في اليوم التالي لتأليف حكومة بنفوذ شيعي، مع أن الشيعة أغلبية في البلاد، وتبدو شراكتهم في السلطة حقاً أصيلاً لهم.
الحقيقة التي يجب إعلانها، أن البحرين إزاء مفترق طرق خطير: خيارات العائلة الحاكمة صعبة، ولعله ليس من المبالغة القول إنّها في حالة ضياع وشلل تام. أما الشيعة، فبعد القمع المروع الذي مورس ضدهم، وفي ظل ظلامتهم التاريخية في البحرين، باتت قطاعات كثيرة منهم ترفع شعار «إما النصر أو الشهادة». فيما يظهر السنّة مخاوف جادة من كلمة الإصلاح والتسوية التي يخشون أن تكون على حسابهم، لذا باتوا مستنفرين وقلقين من التبدلات المحتملة، لدرجة أنه لم يعودوا يرفعون أصابعهم من فوق زناد أسلحتهم.
الأزمة في البحرين لا يعالجها الاحتكار مهما كان لونه، سواء كان خليفياً أو سنياً أو شيعياً، ولا يعالجه تحالف سني خليفي مضاد للشيعة، ولا تحالف خليفي شيعي مضاد للسنة، فأي من ذلك سيعقبه تنامي المعارضة لدى الجهة التي تشعر بأنها طرف مقصيّ من السلطة.
إن الحلّ الأسلم يتمثل في تبلور حكم يأخذ بالحسبان حق جميع الأطراف في أن تكون جزءاً فاعلاً في السلطة.
* كاتب بحريني _ لندن