نعني بالحياد هنا الدقة الإخبارية، ومقدار تطابقها مع الواقع الموضوعي الموجود خارج الوعي وباستقلال عنه، عند نقل خبر ما، أي التحرر التام من أي تأثير يحدثه واقع الخبر المنقول في نفس ناقل الخبر. ونعني بالنفس هنا، التركيب الشعوري والعاطفي، الغرائزي والفطري، لناقل الخبر، سواء أكان هذا الناقل رقيباً أم أديباً أم مؤرخاً أم مجرد راوٍ عابر.
تتعرض الذات الواصفة إلى ضربين من المؤثرات: خارجية، تتعلق بحجم الحدث الموصوف وطبيعته، وبقرب الحدث وبعده، زمانياً ومكانياً وشخصياً، من الناقل. وداخلية، تتمثل في طبيعة الذات الناقلة الانفعالية، وردود فعلها وطرق استقبالها ووسائل تعاملها مع الحدث، باتحاد تام مع الدوافع والغرائز والخبرات الشعورية ومخزونات التجربة، ببعديها الكامنين في الوعي وفي ما تحت الوعي.
لا تعمل هذه المؤثرات منفردة، بل تعمل باعتبارها حزمة تبادلية مركّبة، ترغم الذات على فقدان حيادها، بانشغالها في سلسلة من العمليات التفاعلية مع الحدث، وتالياً مع الصورة التي ترسمها الذات للحدث، مهما كانت درجة سلبية مادة الحدث وضعفها في بعث الإشارات والمثيرات والمحفّّزات النفسية والشعورية.
لكن الذات، في تعاملها مع الواقع الخارجي، لا تكتفي بالاستقبال الشعوري والعاطفي. فكلما قويت لديها الدربة والمران والتقبّل وملكة التحكم الشعوري وقوة الإرادة، تعمد دائماً إلى تفعيل طاقتين ذاتيتين، داخليتين، بهدف السيطرة على حقائق الواقع وعزلها قدر الإمكان عن تفاعلها الشعوري داخل النفس مع مادة الحدث. وهاتان الطاقتان هما العقل والضمير اللذان يبدوان للوهلة الأولى شيئاً واحداً، نظراً إلى تداخل مهماتهما ووظائفهما. بيد أنّ الاختلاف بينهما يتوضح أكثر، حينما نعتبر الضمير هو الأنا الرقابي الأعلى، حامل البعد الأخلاقي، بينما يكون الوعي والعقل فعاليّة تركيبية _ تحليلية، ذات بعد مفهومي، نفعي (معياري وقياسي)، بصرف النظر عن المضمون الأخلاقي للحدث وتأويلاته.
إن الاقتراب من مساحة الحياد ممكنة، على نحو نسبي، في أحكام العقل وقوانينه، تقررها عوامل كثيرة، ليست مرتبطة بالضمير بالضرورة، لكنها مرتبطة بجهاز التحكم الإرادي، وبالفائدة التي يرجحها العقل في موازنة حسابية ما.
لذلك نرى أنّ الكاذب والمصانع والنفّاج يكون أكثر من غيره مهارة، في مجال الثقافة والسياسية خاصة، على قلب الحقائق، ببرودة دم، وأكثر قدرة على الانتقال بسلاسة من موقف إلى آخر، نقيض. لكن ذلك لا يعني أن المصانع في منجاة من صراع النفس، بما فيه عذاب الضمير، وضغوطات تفاعل الذات مع الحدث. بيد أن المران، وتغليب المصالح، ينتصران في الصراع، لمصلحة تغليب المنفعة. وهذا قانون يسري على الجميع، الطيبين والشريرين.
حينما نتفحـّص الأخبار التي رسمها الاعلام لتفجير دمشق الانتحاري الأخير، نعثر على ثلاث صور أساسية لافتة، مكبرة، مختلفة تماماً في المادة والغاية والرسائل، ومختلفة حتى في تفاصيل المشهد الحسيّة. الصورة الأولى رسمها الإعلام السوري الرسمي ومناصروه، ووجدناها في الغالب تحتوي العناصر الآتية: دماء، نيران، سيارات محترقة، جثث محترقة أو ممزقة ومتفحمة، بنايات متصدعة، نساء، أطفال، حقائب مدرسية، معلمات مدرسة، نوافذ مسجد، وصالة في مستشفى. والصور جميعها ملتقطة بعدسة تتحرك بهدوء في قلب الحدث الذي ذهب ضحيته أكثر من ستين قتيلاً ومئتي جريح، ونفذه «إرهابيون» انتحاريون، تابعون لجبهة النصرة، كما يقول الخبر.
في الصورة الثانية نجد العدسة الاعلامية لصحيفة «المستقبل» اللبنانية، في عددها 4611، الجمعة 22 شباط 2013، تسجل تفاصيل الخبر ذاته، ولكن على النحو الآتي: استهداف مقر حزب البعث، واستهداف السفارة الروسية، ومكتب الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين.
أما خلاصة الحدث فتبنى بالتسلسل العقلي الآتي: ضرب مقر حزب البعث يعني أن نظام الأسد هو المدان، لأنه هو من استجلب العنف و«الأجندات الأجنبية». ضرب مقر الجبهة (التدخل العربي)، يقود إلى نايف حواتمة جريحاً، الذي يقود إلى محمود عباس في فلسطين. وضرب السفارة الروسية (التدخل الأجنبي)، تحيل أمر استهدافها على سيرغي لافروف، الذي يحيل الأمر بدوره على المجتمع الدولي. إن العدسة اللاقطة هنا تقوم بتوثيق الجريمة، لكنها توجهها وجهة مؤوّلة، لا تحتفظ من الواقع إلا بالمشاهد التي تقود إلى إبعاد الحدث عن الأرض السورية سياسياً وجغرافياً، والدفع بمشهد التفجير كله إلى الخارج. بهذا التسلسل الخبري المرتّـب بقصدية عالية، لا يتبقى من المشهد سوى سلطة جلبت لنفسها العنف، وأجانب اشتركوا معها في جريمة جلب المفجرين وأصحاب «الأجندات»، فنالوا جزاءهم العادل. حقاً، إنها مهارة صحافية عالية جداً، واجتهاد احترافي ملهم في البرمجة الشعورية! ولكن، لمصلحة من: الغرائز أم العقل والضمير؟
أما الصورة الثالثة، فنجدها في عدد اليوم ذاته من صحيفة «النهار»، التي اجتهدت في رسم لوحة مغايرة ظاهرياً للصورتين السالفتين. فلم تركز عدستها على الجانب الإنساني (الدم والأطفال والمدارس وعابري السبيل) وتغلبّه على الإشارات السياسية؛ ولم تركز على الجانب السياسي والخارجي، وتستبعد منه تماماً أي منظور إنساني. تتوقف عين «النهار» أكثر عند بيان الإدانة (اللغة وليس الصورة)، الذي أصدرته المعارضة السورية، وتسجل ملاحظة تاريخية مهمة، تقول: إنها المرة الأولى التي تقوم فيها المعارضة بإدانة عملية تفجير. (استخدمت الصحيفة كلمة «تفجير» بسيارة مفخخة يقودها انتحاري، تبعه انفجاران»! وتجنّبت استخدام عبارة «جريمة إرهابية». وهذا اجتهاد لغوي هدفه تحييد المشهد سياسياً!)
وكان واضحاً أنّ عدسة «النهار» سعت إلى توسيع مساحة النقل الإخباري الحيادي. لكنها لم تنجح في ذلك، لأنها صنعت لوحة منتقاة، نفعية، فيها قدر عال من الدربة الحذرة، والحذق في الصياغة، والهدوء المحسوب. لقد قاد ذلك إلى ظهور لوحة خالية من التوازن الأخلاقي الذي تمليه قوانين الضمير، في مثل هذه الأحداث اللاإنسانية المروعة، بصرف النظر عن تأويلها وتجييرها السياسي. لذلك بدت صورة «النهار» هشّة الداخل، رابطها الأعمق هو بناء هيكل حسن القوام، يروض المادة الخبرية، المثيرة، ويبهت مضمونها الانفعالي، الداخلي، الإنساني.
في اليوم التالي، أي في 23 شباط، أعادت «المستقبل» عرض الحدث مجدداً، لسبب غير معلوم. فلم يظهر في الخبر الجديد أي تطور نوعي، أو تكميلي، أو إغنائي يستدعي إعادة الخبر. بيد أن اللافت هنا، أن صانع الخبر الجديد حشر في ثنايا مادته عبارة لم يكن لها وجود أو أثر في الخبر الأول: «وبين الضحايا أطفال كانوا في المدارس». لماذا هذا الاستدراك الأخلاقي، بعد أن قام ضمير يوم 22 شباط بتنظيف المشهد من كل ما يمتّ إلى الإنسانية بصلة، بمن فيهم الأطفال؟
إن من يراقب ردود الفعل الدولية، يجد _ للمرة الأولى أيضاً _ أن وزارة الخارجية الفرنسية سجلت على غير توقع إدانة شديدة للحدث، ووصفته بـ«جريمة حرب». لهذا السبب غدا ظهور «أطفال المدارس» ممكناً، ومسموحاً به أخلاقياً في «المستقبل». هنا نعثر على ضمير محسّن، يقوم بتعديل بعض هفوات ضمير اليوم السابق، الانفعالية، ولكنه يثبت على نفسه صفة التجرد من مبادئ العقل والضمير، لصالح الهيجان السياسي، المغلّف بالعقل والمنطق النفعي.
وما دمنا في معرض الحديث عن تأثير الخارج في رسم الصورة الداخلية وأثره في تعديل أحكام الضمير، لا بد أن نتوقف عند الحدث الآخر الذي أوردته «المستقبل»، في اليوم ذاته (23 شباط). وهو الحدث الأبرز لذلك اليوم، ومفاده أن الجيش السوري الحر تمكن من السيطرة على منشآت نووية في دير الزور (موقع الكبر). وهو خبر جرى ابتلاعه سريعاً، لأنه أثار تساؤلات عميقة، منها: كيف يُشغل الجيش الحرّ، ويصرف جهده، وذخيرته الشحيحة، وقواه، من أجل السيطرة على موقع ليس له قيمة ميدانية وشعبية؟ هل بلغ به الترف القتالي هذا الحد؟ لكن بيان مؤتمر القاهرة الذي صدر بالتزامن مع «تحرير» الموقع النووي، والذي أعلن تشكيل حكومة تدير «الأماكن المحررة»، أجاب عن تلك التساؤلات بوضوح تام، قائلاً: نعم، للمواقع النووية أهمية عظيمة في حسابات المعارضة، لأن حكومة المناطق المحررة لا تدير البيوت المهدمة، والأحياء المفرغة قسراً من سكانها، والأحراج، والحواضن الطائفية فحسب، بل تملك أيضاً مواقع خطيرة، تهمّ مصالح الدول المجاورة والعالم أجمع. في هذا الحدث وإشارته الخارجية نعثر على إجابات واضحة، استعصت على كثيرين في الأسابيع الماضية، تتعلق بتصميم المعارضة على وضع يدها على موقع عسكري للبحوث العلمية في جمرايا، الذي حسمت إسرائيل أمره، بهجومها الجوي في كانون الثاني 2013.
في هذا الموضع نلاحظ شدة تأثير الخارج في رسم وتقرير ملامح الصورة الداخلية. فبعض الصور يجري رسمها قبل وقوع الحدث. تلك هي الصورة الإخبارية، المقررة دولياً، والموضوعة في جدول التوقيتات السياسية المعدة سلفاً.
حينما نتساءل عن دور العقل والضمير في رسم المشهد الإخباري، يجيبنا الإعلام السوري الرسمي ومناصروه بأن لوحتهم استبعدت الجانب الخارجي والدبلوماسي لأنها تريد التركيز على الداخل، وعلى المواطن السوري، وأنها أغفلت دلالات الجانب السياسي لموقع التفجير عمداً، لأنها تريد التركيز على الطابع اللاإنساني للعنف، الذي يضرب شعبها. وهو جواب يحمل قدراً من التبرير العقلي، النفعي، أي إنه حياد ناقص، يريد إرضاء الضمير، على حساب العقل والوعي.
ولكن، كيف تبرّر الذات إخفاقها التام في رؤية أكثر من مئتين وخمسين ضحية، وكيف تفسر عدم مقدرتها على رؤية الفاعل، (العامل الجرمي للتفجير)؟ ما الذي حجب عن عدسة «المستقبل» رؤية الدماء والمركبات المحترقة بركابها والمدرسة والأطفال والجثث المتفحمة؟ وكيف أحصت، بدقة متناهية، قتلى جنود النظام، الذين كانوا 19 قتيلاً من «قوات حفظ النظام» من بين 21 قتيلاً في تفجير شمال دمشق، و17 من بين 21 قتيلاً في تفجير المزة؟ وهذا يعني أن سوريا فقدت في التفجير الأخير ثلاثة مدنيين أبرياء، مقابل سبعة عشر عسكرياً قاتلاً. وهي نتيجة حربية رابحة، في تقدير المعارضين. لذلك جرت تزكيتها عقلياً، وتغليبها إعلامياً على مبادئ الضمير وقوانين الأخلاق.
أي معادلة وأي حوار جرى بين الأنا الأعلى (الضمير) والعقل، حينما رسم محرر الخبر هذه الصورة، المجردة تماماً من كل ما هو سوري، بمن فيهم القاتل، ومن كل ما هو إنساني، بما فيها المسجد والمشفى والمدرسة والطفل وعابر السبيل؟
في التفجير السابق، الذي ضرب دمشق العام الماضي، ظهر برهان غليون، في اليوم ذاته، مصرّحاً بأن لحوم الضحايا المتناثرة على الأرصفة هي لحوم حيوانات، جمعها «الشبيحة» من دكاكين الجزارين، ونثروها في الشوارع للتصوير. وقد صدّق غليون خياله البشع. تصريح غليون صورة خبرية أيضاً، مرسومة إعلامياً لحدث إرهابي، ابتدعتها مخيلة قائد من قادة العالم الديموقراطي المنتظر. كان بمقدور غليون أن يصمت، ويترك للتكفيريين مسؤولية تحليل أصناف اللحوم. لكنه آثر أن يرسم الحدث بنفسه، نياية عن القتلة، لكي يمنح المشهد الوحشي، المتحقق على الأرض، بعداً تعبوياً، تكميلياً، يضاعف من هول الجريمة. أين موقع العقل والضمير في هذا الضرب من الخيال السياسي؟ لا أثر هنا إلا للفصام النفسي والسياسي، تمت صياغته خبرياً، من طريق تثوير الخيال الغرائزي، وتغليبه على العقل والقيم الأخلاقية. لهذا السبب لم يظهر غليون هذه المرة. بدلاً منه ظهرت إدانة أجنبية، سايرتها إدانة مماثلة من قبل زعماء المعارضة الجدد، بدلاء غليون. في الحدث الإجرامي الأخير لم يعد بمقدور أحد الحديث بثقة عقلية أكاديميّة، وبنقاوة ضميرية حرّة، عن لحوم الجزارين، وعن الرغبة الحكومية في اختلاق مشاهد العنف. فقد وثّق الحدث الأخير صورة إرهابي يجري القبض عليه حيّاً، ووثّق جثثاً متفحمة، يصعب على جهاز الأمن السوري شراءها مشوية من مطاعم دمشق، ونثرها في موقع الجريمة.
إنّ الحياد في رسم صورة الموت غير ممكن شعورياً، لأنّه لا يوجد حياد في المشاعر أصلاً. وهو حياد ممكن عقلياً لغايات نفعية، سياسية أو شخصية. لكنه يظل، رغم حجم ما هو ممكن وغير ممكن فيه، يتعارض مع قوانين الضمير. فلا فرق إنسانياً بين تفجير دمشق وتفجير موكب الحريري، إلا إذا كان الحريري هو المدان، لأنه من استجلب التفجير إلى موكبه وشخصه.
بهذه الطريقة الإخبارية الانتقائية السافرة، غير المهذبة عقلياً وضميرياً، يفقد الصانع أدوات تقويمه للواقع، وتالياً يفقد مقدرته على إدارة سلوكه وردود أفعاله، فضلاً عن فقدانه سبل الاتصال الحيادي بالآخر، وبذاته المستنفرة إلى حدها الأقصى. هذا الميل المثير، لوحظ بوضوح مستفز للمشاعر في إعلام تيار المستقبل (افتتاحيات صحيفته، أخباره، تعليقات قادته، وفوضى توصيفات كتّابه ومعلّقي برامجه التلفزيونية)، الذي أخذ ينجرف بقوة، على نحو سريع، إلى حالة من الفزع الاعلامي، وإلى هوس وتطيّر عصابي، اسمه شبح «حزب الله» المرعب.
* كاتب عراقي