أخطأ الذين ظنوا أنّ المرور الثاني للرئيس نجيب ميقاتي في رئاسة الوزراء سيكون مروراً سريعاً وعابراً كما في المرة الأولى (2005). لقد تبيّن أن ميقاتي يخطط لبقاء طويل في الموقع التنفيذي الأول في البلاد، وأنّ مروره الأول كان بروفة أرادها، يومها، أن تكون واثقة ومطمئنة وناجحة، وهو نجح، بالفعل إلى حد كبير، في ذلك. تشير كل ممارسات الرئيس ميقاتي وسياساته، في السرايا الكبيرة، إلى أنّ الرجل يملك خطة متكاملة لاكتساب شرعية الحصول على الموقع ومشروعية البقاء فيه في المراحل المقبلة. وهو، كما تدل الوقائع المتراكمة يوماً بعد يوم، لم يكن «فلتة شوط» أو مرحلة استثنائية لا تلبث أن تنتهي وتعود الأمانة إلى «أصحابها» من ورثة الحريري في عائلته وتياره السياسي.
أما عناصر الخطة المتكاملة المشار إليها، فقد تمثلت في المحاور الآتية:
اكتساب شرعية التمثيل «السني» وتعزيزها وكسر احتكار تيار الحريري لها. وقد جُسِّد ذلك من خلال الإصرار على تمويل وتكرار تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، خلافاً لتوقعات الخصوم وتعهدات الحلفاء (خصوصاً قيادة حزب الله). كذلك فقد خاض الميقاتي معركة مبكرة من أجل توفير الحماية لكبار الأمنيين الذين كانوا ذراع الحريرية في أجهزة وزارة الداخلية خصوصاً. وهو بذلك، أيضاً، قد فاجأ، بشكل مباشر، توقعات خصومه وتعهدات حلفائه (خصوصاً قيادة التيار العوني). بذلك، نجح الرئيس ميقاتي، ودون مواربة من قبله (حين كرر مراراً أنّه يمثل «السنّة» في الحكم) في تتفيه شعار طالما ردده تيار المستقبل من أن الميقاتي هو مجرد واجهة لسلطة حزب الله ولهيمنته على الحكومة.
في امتداد ذلك، اجتهد ميقاتي في إثبات أنه مدعوم عربياً ودولياً، خلافاً، لما روج خصومه، بنحو نزق ومتعال، بأنه منبوذ ومرفوض وطارئ ومرتكب ومغتصب! وهو جسد ذلك في شهادات، ولقاءات وزيارات لم تستثن السعودية نفسها، مربط خيل آل الحريري ومرجعهم ومصدر قوتهم ودورهم وثرائهم. وفي مقابل تصرفات هائجة وطائشة ورعناء لقيادة حزب المستقبل، قدم ميقاتي نفسه رجل دولة وعنصر استقرار، وخصوصاً بعد أن تكاثرت الحماقات وطاولت أمن المواطنين واستهدفت الإعلام والإعلاميين، وكان آخرها «غزوة» السرايا في مأتم اللواء وسام الحسن وما انطوت عليه من تسرع واستغلال، وما رافقها من خفة ومراهقة وارتجال. وفي كل الأوقات، كان ميقاتي وفريقه يراقبان تراجع نفوذ تيار المستقبل، وبشكل خاص، ارتخاء قبضة رئيسه سعد الحريري الذي فضل البقاء خارج لبنان، مع ما لذلك من تأثير معنوي وعملي سلبي على دوره وعلى تماسك فريقه وحزبه. وأرفق ميقاتي ذلك باستخدام موقعه على رأس الإدارة لجذب الكثيرين من أصحاب الحاجات والمصالح، موفراً لهم، عبر السلطة وعبر قدراته الخاصة، ما كان يوفره الحريري الأب لأمثال هؤلاء. صادف ذلك مرحلة طويلة من المتاعب المالية لدى الحريري، التي تركت في صفوف المستفيدين منه والعاملين لديه الكثير من الاستياء. وفي مجرى ذلك أيضاً، لم يتردد ميقاتي في مدّ يد المساعدة والاحتضان لمجموعات سلفية كانت تدور في فلك الحريرية وتتغذى من مساعداتها. قضية الإفراج عن شادي المولوي كانت إحدى العلامات الفارقة التي ما زالت حاضرة في أذهان اللبنانيين!
وإذ ترافق بدء عمل الحكومة الميقاتية تقريباً، مع اندلاع الأزمة السورية، وخلافاً لما كان يتوقع الخصوم، اتّبع ميقاتي سياسة «النأي بالنفس» كي لا يغرق في تلك الأزمة. ساعد في ذلك توجه من قبل خصوم النظام السوري لحصر الأزمة السورية في سوريا دون سواها. تحييد لبنان كان جزءاً من خطة هؤلاء الذين قدّروا أن اندلاع أزمة في لبنان سيوفر للنظام السوري أوراقاً خارجية هو بحاجة إليها، وسيؤدي إلى إبعاد الأنظار عن الأزمة السورية نفسها. وتباعاً، طوّر ميقاتي سياسته «الوسطية» متمايزاً عن النظام السوري وعن علاقاته المعروفة بقيادته في أرفع مستوياتها. وهو حصد الكثير من الثناء الخارجي على سياسة «النأي بالنفس»، فيما كانت العزلة تشتد حول عنق خصومه المحليين ومن يدعمهم في قيادة السعودية خصوصاً.
وفي الحقل الاقتصادي الاجتماعي، أثبت رئيس الحكومة أنّه تلميذ «نجيب» حقاً لمنافسه، الآخر، فؤاد السنيورة: بل إنّه يفوق السنيورة عناداً وصموداً في الدفاع عن الكتل المالية والاحتكارية والتجارية الكبرى للبورجوازية اللبنانية. وها هو يخوض معركة شرسة ضد مطالب «هيئة التنسيق النقابية» وتحركاتها. وهو يستطيع أن يقول بكثير من الاعتزاز، إنه استطاع أن يوفّر لهذه الكتل من المساندة ما كان يعجز السنيورة عنه بسبب أسلوبه المعروف الذي حوّله إلى «محاسب» ممقوت من قبل الأكثرية الشعبية اللبنانية، حتى في عزّ أيام ازدهار الحريرية وصعودها. وفي موضوع قانون الانتخاب، يخوض ميقاتي معركة صريحة ضد مشروع القانون «الأرثوذكسي». وهو يستطيع من خلال ذلك أن يثبت أيضاً أن مقاومته للمشروع أفْعَل مما يستطيعه حزب المستقبل ورئيسه، وخصوصاً أن حلف 14 آذار يعاني، هو الآخر، مثل «المستقبل» من التبعثر والتفكك.
بكلام آخر، يقدم السيد ميقاتي أوراق اعتماد فعالة، لكي لا يكون مجرد رئيس حكومة موقت يُستعان به في الأزمات والاستثناءات، بل لأن يصبح الرقم الصعب، وحتى الأول، في لائحة نادي رؤساء الحكومات اللبنانية.
لقد استشعر ميقاتي فراغاً كبيراً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وكان هذا الفراع يتفاقم باستمرار، وخصوصاً بعدما أثبت الحريري الابن أنه ليس بالعاطفة وحدها تقاد المؤسسات وتتبلور المواقف وتستمر القيادة. ثمة أمور أخرى أسهمت هي أيضاً في تراجع تيار المستقبل وضعفه. منها ما هو خارجي، ومنها ما هو داخلي. ولقد استغل ميقاتي هذه العوامل ليقترح زعامة جديدة لخلافة رفيق الحريري على رأس الطائفة «السنيَّة»، سواء كان الخليفة من عائلة المغدور نفسه أو من أقرب أصدقائه، أي الرئيس فؤاد السنيورة!
لا يعوز ميقاتي المال، وهو، في لائحة «فوربس» مع أخيه، متفوق على ثروة سعد المتراجعة باستمرار. ولا يشكو ميقاتي من نقص البراغماتية أو المرونة أو التصميم. وهو، بالمقابل، يتمتع بفائض لا يقدر من «الوسطية» المفتوحة، بالضرورة، على كل الاحتمالات والمتغيرات.
هل، بعد ذلك، يبقى ثمة غموض حول السؤال الفكاهي الذي يُنسب إلى الرئيس السنيورة: «بس يروح نجيب مين بدنا نجيب»؟! بل هل يبقى من مبرر للسؤال نفسه؟!
مع ذلك، إنها «شطارة» ميقاتية في نطاق نظام يزداد تأزماً وإفلاساً. أما الحل ففي مكان آخر تماماً، وبنهج مختلف جذرياً!
* كاتب وسياسي لبناني