يقف المثقفون موقف المتفرّج أمام أحداث جسام من مثل التي جسدها الأخذ بمشروع الانتخاب على أساس مذهبي. يتركون أمر التدخّل والتعليق على هذه الأحداث إلى من يتولون المتابعة اليومية. خرق الدكتور ناصيف القزي هذه القاعدة برسالته التي نشرتها «الأخبار» في 25 و26 شباط. قال إنّ ما يجمع مارونياً من الشوف وآخر من أي منطقة من لبنان، ليس أكثر مما يجمعه بمن يجاوره من أبناء الطوائف الأخرى، الذين عاش معهم وتقاسم وإياهم «الحياة في مرّها وحلوها». قال إنّ «المشروع الأرثوذكسي» يضرب أسس الهوية اللبنانية. وحذّر من الحساسيات التي سوف يثيرها بين الناس، والتي سيدفع ثمنها أولاً مسيحيّو الأطراف. قال إنّ اعتماد هذا المشروع يؤدي إلى إقامة «فدرالية مجتمعية»، يمكن اختلاق أحداث ملائمة لتحويلها إلى «فدرالية جغرافية». ولمَ لا يكون ذلك من نوع «الدِّكة» التي ارتاع المطران إبراهيم الحلو من خفّة من عرضوها أمامه؟يمكن القول إنّ المنحى الذي سارت فيه الأمور نحو اعتماد «المشروع الأرثوذكسي» من قبل قوى سياسية مختلفة، هو مآل اعتيادي للأنظمة القائمة على «التوافقية». تخلق هذه الأنظمة مكونات ما _ دون _ وطنية، وتعترف اعترافاً صريحاً بحقها في التمثيل السياسي، وتغالي في الحقوق التي تمنحها لنخبها. وهي تؤدي إلى شرعنة العزل العمودي لمكونات المجتمع، وتفسح في المجال أمام نخب هذه المكونات لكي تزايد «إثنياً» _ هنا طائفياً ومذهبياً _ ما شاء لها ذلك. تستقوي «التوافقية» بمفاهيم من مثل «التعددية الثقافية الليبرالية». تسوّق الدوائر السياسية الغربية هذا المفهوم لتخريب بلدان العالم الثالث، وترفض قطعياً إعطاءه أي صلاحية في إدارة الشؤون الداخلية لبلدانها. يكون مآل أنظمة «التوافقية» المزيد من الانقسام والشرذمة، خصوصاً حين تضعف الدولة المركزية. غالباً ما ينفرط عقد الدول الوطنية التي تعتمد هذه «الوصفة»، وتذهب إلى التقسيم. هذا ما تأكّد منه باحثون درسوا تجارب بلدان انتهت انقساماتها إلى التقسيم الفعلي. وقد عبّر بول براس عام 1992 عن خيبته، في ما كتبه عن لبنان بعد «اتفاق الطائف».
مكوّن أساسي من مكونات خطاب النخب الطوائفية هو خطاب المظلومية. في تجربة تدمير يوغوسلافيا السابقة، كانت النخب الصربية لا تنفك تستعيد ذاكرة معركة «كوسوفو» مع الأتراك التي حصلت عام 1389 للتعبئة، وتلغي سبعة قرون من العيش معاً. كل النخب اللبنانية تعتمد خطاب المظلومية، كل على طريقته. وفي هذا الخطاب إسفاف وديماغوجية. وقد حذّر الدكتور القزي من انتصارات تكون كلفتها أفدح بما لا يقاس من المكاسب التي توفرها.
المضحك المبكي أن أحداً ممن يشكك المشروع في شرعية تمثيلهم، أي قسماً من النواب الحاليين، لم يخرج ليدافع عن نفسه ويدحض الخطاب الذي ينزع عنه صفته التمثيلية. لا أحد من المواطنين يعرف لماذا سيكون الجهابذة الذين يأتون بفضل أصوات ناخبيهم المذهبية أفضل من غيرهم، ولماذا يفترض أن فيهم كفاية لا يملكها الآخرون. تنتمي هذه «التعبئة على قاعدة الهوية» إلى ما تسميه ماري كالدور «السياسة من دون مضمون». وهي تعكس «وطنية جديدة» كما تسميها الباحثة نفسها، هي نكوص عن نموذج الدولة الوطنية الغربية الأصيلة، التي حملت للعالم دولة القانون وحقوق الإنسان.
ما الذي جناه المسيحيون من عقود من «التعبئة على قاعدة الهوية» غير سقوط مكانتهم وتعجيل زوالهم بالإحباط والهجرة. استخدم الأميركيون لبنان حقل تجارب على امتداد الحقبة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. كادت تجارب المسيحيين أن تودي بهم بالكامل ككتلة بشرية. يركّز الدكتور قزي على عنصري التجربة المعيشة والتجربة التاريخية الطويلة للتأكيد أن رهانه على الدولة الوطنية اللبنانية ليس موقفاً طوباوياً، وللتأكيد على الثقة بالآخر. الحجج التي يقدمها لتسويغ الكيان اللبناني أو الدولة الوطنية كافية. لكنه يذهب إلى خطاب السينودس وما تشدد عليه البطريركية المارونية كل يوم في باب «المحبة والشراكة»، لحثّ المسيحيين على الخروج من خوفهم والذهاب نحو الآخر.
ماذا لو كان رفض التقوقع والإيمان بالدولة الوطنية ما يلهم المسيحيين ويسدّد خطاهم في الآتي من الأيام؟ ماذا لو اعتمدوا مشروعاً انتخابياً على أساس النسبية مع لبنان دائرة واحدة والمناصفة؟
* باحث لبناني