بنتيجة الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى الأراضي المحتلة والأردن، يتبيّن أنه أعطى الضوء الأخضر لتصعيد عسكري في المنطقة. كالعادة، المحور الغربي لديه المبادرة للهجوم والعدوان حفاظاً على مصالحه، وتحقيقاً لأطماعه، بمقابل المحور الآخر الذي ما انفكّ يقاوم مقاومته السلبية ليس حفاظاً على مصالحه الوطنية بقدر ما هو لتخفيف خسائره جراء عدوان المحور الأول.تظهّر الموقف الأميركي بالضغط الذي قام به أوباما لإحياء التحالف التركي ــ الإسرائيلي، وضمّ الأردن له، بعد أن تبيّن أن المحاولات التي يخوضها حلفه ضد سوريا لم تفلح في زعزعة النظام السوري، وفكفكة جيشه. وعلى مدى سنتين من الصراع لم تتمكن المعارضة المسلحة السورية من السيطرة إلا على بقع ريفية، ولم تهدّد النظام في أي موقع من المواقع. اقتصر ما حققته المعارضة على إحداث بلبلة واضطراب كبيرين في سوريا، مما أفسح المجال للعبة الدولية والإقليمية أن تتخذ منها مظلّة لحركتها السياسية ضد النظام السوري بقيادة الرئيس بشار الأسد. لكنها لم تحقق المرجوّ منها وهو إسقاط بشار الأسد ورحيل نظامه وتفكيك جيشه ونشر الفوضى في سوريا. لعبت عناصر متعددة دورها في المجابهة والصمود، منها تركيبة الجيش، وانكشاف الخطة المستهدفة لسوريا أمام غالبية من الشعب السوري، ففاجأ الموقف الغرب الذي توقّع أن ينهار الجيش وأن يتفكك فتسقط من يد الأسد الورقة الأقوى بين يديه. بذلك، وقفت سوريا سدّاً بوجه المخططات الغربية التي استهدفت المنطقة بمشاريع شتى، وبأشكال مختلفة، ومنها استهداف إيران، وبعدها روسيا والصين، مما دفع بهذه الدول إلى الوقوف إلى جانب النظام السوري، فتشكّل محوران في معمعة الصراع، محور شرقي متداخل مع تحالف دول «البريكس»، ومحور غربي تقوده الولايات المتحدة الأميركية، لكن واجهته دول عربية وأوروبية بالوكالة.
صمود النظام السوري، أي المحور الشرقي، وضع الحلف الغربي في موقف حرج أمام سقوط مشاريعه التفتيتية، وأيضاً على حافة خسارة منطقة الشرق الأوسط، أهم نقطة استراتيجية عالمية، ومَن يخرج منها يسقط في العالم. ولا يسع الغرب التخلي عن المنطقة والاستغناء عن مصالحه، ولن تتحمل أوضاعه الاقتصادية والاستراتيجية مزيداً من الخسائر، ولذلك لن يستطيع أن يقف مكتوف الأيدي أمام خسارة جديدة بعد الخسارة المفترضة في أفغانستان والعراق وغزة فلسطين.
كانت الدبلوماسية الأميركية قد أظهرت تراجعاً في حدّة الخطاب على مستوى العالم قبل الانتخابات الأميركية، وأرسل أوباما رسائل باتجاهات معتدلة تسووية على صعيد العالم، فظن الجميع أن عودة أوباما ستريح العالم وتدخله بمسار حواري بين الأطراف الدولية المتنازعة. قيل إن أوباما غيّر طاقمه من الصقور في الخارجية والدفاع والاستخبارات، واختار بدائل أكثر اعتدالاً تمهيداً لإدارة ولايته الجديدة. وانتظرت القوى المعنية بالشأن السوري زيارته للمنطقة مراهنةً على إرساء قواعد تسوية للمسألة السورية. استطاعت الدبلوماسية الأميركية بذكائها ودهائها أن تغشّ العالم أنّ أزمتها المالية ــ الاقتصادية والاستراتيجية قد حوّلتها من موقع الصقور بمخالب فتّاكة إلى حمائم مدجّنة. والأسوأ أنه لا يزال هناك مَن يصدق أن للامبريالية وجهاً آخر غير الوجه العدواني.
وعندما جاء أوباما إلى الشرق، زار الدولة العبرية والمملكة الأردنية وأطلق في زيارته جملة مواقف، ونفّذ عدداً من الإجراءات. وبدا من نتائج محادثاته مع الإسرائيليين والفلسطينيين أن همّه ليس الوصول إلى تسوية حقيقية ــ هي مستحيلة في ظل حكم نتنياهو ــ للمسألة الفلسطينية. المباحثات في هذا الملف لم تكن إلا شكلية، ولم يقدم ما يزعج نتنياهو في محادثاته معه ومع إدارته، فبدا أن هدف الزيارة ليس فلسطين، وإنما سوريا، ولذلك فقد دعا إلى رحيل الأسد بشكل قاطع مخالف لما سبق من تصريحات متلاعبة للمسؤولين الأميركيين، وأثار مسألة التطرف الإسلامي ليتبيّن أنها ليست جبهة النصرة المستهدفة، بل هو حزب الله، مدرجاً إيّاه على لائحة ما بعد 11 أيلول الإرهابية. وعلى الصعيد العملي، قام بدغدغة أحلام نتنياهو بالحروب، وأغراه بإطلاق ما تريد آلته الفتاكة بمقابل الاعتذار من تركيا توصّلاً لإحياء التحالف بين الدولتين، وضغط على الملك الأردني للانضمام إلى جوقة المحاربين في سوريا. شكّل أوباما حلفاً مطوّقاً لسوريا، وبعث بوزير خارجيته إلى العراق لقطع الطريق على عبور الطيران الإيراني. إنها خطة واضحة لهجوم أميركي مقبل في المنطقة. ولم يتردد أوباما في خطواته رغم وجود البوارج الحربية الروسية في البحر المتوسط، رافعاً التحدي إلى مستوى إمّا قاتل أو مقتول.
ظهرت ملامح السيناريو الأميركي الجديد في سوريا، ففي الوقت الذي بدا فيه جليّاً أن أحداً لن يتمكن من إسقاط النظام السوري بالدعم المسلح للمعارضة على الطريقة التي درجت حتى اليوم، لم يعد أمام الولايات المتحدة الأميركية إلا الهجوم مستخدمةً قواعدها العسكرية التي ما انفكّت تدعمها بالمال والسلاح والسياسة بعد أن سقطت محاولات استخدام مجلس الأمن لتأمين غطاء للعدوان بسبب الفيتوات الروسية والصينية، وخطا أوباما في الشرق ضارباً عرض الحائط بالمناورات الروسية والإيرانية، ورافعاً التحدي إلى أقصاه، ومثبتاً أن الشعارات التي يطلقها الرئيس في الانتخابات ليست هي التي تقرر السياسة الأميركية، إنما اللوبيات الاقتصادية والسياسية في الولايات المتحدة والتي يلعب اللوبي الصهيوني فيها الدور الأكثر تأثيراً.
أمر واحد تستطيعه الولايات المتحدة الأميركية والغرب بعامة لخرق السد السوري، وهو الحرب الخارجية على سوريا. وفي هذا الإطار، قد يتساءل البعض عن قدرة تحالف تركيا والكيان الصهيوني والأردن على مجابهة تحالف كبير يضم قوتين عسكريتين كبيرتين هما إيران وروسيا، فندخل في جدال طويل عن الآتي.
بالطبع، ليس من السهل دخول تركيا والكيان الصهيوني في حرب مع الدول الكبرى، وهي الأداة في يد القوة الامبريالية الكبيرة التي تنفّذ استراتيجيتها خطوة وراء خطوة، وعلى فترات متفاوتة وليس بالضرورة دفعة واحدة، لذلك كانت حرب العراق الأولى، ثم الثانية، والحرب على أفغانستان، وحصار إيران، وجاء الحراك العربي كمحطة من محطات الاستراتيجية الأميركية، فماذا بعد؟ كيف يخرق الغرب السد السوري في ظل وجود قوى قوية وكبيرة معادية؟ إنه سيناريو «الكاوبوي» الذي ختم حرب العراق بملاحقة صدام حسين في العراق، وختم حرب ليبيا بقصف قصر معمر القذافي وملاحقته. ليس ما يمنع من أن يتكرر السيناريو في سوريا، وألا يكون بديلاً من مواجهة شاملة غير ممكنة للغرب بمواجهة قوى كبيرة، باللجوء إلى ضربة سريعة على دمشق تتلهّف الدولة العبرية بشراهة لها، ولم تكن غريبة عليها في كافة الفترات منذ نشوئها.
ولا بد من التمييز بين الوضعين الليبي والسوري، ففي الحالة الأولى اضطر حلف الناتو إلى استصدار قرار بالتدخل من مجلس الأمن، وأقام الحظر الجوي، وجلب الطيران والمعدات الكبيرة المتطورة والبوارج الحربية لتحقيق مبتغاه، إلا أن السيناريو في سوريا لن يحتاج إلى قوى دولية للتدخل، فالأسباب كثيرة، والحجج مؤمّنة، والعتاد العسكري موجود في الداخل. وها هي القمة العربية تقدم لها الغطاء في ما سمّته «سقوط شرعية الأسد»، مما يعني تقديم التبريرات على غرار تلك التي استخدمت في الحروب السابقة في العراق وليبيا.
المواجهة
ليس من السهل القول إنّ الخيار الأميركي هو العدوان الشخصي على الرئيس الأسد، وإن كان هو الخيار الأقل خسارة والأكثر ربحاً لها، لكن الانخراط بحرب إقليمية ليس أمراً سهلاً على الغرب، بينما لم تتمكن الحرب على غزة الصغيرة من تحقيق أي تقدم، وبالتالي لن يكون بوسع الكيان خوض حروب طويلة كعادته. إلا أننا أمام العدوانية الأميركية المتجددة، لا يمكن إلا أن نضع في الحسبان كل الاحتمالات، حتى الجنونية منها، في حال لم تتوافر له أساليب أخرى.
وعلى صعيد المواجهة التي جوبهت بها الحرب على سوريا، فهي كانت خجولة جدباء حتى اليوم، ذلك أنه في الوقت الذي ما انفكّ الهجوم العدواني على العالم، وعلى سوريا بالتحديد، يجري بصفاقة كاملة دون تردد ولا خجل، فإن رد حلف الممانعة والمقاومة لم يكن إلا متردداً وخجولاً. فلقد مرّت سنتان كانتا كافيتين لحماية سوريا من عدوان فيما لو نجح لسقطت المنطقة برمّتها في الفوضى التي خطط الأميركي لها، وصولاً إلى بقية الدول القوية الأخرى المتعارضة مع مصالحه الاستراتيجية.
ومن الغريب ألا يلجأ حلف المقاومة والممانعة إلى تصدير الحرب إلى خارج الساحة السورية. لم يسأل الحلف المذكور نفسه كيف تعمّ الفوضى الساحات العربية بينما تنعم الدول القائمة بالعدوان بالأمان والاستقرار. لم يسأل الحلف كيف يربك خصومه، ويعيق حركته بعض الشيء، ويخفف من وطأة مخططاته. كان الأحرى به أن يأخذ الصراع إلى حيث لا يريد الخصوم، بنقله إلى الخارج، وإلا فلن تتوقف مخاطر المخططات التدميرية المستهدفة للساحات العربية، وفي مقدمها سوريا.
* كاتب لبناني