يُصنف المواطنون السنّة، سياسياً، في البحرين، عموماً، على أنهم تابعون للأسرة الخليفية الحاكمة، وموالون لها. وقد برزت هذه التبعية على نحو فاقع، ومفاجئ للكثيرين، ربما، خلال الأزمة العاصفة التي دخلتها البلاد في سياق الربيع العربي، منذ 14 فبراير 2011، والتي هي في الواقع استمرار لوضع غير مستقر يكاد يطبع الحياة السياسية منذ أن أحكم آل خليفة قبضتهم على جزر البحرين الصغيرة في نهاية القرن الثامن عشر.وللمفارقة، ولعله تعبير جلي عن عصر الانحطاط الذي كانت تعيشه شبه الجزيرة العربية والخليج وعموم المنطقة الإسلامية، فإن استيلاء آل خليفة على البحرين جرى في الفترة ذاتها التي انتصرت فيها الثورة الفرنسية، وتحولت فرنسا إلى جمهورية ديمقراطية بعدما كانت ملكية مطلقة.

آل خليفة: عقلية الغزو/ «الفتح»

التاريخ الرسمي لقبيلة آل خليفة، وعموم المناهج الدراسية ووسائل الإعلام الرسمية في البحرين ما زالت تفضل استخدام مصطلح «الفتح» لتسمية العملية العسكرية الناجحة والعنيفة التي قادها، في 1783، أحمد بن محمد آل خليفة (توفي عام 1794م) للاستيلاء على جزر البحرين، انطلاقاً من مقر حكمه في الزبارة، الواقعة على الشاطئ الشمالي الغربي لشبه جزيرة قطر.
ويجتهد آل خليفة لتكريس مصطلح «الفتح» وتعزيز حضوره في الإطار العام، لذا أطلقوا لقب «الفاتح» على أول حاكم خليفي دخل الجزيرة عنوة (أحمد بن محمد آل خليفة)، وسموا شوارع ومساجد ومراكز عامة بهذا الاسم.
وتعتقد العائلة الحاكمة أن مصطلح «الفتح» يمنحها الحق في امتلاك الأرض وما عليها، (هكذا)، ضمن فهم متعسف ومغلوط يحاول تشبيه قيام آل خليفة بغزو البحرين بالغزوات/ الفتوحات الإسلامية إبان العهد الراشدي، فيما الموثوق به من التاريخ المسجل والمجمع عليه أن جزر البحرين دخلت الإسلام سلماً لا حرباً، منذ عهد النبي محمد (ص)، كما لا يُعرف أنها كانت دولة كافرة في القرن الثامن عشر حين احتلها آل خليفة، إلا إذا كان المقصود أن المسلمين الشيعة، الذي يمثلون غالبية السكان، كفار، وهو ما لا يقره الكافة، الذين يعدون الشيعة مسلمين، تحرم دماؤهم وأعراضهم وممتلكاتهم!
ويثير مصطلح «الفتح» امتعاض وحنق ورفض الغالبية من المواطنين الشيعة العرب (البحارنة)، الذين يمثلون تاريخياً الأغلبية من سكان البحرين، وفيما يبدو فإن إزالة تسمية الفاتح، الفتح من الثقافة السائدة تعد ضرورة، كي ينسى آل خليفة أنهم محتلون للجزر، وكي ينسى الشيعة أن آل خليفة دخلوا البلاد عنوة كمحتلين.
وانطلاقاً من عقلية «الفتح» هذه، تشير الإحصاءات الرسمية إلى أنّ نحو 90 من أرض البحرين وجزرها (34 جزيرة) ملك خاص، نسبته العظمى ملك لأفراد من آل خليفة، كما يحتكر أفراد الأسرة الحاكمة النسبة العظمى من سواحل جزيرة البحرين الأم، فيما يصنف كسواحل عامة نحو 5% فقط، وفق الإحصاءات الرسمية، وقبل ذلك فإن العائلة الحاكمة تحتكر القرار السياسي والثورة القومية في البحرين.

السنة: الولاء المصلحي لآل خليفة... لا الولاء على بياض

اختارت الجماعات السنية، عموماً، نهج الموالاة للنظام منذ حل البرلمان في 1975 حتى الآن. ويعتقد البعض أن ذلك يعود إلى عدم التسييس الذي تمتع به السنّة الموالون وواجهاتهم الدينية والاجتماعية في فترة أمن الدولة (1975ـ 2001)، التي لم يُسمح فيها بإنشاء جمعيات/ أحزاب سياسية.
ويعتقد الكثيرون أن الموالين السنة دخلوا على خط السياسة فقط بعدما أقرت السلطات علنية العمل السياسي، بُعيد التصويت على ميثاق العمل الوطني في 2001. لذا فإن الفارق كبير بينهم وبين الجماعات الشيعية المعارضة، التي احتكرت الفضاء المدني فترة أمن الدولة، ولعلها ما زالت كذلك في مناح عدة.
وقد يكون جزء من ذلك صحيح، وخصوصاً القول إن العمود الفقري لمعارضة النظام قادها، في السنوات الأربعين الماضية، ناشطون شيعة وسنّة، بيد أن وقودها يكاد ينحصر في الجمهور الشيعي، مرة لأنه يمثل الأغلبية السكانية في البحرين، وأخرى لأنه المتضرر أكثر من غيره من عمليات التمييز الفاقعة واحتكار السلطة والثروة، التي تزايدت في العقد الأخير من حكم آل خليفة، بقيادة الملك حمد وطاقمه من جناح الخوالد.
وقد نتج عن ذلك أن يكون الجمهور الشيعي أكثر إدراكاً من غيره لمشكلات البلاد العامة، وأكثر حضوراً في الشارع، ومؤسسات المجتمع المدني، والمنظمات الدولية، ووسائل الإعلام العالمية.
بيد أن البناء على ذلك، بالقول إن النخبة السنية كانت غير مدركة أسباب اختيارها الولاء للنظام، يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر. وأجدني أقول عكس ما يعتقد الغالبية من المتابعين والمعنيين، بأن النخبة السنية، وإذا هي اختارت عدم التسييس، أو سياسة النأي بالنفس، فلأنها وجدت في ذلك مصلحة لها ولجمهورها، مرة لتفادي الصراع مع النظام، والضياع بين غالبية شيعية مستنفرة ومقهورة، وقبيلة دموية، وأخرى كي تحوز (النخبة السنية) أكثر ما تستطيع من المكاسب، ما دام غالبية الشعب في خلاف حاد مع نظامها السياسي.
بمعنى آخر، فإن خيار «البعد عن السياسة»، إبان حل البرلمان وتعليق العمل بالدستور في الربع الأخير من القرن الماضي، قد مورس في أحيان كثيرة عن وعي من قبل النخبة السنية، سواء تلك النخبة العربية التي تمثل أقلية من بين السنّة، أو النخبة من الهولة وهم السنة من أصول إيرانية، الذين يمثلون غالبية السنة في البحرين، والذين مثلوا، وما زالوا الجسم الأكبر من الوزراء وكبار المسؤولين في دوائر الدولة الرسمية والشركات الكبرى، والمؤسسات المالية. وهذه الأخيرة يمارَس فيها منذ سبعينيات القرن الماضي قدر من التمييز يفوق أضعافاً مضاعفة أي تمييز آخر يمارس في مؤسسات الدولة الحكومية، وربما لا يجاري التمييز في البنوك والمؤسسات المالية، التي يسيطر عليها العرق البحريني الهولي (الإيراني الأصل)، إلا ذاك التمييز الذي مارسه الملك حمد، منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى الآن، في بنائه الجيش البحريني «طاهراً مطهراً» من أي وجود شيعي.
إن البعد المصلحي، والانتهازي إن شئتم، واضح في التحالف السني مع آل خليفة. لذا فإن اعتبار السنة نصيراً للسلطة وتابعاً لها، لا يفترض أن يلغي المصلحة أو المفسدة التي تقيمها النخبة السنية، وهي تحدد مسارها وترسم خياراتها وتموضعها.
لم يكن خيار النخبة السنية الاصطفاف مع آل خليفة عن قلة وعي بالضرورة، كما يعتقد جمهور المعارضة وعموم الشيعة، ولعلي أميل إلى أن ذلك قد جرى عن إدراك ووعي بالمصالح، حتى وإن سماها خصومهم مصالح ضيقة وأنانية. وبسبب ذلك الإدراك والفهم، فقد استثمرت النخبة السنية الكثير من الجهد في الخلاف الشيعي ـــ الخليفي، وعملت على تعزيز مخاوف الأطراف المتباينة: بين الشيعة وآل خليفة من جهة، والشيعة والسنة من جهة ثانية، والشيعة والإقليم من جهة ثالثة. وقد أثمر ذلك تحالفاً متيناً بين آل خليفة والنخبة السنية، سيكون له أثره البيّن في طبيعة الحكم في أي مرحلة من المراحل.
ولعل موقف النخبة السنية ذاك ومن خلفها جمهورها الطيّع، يشابه موقف عدد من الأقليات في الدول العربية، مثل الكويت التي يتحالف فيها الشيعة مع أسرة آل الصباح الحاكمة، ومثله تحالف مسيحيي سوريا مع آل الأسد العلويين، من دون أن يعدّ ذلك قاعدة، بالضرورة، يمكن تعميمها على مختلف الأقليات في العالم العربي، تلك الأقليات التي تعاني الاضطهاد بدرجات متفاوتة، كما هو حال السود في الخليج، والأمازيغ في المغرب العربي، والمسيحيين في السودان، والأقطاب في مصر، والأكراد في عراق صدام حسين.
ورغم أن شيعة البحرين أغلبية واضحة في بلادهم، فإنه يجري التعامل معهم كأقلية في بحر قبلي وسني في الخليج.

السنة: مشروع معارضة محتمل

في فبراير 2011، وبعد نحو أسبوع من احتشاد جماهير المعارضة في دوار اللؤلؤة (15 فبراير ـــ 16 مارس 2011)، اختارت جمعيات الموالاة السنية الاحتشاد في جامع «الفاتح»: المسجد الرسمي الرئيسي في قلب العاصمة المنامة، كما اختارت لنفسها مسمى: تجمع/ ائتلاف/ أهل «الفاتح»، رداً على مسمى: ثورة/ أهل «اللؤلؤة»، للتعبير عن مدى ارتباط الموالين السنة بالعائلة الحاكمة ومساندتهم لها، ورفضهم مطلب الحكومة المنتخبة، الذي ترفعه الجماعات المعارضة، الشيعية الامتداد.
ولعله ليس مجانباً للصواب القول إن القوى السنية، عموماً، بدت أحياناً أكثر تشدداً من الأسرة الحاكمة في تعاطيها مع انتفاضة 14 فبراير، سواء لجهة رفضها مطالب المعارضة، أو تعلق الأمر بتشجيع الحل الأمني، والمشاركة في عقاب المحتجين، والتحريض عليهم، وأحياناً «الرقص» على جراحهم. ولعل النخبة السنية مارست في ذلك ما يمكن اعتباره فجوراً في الخصومة، شاركت فيه مختلف القيادات السياسية والدينية، على نحو يكاد يكون دون استثناء.
لقد بدا ذلك أمراً مؤلماً، بل ومريعاً، للغاية، للمواطنين الشيعة، الذين ما زال كثيرون منهم، وخصوصاً النخبة الليبرالية الشيعية غير المعارضة عادة، بل والموالية للنظام، التي تخالطت أكثر من غيرها مع السنة الموالين، غير مصدقة بعد الرد العنيف الذي أظهره الجسم السني ضد مطالب التحول الديمقراطي. لقد ظهر السنة ككتلة صلبة وصماء في حماسها لإبقاء الأمر الواقع، ورفضها مطالب الكتلة الشيعية، الصماء هي الأخرى، المتوحدة حول مطلب المساواة، والتي تختلف إزاء رؤيتها لحجم الشراكة المنشود في السلطة.
وكباحث ومتابع عن قرب، أظن أن الجماعات السنية، عموماً، وإذ هي تيار موالاة يكاد يكون بلا طعم سياسي يميزه عن موقف الأسرة الحاكمة على مدى الأربعين سنة الماضية، فإنهم على الأرجح مشروع جاهز للمعارضة السياسية، وربما العنيفة، إذا ما قُدر وانتقلت البحرين إلى صيغة ديمقراطية، تحكمها أغلبية سياسية شيعية، سواء عبر تحول الحكم إلى نظام جمهوري، البعيد المنال، أو ملكية دستورية تنتج حكومة منتخبة، وهو أمر ما زال محل خلاف وطني، أو عبر تحالف آل خليفة مع الشيعة بدل السنة، والخيار الأخير يبدو غير مُفكر فيه على الأرجح داخل أروقة الحكم، الذي يظل ينظر إلى الشيعة باعتبارهم خطراً استراتيجياً على النظام، وهي فرضية يعتقد الملك حمد أن انتفاضة 14 فبراير قد صدقتها وأكدتها.
وربما يتضح استعداد النخبة السّنية للتحول نحو المعارضة، إذا ما وجدوا ذلك ضرورياً، من خلال برودة الترحيب بالخطوات التي اتخذها الملك حمد في بداية مشروعه السياسي عام 2001، حينها كانت هذه النخبة قلقة مما يقال إنها بداية تحالف بين الأمير الجديد المفعم بالحيوية والرؤى الإصلاحية، وقادة المعارضة الشيعية، الذين أسرفوا في دعم الشيخ حمد، وقد نُسج على أثر ذلك حلم تحالف محتمل بين الخصوم التاريخيين: الشيعة وآل خليفة.
ولم تكن النخبة السنية الموالية جزءاً من مشروع دعم ميثاق العمل الوطني (2001)، الذي كان عملياً مشروعاً بين الملك والمعارضة الشيعية، اقترحه الملك للخروج من عنق زجاجة طال أمده، وفي أعقاب انتفاضة انطلقت في 1995 واستمرت حتى تسلم الملك حمد مقاليد السلطة في 1999، لكن النخبة السنية تنفست الصعداء في 2002 حين أصدر الملك حمد دستور مملكة البحرين من طرف واحد، ودون توافق وحوار وطني، الأمر الذي أعاد صورة التحالفات إلى ما كانت عليه قبيل التصويت على الميثاق: معارضة بأغلبية شيعية ضد الدستور، وموالاة بأغلبية سنية مع الدستور وخطوات السلطة.
(غداً: ما وراء القلق العميق من الاصلاح)
* كاتب بحريني _ لندن