إذا أردت أن تفسد علاقة بين اثنين، فازرع لدى أحدهما (أو كليهما) وهماً عن نوايا مبيّتة وأفعال معدّة لدى الآخر، ثم دع الوهم يفعل فعله. هذا ما حصل إلى حدٍّ بعيد بين السنّة والشيعة، حيث عُمل ويُعمل الآن على صناعة الوهم بينهما. فمن هلال الى مدٍّ إلى مساعٍ لتشييع السنّة، إلى غيرها من الدعاوى التي ليس لها أي أساس من الصحة.
بمعنى أنه ما من مشروع شيعي لتشييع السنّة، كما أنه ما من مشروع سنّي لتسنين الشيعة. ولو فرضنا _جدلاً _ أن أحداً ما من الشيعة أو من السنة تبنى شيئاً من هذا، هذا لا يعني أن جميع السنّة أو جميع الشيعة لديهم هذا التوجه، وأنّه تحول إلى مشروع عام يتبناه السنّة أو الشيعة، أو أن الشيعة أو السنّة يوافقون على أي عمل قد يُساء استغلاله لتسميم العلاقة بينهما.
لقد تحولنا إلى قبائل، بحيث أصبحت كل قبيلة تخاف على نفسها وأفرادها من أن يتسرب أحد منهم إلى القبيلة الأخرى، لأن العدد في المنطق القبلي له أهميته وله حساباته في القوة العددية، وإذا ما تعزز ذلك بوهم الاستهداف من القبيلة الأخرى، أصبح مبرراً اللجوء إلى اجراءات احترازية عديدة، ولربما غير عقلانية لحماية أفراد القطيع من الشرود والضياع!
والذي يُعمل عليه هو تعميق ذلك الخوف، ومحاولة توظيفه لخدمة أهداف يُفصح عنها على نحو واضح، تتمحور حول اشعال الفتنة بين المسلمين السنّة والشيعة، وجعل العلاقة بينهما قائمة على فوبيا التشيّع والتسنّن، أو الشيعة فوبيا والسنّة فوبيا.
إن ما يسهم في صناعة ذلك الوهم، هو استغلال قضايا صغيرة وأحياناً تافهة، وتضخيم حوادث محدودة، وافتعال أمور غير صحيحة، أو اختلاف قصص غير دقيقة؛ وفي الكثير من الحالات فإن ما يحصل هو سوء فهم لأمور تقع، بحيث تفهم على غير وجهها، وتعرض بما يخالف حقيقتها، فضلاً عن بعض القنوات التلفزيونية أو الشخصيات الدينية وغير الدينية، ومدى ارتباطها بجهات تريد تعميق الانقسام بين السنّة والشيعة، وتحويله إلى حرب مذهبية طاحنة بينهما. وليس بعيداً عن ذلك كلام وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر عن حرب المئة عام بين السنّة والشيعة. ويحسن بنا أن نعترف بأننا نعاني ندرة في العقلاء، الذين يمتلكون وعياً يتجاوزون به الكمائن المذهبية والمزالق الطائفية؛ والذي ينتظر من علماء الدين أن يكونوا على مستوى كبير من الوعي والعقل لدرء تلك الفتنة، كما ينتظر من المؤسسات الدينية ـــــ التي يراد لها أن تنزلق إلى مهاوي ذلك الوهم وافرازاته _ وخصوصاً التي تمتلك تأثيراً كبيراً في صفوف الأمة؛ أن تعمل أقصى ما لديها من شعور بالمسؤولية، ومن مخزون في الوعي، حتى لا تسمح بالانزلاق الى شرك ذلك الوهم، والوقوع في شباكه.
■ ■ ■
أثنى قوم بحضرة الرسول (ص) على رجل ...؟ فقال رسول الله (ص): كيف عقل الرجل؟ فقالوا يا رسول الله نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير؟ وتسألنا عن عقله؟! فقال (ص): إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر.
ألا نخشى في زماننا من البعض، حتى لو كان يحمل شيئاً من العلم، ممن يمكن أن يصيبنا بحمقه فتنة وانقساماً وتنازعاً وإراقة للدم المحرم، وهو يظن أنّه يعمل بأمر الدين وينصر الملة؟ أين عقلاء القوم الذين ترجح عقولهم مزالق الفتن، وتغلب ألبابهم أشراك العصبية والمحن؟ مع أنه في زمن الفتنة فإن صوت العقل يخبو، ونداء الجاهلية يعلو؛ مرة تعليه الحمية ومرة باسم الدين.
ولعل أكثر ما أسهم في تأجيج العصبيات المذهبية، هو ذلك الجدل المذهبي الذي كان يجري على بعض القنوات التلفزيونية _ بغض النظر عن دوافعها _ حيث كان يعتقد كل طرف أنه ينتصر بذلك لمذهبه، غافلين عن أن حجم الضرر الذي سوف تخلفه تلك البرامج والقنوات، سوف يفوق أضعافاً مضاعفة أي فائدة يمكن أن يرتجيها لمذهبه وملته.
ثمّ ليحدث بعد برهة من الزمن توالد مطرد في القنوات الدينية والمذهبية، يسهم العديد منها في التحريض المذهبي، والانقسام والتنازع وصناعة ذلك الوهم. يحق لأي كان أن يكون له وسيلته التي يعبر من خلالها عن قناعته وأفكاره، لكن بموضوعية وأسلوب علمي، ومن دون أية إساءة أو استفزاز للآخر، ومن دون استخدام تلك الوسيلة في التجريح والطعن في الآخر، في عقائده وقناعاته وأفكاره؛ بل يجب توظيف تلك الوسائل في ممارسة التقريب، وتحقيق الوحدة، وتعزيز ثقافة الحوار والعيش المشترك، والحصانة من التفرق والتنازع والفتنة.
إنّ الذي يدفع إلى التحذير من ذلك الوهم هو خطورة التداعيات التي تترتب عليه، والآثار التي بدأنا نلمسها له، وخصوصاً بعدما سمع أكثر من كلام من مؤسسات دينية أو شخصيات علمية كان ينتظر منها أن تكون من أكثر العاملين على تبديد ذلك الوهم والتحذير من مخاطره وأضراره، لأنه إذا استحكم فإنه سوف يؤدي إلى ما يلي:
_ إيجاد أكثر من تصدع اجتماعي بين الشيعة والسنّة، وزيادة الانقسام بينهم، ونحن نعلم حجم التداخل بين المذاهب الإسلامية والاندماج الحاصل بين أبنائها والزواج المختلط بين تابعيها وعلاقات القربى لديها؛ فهل يدرك من يعمل على استحكام هذا الوهم ماذا يفعل بجميع هؤلاء؟
_ نوع من الإرهاب الفكري الذي يمارس على نحو متبادل بين المذاهب الإسلامية؛ بحيث أنه كلما أراد أحد ما أن يعبّر عن آرائه وقناعاته فسوف يعدّه الطرف الآخر تبشيراً بمذهبه، وسوف يحاول قمعه وممارسة الكبت بحقه.
_ تسميم العلاقات بين السنّة والشيعة، وزيادة التوترات المذهبية بينهما، والدفع بتلك العلاقات إلى أسوأ حالاتها، ومنع أي تواصل إيجابي وبنّاء بين تلك المذاهب الإسلامية.
_ تخريب المساعي للوحدة والتقريب بين المسلمين، لأن البعض سوف ينظر حتى إلى تلك الجهود التي تبذل في إطار الوحدة والتقريب، من منظار ذلك الوهم والمقولات المستلّة منه.
_ الإغراء بحرمان بعضنا بعضاً أبسط حقوقه التي قد يطالب بها، فلو طالبت _ على سبيل المثال _ أية أقلية مذهبية (سنية أو شيعية) ببناء مسجد لها، فسوف يجابه هذا الأمر بالرفض: لماذا؟ لأن هذا المسجد سوف يفسر بناؤه تفسيراً نابعاً من ذلك الوهم، كأن يقال مثلاً: سوف يؤدي إلى تحول مذهبي في المجتمع!
_ اعطاء ذرائع للعديد من المتطرفين في الغرب، أو المصابين بالاسلاموفوبيا في المجتمعات الغربية للإمعان في مواقفهم ضدنا كمسلمين؛ فلو توجهنا إليهم بالسؤال لماذا لا تقبلون أن نمارس حريتنا الدينية؟ سوف يقولون أنظروا إلى ما تفعلونه _ أنتم كمسلمين _ ببعضكم بعضاً، ثم عودوا واسألونا؛ نحن لا نفعل أكثر مما تفعلون.
_ التجهيل ببعضنا بعضاً، بمعنى أن كل طرف سوف يكون مدفوعاً من ذلك الوهم إلى عدم الاستماع إلى الآخر، لأنه يستهدفني مذهبياً! ليُترك الميدان للشائعات المذهبية، والمخيال الشعبي، ليشكلا فهمنا للآخر! ولنعتمد بدل «تعارفوا» تجاهلوا وتناكروا.
_ سوء الظن وعدم الثقة بعضنا ببعض، فلو استشرى هذا المرض (الوهم) بيننا فسوف يهدم أي أسس لعلاقات صحية يمكن أن تقوم بين مختلف المذاهب الإسلامية، بما فيها بين السنّة والشيعة، فعندما تنعدم الثقة ويستحكم سوء الظن، لن يكون من السهل أبداً قيام علاقات سوية، بل إن الأوضاع تصبح مهيأة أكثر لتأخذ منحى أكثر انحداراً وخطورة.
_ إن من أخطر ما يمكن أن يؤدي إليه ذلك الوهم، هو ترك الساحة للجهلة والمتعصبين وضعيفي العقول، الذين يسهل لأية مؤامرة تستهدف زرع الفتنة بين المسلمين أن تركبهم وتتخذهم مطية لها.
_ القضاء على ثقافة الوحدة والتنوع، وقبول الآخر، والإضرار بالعيش المشترك بين المسلمين، والإساءة إلى علاقات التعاون والاندماج والتواصل بين السنّة والشيعة.
_ التشجيع على ثقافة الإقصاء والإلغاء، والترويج للتكفير وتهميش التفكير، وتغذية ثقافة الرفض للآخر وعدم قبوله، مما يدفع إلى رفض المذاهب الإسلامية لبعضها بعضاً، وتنمية التطرف فيما بينها، والوقوع في آفة الانغلاق والتقوقع على الذات.
_ القضاء على ثقافة التنوع في مختلف المجالات الاجتماعية الأخرى، سواءٌ أكانت سياسية أو ثقافية أو غيرها، لأنّ من يرفض التنوع سوف يرفضه، سواءٌ في بعده المذهبي، أو في أي من أبعاده الأخرى، ومن لا يستطيع أن يتقبل التنوع في إطاره الاسلامي، لن يتسع صدره لأي تنوع آخر، سياسياً كان أم غير سياسي.
_ انشاء مجتمعات مأزومة تقفل الباب على إمكانيات التنمية والتطوير والحداثة، لأن شرط ما تقدم تعزيز ثقافة النقد والاختلاف، واعطاء هامش للحرية والتنوع والرأي الآخر، أما عندما يسود التطرف والإقصاء والإلغاء، فلن تتوافر تلك البيئة الاجتماعية والثقافية المساعدة على التنمية والتطوير.
_ تعقيد أية عملية تعاون فاعل _ قد يرتقي إلى نوع من التحالف الاستراتيجي لاحقاً _ بين الثقل السني والثقل الشيعي في المنطقة (كما بين مصر وإيران مثلاً) لأن هذا الأمر يخيف إسرائيل، وترفضه أميركا؛ والسبب في ذلك أنه يضر بمصالحها في المنطقة، ويخدم _ لو حصل _ هدف تحرير فلسطين، ويساعد مقاومتها والصراع معها؛ ويسد الباب على مشروع الفتنة السنية الشيعية، التي يبشر بها كيسنجر.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية