الشيخ مهدي مصطفى*عند الصباح تحيّيك شمس بلادي، حيث تراك على ثراها تجول. تغازلها بترانيم الفجر، مع زقزقة طيور العشق في بقاع ضمّ بين حناياه صور الرسل، تمتمات سرها للراحلين في هودج الشهادة، وتلوّح لها عند المغيب مع يدي تلال عاملة السمراء، لتبتسم دون كشف لغزها، ليبقى في قلبها لقاء الحنين. تطوي الأيام على منوال العطاء، تزهر في كل بقعة صرحاً، تلمس الأحجار لتسكن ألمها الدفين، عمرها عمر السنين، إلى حيث لم تصل الأم في رعاية أبنائها، كانت أنامل حسام تزرع شتول البقاء في عيونك بعد المشرقين. تغزل من خيوط العزم حبائل الإصرار، لتلتئم بين يديك زهرات الياسمين. من هلال المسجد إلى صليب الكنيسة، من حروف العلم إلى أعشاش الحنين، من دروب القهر إلى سبل الوصل، تنطق الأرض باسمك يا حسام. هبة الله، في أرقى العطاء، من تخوم الوطن إلى قلبه المعذب، ترتسم صورتك بيد تبلسم جراح الزمان، وتكفكف دموع الأيام بمناديل الطهر، رمقتك عيون الوفاء في وهاد وطني. ورفعت رايتك هضاب تعتز بها البلدان، الجموع تعرفك، وهل من أحد لا يعرف حسام. الوطن ورشة سقيتها بيديك، كما ارتشفت مياه العاصي بهما، نما فيك الجهاد لتغدو من القلائل، مع الأوائل امتشقت سيف البناء، من خُلُق إلى خُلُق، من ريح العازف على أوتار الشهادة اقتبست الحروف، من مدرسة العارف بعمق الحياة تعلمت الوفاء. ومع رحيل الثائر في نهاية الثمانينيات، طاف وجدك محلقاً بين فضاءات الأيام ليرتوي من معين الحقيقة الأبدية. علّمك الإمام الخميني (قده) أنّ الهدوء في العطاء فناء قبل الممات، فكنت دائم الترحال حتى قدمت الحياة. هي بيروت موطن عشقك، فيها تنشقت عبير الأحرار، هو الجنوب قبلة وجهك، فغدوت جنوبي الهوى، وفي البقاع سهل عليك أن تتلمس موطئ الأبرار. حشرجات الروح قادتك إلينا حاملاً نموذجاً للحياة، بين يديك وضعت خريطة لبنان وبنظرة الجاد رسمت أناملك خطوطاً واتجاهات. هنا نشأ صرح وهناك دور العبادة، وعلى مساحة أخرى دروب الوصل في الوطن، فغدا لبنان متشابك الأوصال بمسحتك الإيمانية الطاهرة، بعدما قطّعها حقد صهيوني قديم لينال من عزمها وعنفوانها، فأبت إلا أن تكون في الوجود بسحرك الميمون، فأكثر من سبعة عشر ألفاً وثلاثمئة وتسعة وعشرين مشروعاً تنموياً وإعمارياً تشهد لعينيك الناظرتين في البعيد، هاجراً صنوف التطييف والتصنيف، عابراً للهنّات في بلد تقاس فيه الرجال بالهويات، هل مرّ في تاريخ هذا الوطن الجريح مبلسماً يشابهك، هل شهد زمن العطاء لحسام في هامتك. أجول في شوارع البلد وأقرأ أسماءها، اللنبي، وديغول، وكليمنصو، ومدام كوري، وباريس، أسماء أعرف أن لها في صفحات التاريخ ما لها، أخذت من حيّز الجغرافيا مكاناً لتبقى في ذاكرة الأجيال، هل بنت لوطني ما بنيتَ، وهل سقت لأرضي ما سقيتَ، وهل بلسمت جراحات ما بلسمتَ، وهل وصلت فيه ما وصلتَ، لكن لا تثريب عليهم. إن الأيام لا تغفر لجاحد جحد حقاً، ولا تمحو الليالي منارات التضحية والعطاء، ولن تختفي بين غياهب الظلم والإجحاف كلمات نطقت بها شفتيكَ «أننا قد عملنا لكل الناس في لبنان من دون النظر إلى الهوية والطائفة والمذهب». سواء قدروا لك هذا الفداء أو لم يقدروا، وسواء شهدوا لك أو لم يشهدوا، سواء خلدوا اسمك في هذا الوطن أو لم يخلدوا، وسواء شعروا أو لم يشعروا، وسواء أبّنوك أو لم يؤبّنوا، وسواء اعترفوا أو لم يعترفوا. فأنت حسام البناء والإعمار، وأنت تجربة فريدة في تاريخ الوطن المقاوم، وأنت حروف أضاءت سماء طالما أسهمت ظلمات الجهل في الإطباق عليه. لذا، سيبقى وهج عطائك صادحاً في فضاء السماء وفي تخوم الأرض وعلى شرفات المنازل وفي دروب الحب والتضحية والفداء. سيظل اسمك خالداً في قلوب وعقول الأوفياء الذين عرفتهم والذين سيرعف الزمان بهم، سيظل اسمك مشهوراً حساماً صارخاً في وجه الظلم والطغيان والعدوان والحرمان، سيظل اسمك تتناقله الأجيال أنك رجل الإعمار في وطن المقاومة والعنفوان والكرامة، وسنظل نقول حسام خوش نويس سلاماً.
* كاتب وباحث لبناني
3 تعليق
التعليقات
-
أليس من الأجدى إعلام الجمهورأليس من الأجدى إعلام الجمهور بالظروف الدقيقة لعملية اغتيال الشهيد والجهة المنفذة بدل هذه المرثيات المكررة؟
-
مقال مليء بالواجبات الجهادية.مقال مليء بالواجبات الجهادية.
-
الشهيد حسام خوش نويس الى المهندس الشهيد حسام خوش نويس الراحل على صهوة الاصيل , جئناك والدموع هدايا بسم الله الرحمن الرحيم :" وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً"...... " وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً" صدق الله العلي العظيم. حقا إن الرجال العظماء لن يغيبهم الموت او يطويهم الثرى او يتناساهم الشرفاء من الناس ولا ينتهون بمأتم عزاء او في كلمة رثاء إلا لدى الجاحدين للوفاء الناكرين للمعروف وهم للأسف كثر في لبنان. فكلنا سنموت ولكن قلة هم الذين يظفرون بشرف الموت من أجل مبادئهم ومواقفهم ومن اجل شعوبهم واوطانهم .قد تسقط اجسادنا اما نفوسنا باقية في ارجاء الوجود باقية باعمالها واخلاقها باقية بإيمانها و قييمها. فيا ايها الفارس حسام خوش نويس الراحل على صهوة الاصيل لقد اؤتمنت فحفظت الامانة وأوفيت بالعهد وسلمت الراية . هذا هو قدر الرجال الاوفياء الصالحين الصادقين الكبار يرحلون وقوس النصر يلف اعمالهم ومواقفهم . أهل الإساءة هُم, ولكن ما دروا كم قدموا لشموخك الاحسانا لقب الشهادة مطمح لم تدخر وسعا لتحمله فكنت وكانا ماكنت إلا همة وعزيمة وشموخ صبر أعجز العدوانا دمك الزاكي هو الينابيع التي تسقي الجذور وتنعش الاغصانا رويت بستان الاعمار برمته يا فارسا وجهك لم يكن الا ربيعا بالهدى مزدانا فبيئسا لحكومة لم تطلق اسمك على مكانا لولاك ما كانا . نبيل أحمد عقيل