انفتح النعش المغطّى بالورود، فتوقف الموكب الجنائزي، وتوجهت الأنظار إلى أعلى العربة العسكرية، وسرت همهمات مكبوتة وتلاشت فجأة. بعد لحظات، ظهر الرفيق الفنزويلي من النعش يتمطى متثائباً، ثم التقط ساعته البوليفارية بتكاسل من يستيقظ من النوم. حدّق فيها لهنيهة، ثم عقدها حول معصمه، وقفز من النعش.
كنت بحكم صدفة، ما، أقف في المكان العجيب الذي جعل وجهي بوجهه، وعيناي بعينيه، لحظة استوى واقفاً بعد قفزته الجسورة. وهالني أن أرى أنه لم يدرك بعد ما يحدث، فاندفعت أقول بلا وعي: انتظر يا رفيق. إنّهم يشيّعونك الى مثواك!
جحظ بوجهي، وقال: بل هو الثامن من آذار يا رفيق!
قلت له: بل يوارونك في الثرى.
قاطعني: الأرض تستحق ما هو أفضل من جثة هامدة. انظر إلى تلك الورود!
وأشار إلى الأزهار التي تغطي النعش المفتوح في أعلى العربة العسكرية. ثم تطاول بجسده، والتقط قرنفلة حمراء. تأملها، ثم خطا يهمّ بالابتعاد؛ فهتفت به ملهوفاً:
إلى أين تمضي يا رفيق!
نظر إليّ مستغرباً لوهلة، وقال: سأهنّئ امرأة، هنا، بالجوار!
وهمّ يواصل خطوه، فهتفت متفجعاً أكاد أبكي: انتظر يا رفيق!
تريث ونظر إليّ بصمت، مستطلعاً، فرحت أردّد بحرقة:
لقد متّ يا رفيق. لقد اغتالوك يا رفيق. لقد قتلوك يا رفيق. ألا تدرك ذلك!؟
قال: وماذا يعني هذا!؟ ألا أهنّئ امرأة بالجوار!؟ لا. لا أظنّ ذلك!
قلت، أتوّسله أن يصغي لكلماتي: أعني أنهم يسجنونك في فناء أعدّوه لك. فليس بوسعك بعد. ليس بوسعك بعد أن تفعل.
لقد سجنوني قبل الآن، ولم يمنعني السجن. كنتُ دائماً أهنّئ امرأة، هنا، بالجوار!
قلت: لا تنس أنك كنت مريضاً حتى الموت...!
قال: وأنت أيضاً يا رفيق، لا تجزع، ولا تدع الموت يشغلك.
هتفت في إثره، أرجوه منتحباً: انتظر يا رفيق. انتظر!
التفت إليّ، خلفه، دون أن يتوقف، وقال:
لا عليك. الأمر أسهل وأجمل مما تتصور. ولكن فقط التقط وردة وهنّئ امرأة بالجوار!
وغاب وراء المنعطف، فيما وقفت أعلّق نظراتي بتلك الزاوية التي اختفى وراءها، وبيده قرنفلة حمراء، ليهنئ امرأة ما بالجوار، لم تصدّق أنه مات، فلم تغادر حديقتها، ولم تسر في الموكب الجنائزي الذي تهادى حزيناً في شوارع كراكاس اليوم. ولبثت أنتحب في مكاني؛ فجاءني صوت مألوف يقول بأناة وشرود:
لقد قلت له: يمكنك أن تفعل أي شيء. أي شيء تريده، ولكن ليس بوسعك أن تموت!
نظرت، فوجدت إلى جواري ذلك الرفيق الكوبي ذاته، بوجهه المألوف وبقايا لحيته الكثة، وجسده الطويل والفارع رغم الشيخوخة. كان كذلك يعلق نظراته بذات المنعطف الذي غاب وراءه الرفيق الفنزويلي.
وشعرت أنه كان على سمع ورؤية من كل ما قد دار وحدث، فقلت مستجيراً به:
أترى... إنه لا يدرك، بعد، أنه مات!
رد الرفيق الكوبي دون أن يرفع نظره عن المنعطف:
بل لا يدرك، بعد، أنه ما يزال على قيد الحياة!
قلت: ألا يجدر بنا أن نلحق به لنتداركه ونوقفه؟!
هزّ رأسه غير محبّذٍ، بينما همس:
لا، لا يجدر بأحد أن يفعل. أنا أعرفه: لن يوقفه أحد.
فأشرت إلى الجموع الحائرة في الموكب الجنائزي، وقلت:
فما علينا أن نفعل؟
قال: ألا ترى...؟! إنه الثامن من آذار. علينا فقط أن ننتظر الرفيق ريثما ينتهي من تهنئة امرأة يعرفها بالجوار!
* كاتب أردني