حين تتحرّك الكتل الاجتماعية، وتفرض على السلطة أن تتراجع فذلك يعني أنّ الحيّز الذي نشأ بتقهقر هذه الأخيرة سيتمدّد تدريجياً وسيفرض نفسه على كلّ ما تحاول السلطة فعله، سواء كان في الداخل أو في الخارج. وقد بدا ذلك جليّاً مثلاً على محيّا محمد مرسي حين ألقى كلمة مصر في المهزلة السنوية المسمّاة القمة العربية. لم يكن الرجل يتكلّم بوحي ممّا رآه وسمعه هناك في الدوحة، بل بالاستناد إلى ما يحدث من تآكل لسلطته داخل مصر. بالنسبة إلي كان «الحدث الوحيد» في قطر هو ذهاب مرسي إلى «القمّة» كسيحاً، ومن دون تفويض غالباً، ولذلك أسباب عديدة منها أنّ الكتلة التي عاودت الانتفاض في مصر لم تعد تعتبره ممثّلاً لها داخل مؤسّسات الدولة. ثمّة حدث آخر يتعلّق بسوريا، لكنه لم يمتلك الأثر ذاته، بدليل امتثال الشرائح التي «صنعته» (وهي عريضة قطعاً) لإرادة ذيلية لا تخفي احتقارها لمنطق الكتلة وديناميتها. بالطبع ليس هذا هو رأي الدعاية التي واكبت «الحدثين»، فأغلبها أيضاً يأتي من منطقة لا تعرف عن الكتل التي تتحرّك إلا قابليتها للاحتواء والتدجين. من يتصرّف على أساس أنّه قادر على مزيد من الاحتواء يعتبر أنّه يستند إلى «منطق متماسك». هو منطق بالفعل، إلا أنّه ينتمي عمليّاً إلى زمن لم يعد منطقياً التعامل معه بغير الإصغاء إلى ما يقوله الشعب، أو جزء يسير منه.
في ما خصّ الدعاية المعمول بها نفطياً ليست الأمور بهذه البساطة. هم لا يزالون أسرى الاعتقاد بوجود محاور تصنع السياسات رغماً عن أنف الجميع. الزمن بالنسبة إليهم توقف عند اغتيال رفيق الحريري أو عند حرب تموز 2006 أو عند 7 أيار 2008. حينها لم تكن الكتل الجماهيرية قد تحرّكت بعد، ولم يبد على السلطة أنّها في صدد التراجع عن احتكار القرار (وكذا الثروة). كانت المعادلة حينها تقضي بوقوف الاحتكارات والمستثمرين واللصوص من كلّ الأنواع وراء السلطة في أيّ خطوة تقدم عليها. في سوريا مثلاً كان هؤلاء وراء التحرّك الذي بادرت إليه السلطة المافياوية مباشرة بعد وفاة حافظ الأسد وتسلّم ابنه للحكم من بعده. لم تتحرّك هذه السلطة وقتها إلّا لخوفها على الصيغة التي أرساها الأسد الأب من الضياع. النّهب بالنسبة إلى هؤلاء ليس محلّ مراجعة أبداً، فإمّا أن يكون كاملاً أو لا يكون. في حقبة بشّار الأسد لم يستطيعوا أن ينهبوا كفاية، فقد اختلّت صيغة المحاصصة التي كانت قائمة من قبل، وأصبح النّهب طريقاً في اتجاه واحد، لا في اتجاهين اثنين. الكتلة التي تنتفض اليوم كانت تراقب ما يحدث، وتغضّ الطرف عنه لقاء مظلّة الأمان التي كان يوفّرها النظام، ويتيح عبرها لرؤوس الأموال أن تستثمر في الريوع وتؤجّل الانفجار. غير أنّ التراكم الرأسمالي الطرفي هنا ما عاد قادراً على امتصاص الكتلة التي خرجت من السوق بعد دخول الريع إليه وطرده للمهارات والقوى المنتجة، فكان طبيعيّاً أن يخرج هؤلاء على المعادلة، وخصوصاً أنّهم يعرفون مقدار هامشيّتهم داخلها. منذ حصل ذلك والسلطة في حالة تآكل تدريجي، والشيء الوحيد الذي يحدّ من سقوطها اليوم هو تحوّل الكتلة المنتفضة أو من يمثّلها إلى سلطة جديدة. سلطة التهمت «الثورة» بمعيّة الكومبرادور الجديد وبإشراف الّلصوص الذين لفظتهم الذراع الاقتصادية النهّابة للنظام. ليس صحيحاً أنّ الدعم الآتي من روسيا وإيران وحزب الله هو ما يحفظ تماسك النظام، وإن حصل ذلك «فعلى نطاق جزئي» فحسب.
لو لم تكن الكتلة الموالية أو المتردّدة جدّية في «ممانعتها» للسلطة القمعية الجديدة لسقط النظام منذ سنة على الأقلّ. لقد أخطأت الكتلة المنتفضة ومن يقف وراءها في التقليل من حجم هؤلاء وتأثيرهم. والأرجح أنها ستستمرّ في ارتكاب الأخطاء ما دامت غافلة عن الديناميّة الجديدة التي حملتها هي بالتحديد إلى واجهة الفعل والقرار ـــ وهذا أمر يصعب تفسيره بسهولة حتّى على من يعتقد أنه يلمّ بالديناميات المحرّكة للانتفاض ـــ. ثمّة ما يبشّر فعلاً رغم كلّ الفوضى التي نعيشها بانتهاء الحقبة التي كان تصنع فيها السياسات في أقبية المحاور. الكلمة الآن هي للكتل الاجتماعية فحسب، سواء كانت هذه الكتل معارضة أم موالية. بإمكان المحاور دائماً أن تتكيّف مع الأمر، نظراً لاهتمام الرأسماليات التي تصطنعها بالأسواق لا بالبشر والكتل الاجتماعية. بالطبع لن تصل هذه الفكرة بالسلاسة المطلوبة إلى كلّ من روسيا وإيران، لأنّ التهميش السياسي الذي يصيب الكتل المعارضة داخلهما يتفاقم باطراد ولأنّ المكاسب الاجتماعية لشعوبهما آخذة بالتآكل تدريجياً. وإذا كانت هذه هي حال دول تترك هوامش محدّدة وشكليّة لانتظام الفضاء الاجتماعي داخلها، فكيف إذا كنّا نريد للفكرة تلك أن تصل إلى مشيخات ومستعمرات لا يستطيع أحد فيها أن (يكحّ) إلا إذا استأذن من طبقة الأمراء اللصوص المالكة للأرض وما عليها. بإمكان هؤلاء أن يبتاعوا من يريدون من ساسة ونخب وأحزاب وتيارات في سوريا ومصر (فليحذر رفاقنا في مصر من مواكبة آل سعود لانتفاضهم المتصاعد ضدّ الإخوان وسلطة آل ثاني) واليمن و...إلخ، إلا أنّهم سيواجهون في كلّ مرّة بكتل تنتفض ضدّ عملائهم، وتضع سلطة المال التي بحوزتهم أمام اختبار الواقع وتحوّلاته المذهلة. في الماضي لم يكن باستطاعة أحد أن يفعل معهم ذلك، وكانت المواجهات بينهم وبين الديكتاتوريات الوطنية تنتهي غالباً بهزيمة كاملة للأخيرة، وبمساومات اقتصادية على الثروة والنفوذ من قبيل تلك التي اضطرّ إليها عبد الناصر بعد هزيمة عام 1967. الآن أصبح الاضطرار ذاك وراءنا، فقد تحرّرت الكتل الاجتماعية ممّا يعيق حراكها، وصرنا بالتالي إزاء صراع يخاض بالأصالة عن الطبقات الشعبية والعمّالية لا بالوكالة عنها. عبد الناصر وباقي رموز البورجوازيات الوطنية ـــ بخلاف ما يعتقد كثيرون ـــ لم يعطوا تفويضاً كاملاً من الطبقات تلك بإحداث القطيعة مع مستعمرات الخليج ومن ورائها الامبرياليات الغربية، ولو حدث ذلك فعلا لما لاقت الطبقة العاملة في تلك الأيام ما لاقته من اضطهاد، ولما «عمّت الاحتجاجات مصر» عام 1968 اعتراضاً على الكيفيّة التي أديرت بها المحاكمات العسكرية للمتسبّبين بالهزيمة. طبعاً بالقياس إلى النماذج الكاريكاتورية التي تولّت فيما بعد «قيادة» المحور المناهض لسلالات الخليج المحتلّ تبدو الناصرية أجمل من حقيقتها البورجوازية بكثير (رغم أنّها جميلة فعلاً وتصيب حتّى من لم يعش تلك المرحلة بحالات غريبة من النوستالجيا والزهو بالذات). ثمّة من يستعيد تلك الحقبة اليوم، إن في مواجهة «الوصايتين» القطرية والسعودية ـــ لا تنسوا التركية أيضاً ـــ أو في إطار الصراع المتصاعد مع الاحتكاريين والرأسماليين المتحالفين مع السلطة.
لا يجري هذا لأنّ هنالك محوراً يتكون من روسيا إلى سوريا ويحتاج إلى شرعية لا توفّرها حقبة قدر ما تفعل الناصرية، ولا يجري كذلك لأنّ النكاية بالإخوان ومموّليهم تقتضي رفع صور لمن قال فيهم ذات يوم: «همّ اتنين ما لهمش أمان، الإخوان والأمريكان».
هذه الحسابات باتت كلّها خارج سياق من ينتفض اليوم في تونس ومصر. لن يكون بإمكان أحد أن يوقف التدخّلات الجارية في الثورة، إلّا بالاستناد إلى الانتفاض ذاك. كلّ ما يجري الآن في ذينك البلدين إنّما يجري بمعيّة الداخل وديناميته الصراعية.
حتى الحسابات الإقليمية المعقّدة للأجهزة الموروثة من النظام القديم والمهتمّة بالتشبيك مع الغرب وإمّعاته في المنطقة (الجيش وأجهزة الأمن) باتت معنية بالتنازل للداخل، وبتقديم إيضاحات له عن كلّ حركة تصدر عنها سواء باتجاه الخارج، أو باتجاه القوى الداخلية المتصارعة. لم يكن ذلك مطروحاً عليها حينما كانت العسكريتاريا هي الحاكم والمقرّر الفعلي لسياسات البلاد. الآن صار لزاماً على الجيش في مصر أن يخضع ميزانيته وامبراطوريته الاقتصادية للرقابة الشعبية، ولولا الصفقة التي عقدها مع السلطة الاخوانية وسوّى بموجبها أموره في الدستور الاخواني غير الدستوري كما يقول المصريون لكان مثله مثل أيّ جهاز آخر في الدولة خاضعاً لمساءلة الشعب ورقابته المباشرة (في انتظار إتيان هذا الأخير بمؤسّسات أكثر تمثيلاً له وأقلّ خضوعاً للنخبة المالية المافيوية).
إذا أردنا المزيد من التعويل على الجيوش في المرحلة القادمة، فسنجد في المحور الممتدّ من روسيا إلى إيران الكثير منها. بإمكاننا منذ الآن الاتّكال على القوة العسكرية الوازنة التي يمثّلها هؤلاء لتحمينا من التمدّد التركي بين ظهرانينا! يسهل بالطبع أن تجد من يصدّق ذلك، فالتوازنات الصورية الناشئة عن صراع المحاور كانت الشيء الوحيد الذي أمكن لمسه في حقبة ما قبل «الثورات». بالنسبة إلى الدول المنتمية إلى المحاور، وخصوصاً «الممانعة» منها، يأخذ الأمر بعداً مختلفاً. فأغلب هؤلاء يأتون من تجارب عرفت كيف تنجز قطيعتها مع الأوليغارشيات المهيمنة (قبل أن ترتدّ عن ذلك لاحقاً كما هي الحال في روسيا)، وكيف تجعل من الطبقات الشعبية شريكاً في هذا الانجاز. حتّى في الحالة الإيرانية التي يخشى منها المصريون اليوم حصل ذلك بتفاوت بين منطقة وأخرى، وبالإمكان الآن التعويل على التفاوت ذاك لانجاز قطيعة جديدة تكون الطبقة الوسطى حاملها الاجتماعي هذه المرّة، تماماً كما حاولت أن تفعل عشية الانتخابات الرئاسية السابقة وفشلت. ما تنحكم إليه تلك الدول دائماً في صراعها مع الخارج الذي يريد الحدّ من تأثيرها هو القاعدة الاقتصادية العريضة التي توافرت لقواعدها، إن عبر التراكم الرأسمالي الطرفي (روسيا والصين)، أو من خلال الاستثمار في الريع النفطي (إيران). في الحالتين بدا الأمر نتاجاً لتدخّل الطبقات الشعبية في نمط الإنتاج المعمول به قبل الثورات، والمكاسب التي جرى تحصيلها بموجب هذا التدخّل لم يكن ممكناً التراجع عنها تحت أيّ ظرف. وحين عاد النهب بوتيرة معيّنة إلى هناك، وخصوصا في روسيا، ظهر كأنّه يحصل خارج الاحتياج الموضوعي للسوق، وفي مواجهة الترسمل الوطني الذي نهضت به البورجوازيات الحاكمة قبل ذلك التاريخ.
كانت الأرضيّة لذلك قد وضعت أثناء سباق التسلّح مع أميركا، وهي الوضعية الوحيدة التي يمكن في ضوئها أن نفهم ما حدث. لا تتدخّل الامبرياليات عادة إلا عندما تشعر بحاجة إلى تدخّلها. والحاجة تلك وفّرها وجود عملاء لها في الداخل الروسي سهّلوا لها المهمّة وأعانوها على الإجهاز على ما بقي قائماً من مكتسبات للطبقات الشعبية هناك. ليس بوتين هو المؤهّل لمعاودة بناء المكتسبات تلك، تماماً كما لا يصلح أن يفعل ذلك أردوغان وحليفه القطري هنا. من سيحدّ من تدخّلات هؤلاء وأولئك هي الطبقات الشعبية المستمرّة في الانتفاض والماضية في إحداث قطيعتها مع المافيات المسيطرة. سيتسنّى لها الوقت لاحقاً لصياغة خياراتها الاقتصادية، واختيار الأفضل منها لخوض
المعركة.
قد لا تكون الخيارات تلك «اشتراكية» بالضرورة كما نعتقد نحن في اليسار، غير أنّها ستوفّر مهما كان شكلها قاعدة عريضة للانخراط في السياسة، من موقع الاستقلالية الكاملة عن المحاور واملاءاتها. يستوي في ذلك الممانع والتابع، فكلاهما يتدخّل، وكلاهما بالقدر ذاته عاجز عن التدخل! «أصابع محمد مرسي» تشهد على ذلك.
* كاتب سوري