المشهد اليوم هو تهاوي النظام الذي تحكّم في البلد منذ استكمال انحلال الدولة، في الثمانينيات، عندما انهارت العملة الوطنية وتبددت قيمة الأجور والمدخرات، وتفككت الإدارات، وانقسم الجيش، واقتطعت الميليشيات أجزاءً من الوطن، حتى أتى اتفاق الطائف بترتيب دولي إقليمي، ليؤمن ائتلافها في صيغة بدلٍ عن دولة ضائعة، ومحتاجة إلى تحكيم خارجي دائم وحاسم. هدرت فرص سانحة بين عامي 1989 و1992 أولاً، بسبب التآمر، ثم عام 2005، عند خروج الجيش السوري، وعام 2009 مع حكومة الوحدة الوطنية، عن قلة جرأة أو معرفة.
هذا النظام بات عاجزاً عن أداء وظائفه اليومية، عاجزاً عن تعيين مسؤولين في المراكز الشاغرة، وعاجزاً عن معاقبة مرتكبين لمخالفات مشهودة، وعاجزاً عن إقرار موازنة وتقديم حساب. وهو عاجز عن إدارة الخلافات بين أركانه، فيستبد هذا بمجلس الوزراء ويعطل قراراته، ويخالف ذاك القوانين بمراسيم مزورة، وينام ذاك عن خرق الدستور، ويستعاض عن المرجعيات الدستورية بمزحة طاولة الحوار، وينتظر الجميع مؤتمرات في جنيف أو باريس أو الطائف أو الدوحة. هو نظام عاجز عن طمأنة الناس، فيبتدع أضحوكة نأي كل مسؤول بنفسه عن مسؤولياته، ويدوس هيبة الأمن والقضاء، ويترك الساحة لعصابات، بعضها يصول في المساحات العامة وبعضها يجول في المساحات الخاصة.
ولا يخفي عجزَ النظام المطلق صياح بعض ديوكه على... كراسيهم العطرة.
لكن تداعي النظام سمح بكشف مواقع السلطة الفعلية:
جماعة المضاربين والمحتكرين يصرحون بأنهم يطاعون ولا يطيعون، ويكلفون مجلس الوزراء تسجيل إملاءاتهم فينصاع، والسفراء يُهبطون الوحي على قادة مزعومين فيبدلون مواقفهم الكيانية، ولا تُردّ للسفراء رغبة، ويتذرع القادة حيناً بجهلهم وكسلهم وتقصيرهم، ويراهنون حيناً على شطارتهم في الدجل والنكث بالوعود، فيغذون العصبية والخوف عند «شارعهم» وهم على قياس زواريب، وبقدر انبطاحهم أمام مرجعياتهم، يتجبّرون على الناس، فلا يصححون الأجور ولا يحيلون السلسلة، ويفاوضون المعتدين على السلم الأهلي، ولا يقرون قانوناً للانتخابات.
باتت غاية النظام، منذ تعطله وانكشافه، كسبَ الوقت ليس إلا، وبات يتغذى، ليستمر، من نهش الدولة وهدم انتظامها، فراح يطيح تباعاً آليات الرقابة وهيبة القضاء ومنعة أجهزة الأمن والرعاية الاجتماعية والحريات، في أعين العاملين ضمن المؤسسات المعنية أولاً، ومن ثم في أعين المواطنين، وترك المجتمع بالتالي عارياً أعزل أمام مخاطر داهمة تهدد سلمه الأهلي.
إلى من نتوجه بهذا الخطاب؟ إلى مواطنين واثقين بحقوقهم في دولة تضمنها؟ طبعاً لا، وإلا فما بلغت وقاحة الوقحاء هذا الدرك. إننا نخاطب أناساً تُركوا في مهبّ اليأس فلجأوا إلى حماية الطوائف وقادتها، وأوكلوا إليهم حمايتهم من بعضهم بعضاً والنيابة عنهم في مراهنات خارجية متأرجحة وملتبسة، وهم عن ذلك عاجزون أصلاً. هل هذا قدر لا يُردّ؟ هل نحن محكومون بأن نخاطب طوائف صماء، أم في لبنان شعب ومواطن يسمعاننا؟
هل سأل النظام عن فلاحين هاجروا بمئات الآلاف من جبل لبنان وضاعوا في غياهب الدنيا، ثم هُجر من بقي منهم من غالبية المناطق بحكم مراهنات فاشلة، هل رأى فيهم موارنة أم مجرد فلاحين يبيعون رزقهم لدفع «الناولون» وشراء الفيزا؟ أين المارونية السياسية؟ هل سأل النظام عن تحويل شمال لبنان، بدءاً بعاصمته طرابلس، إلى صحراء اقتصادية وثقافية، تمزقها خطوط تماس بين الفقراء، هل رأى فيهم أهل سنة أم مجرد جموع يستأجرهم أصحاب المليارات، السنة طبعاً، في تظاهرات وانتخابات، فيمننونهم بمساعدة لإسكات المستشفى أو لشراء السلاح؟ أين الحريرية السياسية والاعتدال السني؟
هل سأل النظام عن أناس تعرضوا للاحتلال، ولعمليات نزوح وهجرة ودمار دامت عقوداً، ليحشروا أزلاماً في الإدارات، مياومين وعمال متعهد؟ هل رأى فيهم شيعة ومقاومين أم مجرد وقود للارتقاء المستعجل في سلم المال والجاه؟ أين الصحوة الشيعية وحركات المحرومين؟
واستطراداً، نسأل أرمن كيليكيا وسريان الجزيرة وأبناء فلسطين جميعَهم عن كلفة الركون إلى حمايات المجتمع الدولي المبجّل.
لا، ليست الطوائف هي التي تعوق قيام الدولة، بل الاستغناء عن عناء إقامة الدولة هو الذي يدفع اللبنانيين الحيارى إلى إعادة إحياء الطوائف، سواءٌ بوصفها قنوات لتحصيل منافعَ لا يؤمنها لهم النظام، مقابل بيع ولائهم، أو بوصفها دروعاً للاحتماء من مخاوف حقيقية وموهومة، تغذيها العصبيات الطائفية قدر ما تدعي الحماية منها.
تذكروا السبعينيات: أضرب التجار لإزاحة إميل بيطار لمّا أراد لجم احتكارات الدواء، فأزيح، وأضربوا لإبطال مرسوم إلياس سابا لحماية الصناعة، فأبطل، واغتيل معروف سعد، فانهارت الدولة بسبب انسداد أبواب التغيير الديمقراطي. ففتحت أبواب الجحيم، وانقاد الجميع إلى رهانات خارجية انتهت، مرحلياً، بتسويات خارجية أيضاً، فُرضت في الطائف ثم في الدوحة وغيرهما، وقد انهارت تباعاً. النأي بالنفس أكذوبة. لأن الدولة لا تنأى بنفسها عن المخاطر، بل دورها أن تحمي مواطنيها منها. دفن الرأس في الرمال لا يزيح الخطر، بل يتركه يتفاقم، فكيف إذا ترافق مع رهانات ملتوية حياله؟
إن لم يكن الشعب طوائف بالضرورة، بل ضحية مستباحة بعد هدر أربعين سنة من تاريخه، وتبديدِ نصف قواهُ الحية قتلاً وهجرة، وتحطيم آماله، وتشويه تاريخه، ومحو ذاكرته وراء عفو يبقيه فريسة أحقاد يخجل منها ويخاف، فمن هو الخصم؟
الخصم مجموعة من المقامرين الساعين إلى الصفقات، سواءٌ في السياسة أو في الاقتصاد، لا مواقف وسياسات عند هؤلاء ولا إنتاج وفرص عمل لائقة عند أولئك، بل متاجرة في الحالتين بالقلق وتصدير للشعب وبيع للأصول.

رسم ملامح مستقبل مختلف

ليس اليأس حتمياً، هناك مستقبل مختلف، وهو غير مصطنع، بل يبدأ، بكل بساطة، من استعادة أصول نشوء الدولة:
ليست الدولة اللبنانية، على رغم ما ألحق بأنظمتها من تشويه وقضم، بنتيجة شواذات تجرأ النظام عليها ثم على قوننة بعضها، ليست ائتلاف طوائف، بل هي دولة مدنية بالكامل. هي الدولة المدنية العربية الوحيدة. الدولة هي التي تنشئ الطوائف بالقانون، لا العكس، والانتماء إلى طائفة ما عمل اختيار فردي، بحكم حرية الاعتقاد المطلقة. الدولة المدنية حاجة، ليس للبنان وحده، بل للمنطقة كلها، وبدل أن تصبح اللبننة عنواناً لتفتيت الدول، فإن لبنان قادر على أن يصالح مجتمعات المنطقة مع ذاتها ومع الحداثة، وله مسؤولية ومصلحة.
ليست عدالة التمثيل وليس العيش المشترك بين طوائف، بل بين مواطنين، وإن أراد هذا أو ذاك حصر اقتراعه أو ترشحه في الإطار الطائفي، فليكن، لكن لا أحد يستطيع إلزام اللبنانيين بالاصطفاف في قطعان طائفية، وبحصر التمثيل السياسي فيها. كل تمديد لوكالة محدودة في الزمن باطل، وكل قانون يحصر التمثيل في مجموعات طائفية إكراهية باطل.
انتظام أداء المسؤول شرط لشرعية توليه مسؤولياته. عدم إحالة السلسلة المقرة في مجلس الوزراء أفقد نجيب ميقاتي صفته الرسمية، عدم وضع موازنات وعدم تصحيح الأجور عن سنة 2012 أفقدا وزيري المال والعمل ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية مشروعيتهم، ليس في نظر «الهيئات» والسفارات ربما، إنما في معيار تصديق المواطن لمرجعية الدولة والقانون.

إزاحة العثرات وتظهير البديل

يعرف اللبنانيون أن توصيفنا واقعي، لكن يبقى لديهم سؤال وجيه: كيف السبيل إلى قلب ميزان القوى وكسر حاجزي الخوف واليأس؟
الخصم أوهن من بيت العنكبوت. تكفي رؤية استماتتهم القلقة للاحتفاظ بكرسي وموقع هنا أو بحظوة هناك لدى أصحاب السلطة الفعلية، لكن العلة تكمن في ما تراكم لدى القوى الديمقراطية والليبرالية والقومية والاشتراكية جميعاً من عُقد وقيود وارتهانات خلال ليل الهزائم الطويل. قوى التغيير مقصرة، وقد انزلقت إلى التدجين والاستتباع، لكننا دخلنا في زمن تغيرات كبرى، في العالم، وفي المنطقة، وفي غليان يجتاح مجتمعنا ويجيّش شبابنا. وبات اليوم ممكناً وضرورياً استعادة التراث السياسي لهذا المجتمع، بروافده كافة، وتحريره من أسر الاتهامات والتخوين لإعادة إحياء العمل العام والثقة بجدواه، ولا سيما لدى الشباب. فكيف؟
أولاً بفرض جدول أعمال متحرر من جدول أعمال النظام، وغير قابل للاختزال ضمنه. ليس المطلوب أخذ موقع في اللعبة، بل تغيير قواعد اللعبة. ولا يجري ذلك بالخطاب فقط، على أهمية تحرير الخطاب، بل بالنضال والمنازلة. أولوياتنا مختلفة عن أولويات النظام: إرغام الدولة على إنصاف هيئة التنسيق النقابية، وعلى حماية الحريات المدنية، سواء لمعلمي القطاع الخاص أو لعمال سبينيس والمطار أو لموظفي المصارف، وعلى استعادة الأملاك العامة، وعلى توفير التغطية الصحية، وعلى مجانية التعليم الأساسي، وعلى محاكمة الموقوفين، وعلى تسليح الجيش، إرغام الدولة على أن تكون دولة، ليستعيد المواطن شعوره بأنه مواطن.
ثانياً باكتساب مواقع في معركة التغيير: من خلال دفن تركيبة اتحاد العمالة العام، وتحرير الإدارة العامة من الابتزاز، وإعادة الاعتزاز إلى القضاة والجنود والإداريين، فيبادرون إلى أداء أدوارهم دون توسل غطاء يعجز النظام العاري عن منحه لنفسه، وتثبيت الحريات الشخصية للأجراء والشباب والنساء والإعلاميين.
ثالثاً برفع سقف المطالبة ليرفع المواطن رأسه: ليس الموضوع موضوع زواج مدني، بل استعادة المشروعية المدنية للدولة وللمواطنة، ليست المسألة مطالبة اجتماعية، بل فرضٌ لانتظام الدولة وللعدالة الضريبة، ليس الموضوع احترام شكليات المالية العامة، بل حشدٌ للموارد البشرية والمالية والطبيعية لخدمة المجتمع بأسره، لا حفنة من الانتهازيين.
نعم، هناك مشروع بديل وهناك أيضاً مرجعية بديلة، لكن يجب أن نطورها، معاً، بالنضالات.
ليست المسألة بين أطهار وأرجاس، بل قوامها أن مرحلة عمرها أربعون سنة تنتهي وأخرى يمكن بدؤها، ويجب بدؤها الآن، وتخطي ترسبات الماضي وجراحه، لأن مجتمعنا في خطر. الخطر حقيقي وداهم، النظام القبيح يتهاوى، فالمبادرة واجبة، والتغيير ممكن.
(بيان سياسي ألقيَ باسم اللقاء التنسيقي للقوى الديمقراطية خلال تظاهرة لقوى ديمقراطية وعلمانية رفضاً لـمشاريع قوانين الانتخابات المذهبية، وحماية للسلم الأهلي، ودعماً لهيئة التنسيق النقابية)
* وزير لبناني سابق