الشيخ شفيق جرادي*ضمن الحوارات الهادئة التي اعتدناها من أستاذ مصريّ إسلاميّ (فهمي هويدي)، رسالة كان قد وجهها إلى من أرسل من بعض العلماء الإيرانيين ما أطلق عليه أستاذنا اسم «رسالة العلماء الإيرانيين إلى الرئيس محمّد مرسي»، وقد رأى فيها أنّه لا حاجة لمصر إلى دعوات إيرانيّة بشأن تطبيق ولاية الفقيه في بلاد عمرت بالعروبة وانتهجت إسلاماً لا علاقة له بالخصوصيّة المذهبيّة للشيعة. وإنّي، وإن كنت أعرب عن موافقتي على بعضٍ من نتائج هذه الردة من الفعل عن هويدي، وكثيرين من أمثاله على طول امتدادات العالم العربيّ السنّيّ منه والشيعيّ، الدينيّ منه والعلمانيّ، إلّا أنّي أسجّل هنا ملاحظة تُقلقني بعض الشيء.
إذ معنى أن نتحدّث في الأسباب الموجبة لأيّ مقترح سياسيّ أو فكريّ بالخصوصيّة المذهبيّة أو الدينيّة أو الثقافيّة حينما تجيئنا من هذا البلد العربيّ أو ذاك البلد الإسلاميّ، هل هذه علاقة نضج في الممانعة الوطنيّة أخذت تجتاحنا أم أنّها استغراق في إطار المذهبيّة بات يملأ فينا الكيان والفكر والإرادة؟ هل رفض المقترح، وأنا هنا أؤكّد لومي لكلّ الذين أرسلوا رسالتهم الإيرانيّة إلى الرئيس مرسي، نبع من كونه شيعيّاً، إيرانيّاً، أم أنّه نابع من دراسة مقارنة بين الخصوصيات اللازمة هنا وهناك؟
أتمنّى أنّ حساسيّتنا لم تصل إلى درجة أن نرفض أي فكرة أو مقترح مهما كانت نتائجه الإيجابيّة علينا لمجرّد كونه نابعاً من مسبقات عِرقيّة ومذهبيّة.
ذلك أن سُلَّم الأولويات عند الإسلاميين حينما يتفاوت بين المصلحة الإسلاميّة، وهي هنا تقتضي منطق أن الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها أخذها، وبين الفوارق العِرقيّة والطائفيّة المذهبيّة، وحتّى البارحة كنا نسمع من منظّري ومفكّري العالمَين العربيّ والإسلاميّ اعتبار القوميّة والطائفيّة جاهليّة العصر، ثمّ يقوم هؤلاء بتقديم الفوارق على المصالح المنجية، فهنا تقع الفتنة والأزمة الكبرى.
ثمّ يتفاقم الأمر في السؤال والتفكير بما حصل ويحصل. اليوم نسمع ونقرأ في أدبيات الحركات الإسلاميّة عند السنّة والشيعة أن الديموقراطيّة هي الملاذ الآمن والآليّة الساحرة والقادرة على اجتراح الحلول ومعالجة الآلام والأزمات. علماً أنّهم يقولون إنّ بداياتها كانت مع اليونان في أرض خصبة بالأوثان، وأن منظّريها هم كفرة الفلاسفة، ثمّ عادت بعد أفول، ونبتت في غرب الأرض مرّة أخرى كثمرة من ثمار حضارة الأنوار والحداثة والقطيعة عن وحي الله، واستخدمت سلاحاً فتّاكاً في تعبئة الأجيال ضد الشيوعيّة وامتداداتها، ثمّ ضد فكرة ومبدأ الاستبداد الإسلاميّ في عالمَيْنا العربيّ والإسلاميّ. لذا، قامت قيامة أهل الرأي والحل والعقد عليها لما تحمل من مواريث واستفزازات فكريّة وحضاريّة لا تشابهنا، بل هي ضدّنا.
وإنّي، وإن كان عندي الكثير من التريّث مع هذا المنطق من التحليل، لكن من حقّي، كما من حق شرائح واسعة من الأمّة أن تسأل كيف صارت الديموقراطيّة، والمدنيّة، والعلمانيّة المُلطّفة بلا عُقد معرفيّة وثقافيّة وجغرافيّة تتناقض مع بيئتنا بمجرّد ما إن وصل البعض منا إلى حلم السلطة.
هل باتت تجربة الغرب، والغرب الأميركيّ، أقرب إلى خصوصياتنا من تجارب مذهبيّة وثقافيّة وجغرافيّة إسلاميّة، من مثل التجربة الإيرانيّة؟ أم أنّه انفصام في الذات الحضاريّة هو الذي يسود اليوم؟ وهذا ما أخشاه في كلّ هذه الحفلات من التباعد بين أمّة أفترض أن القرآن قال في حق أبنائها {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.
أمّا الإخوة في إيران، فعليهم أن يفرّقوا بين أمرين: بين ولاية الفقيه باعتبارها نظريّة فقهيّة حافلة بمعطيات من التاريخ والاعتقاد والأصول والفقه الخاص بالشيعة، وبين ممارسة الدور السياسيّ الذي استفادته التجربة الإيرانيّة من الزخم الإسلاميّ والقانونيّ – التشريعيّ المتوافر في المدّيات الحيويّة لنظرية ولاية الفقيه. وعليهم أن يتفّهموا أنّ النقاش في النظريّة يصلح داخل المحافل العلميّة البحتة، في الوقت الذي تحتاج فيه ممارستهم السياسيّة بمبادئها النظريّة السياسيّة إلى تكامل مع تجارب إسلاميّة أخرى في مصر وتونس والسعوديّة وغيرها. وإذا كان من الممكن مثلًا أن نبحث في ضمانة الحكم الإسلاميّ العادل في أخلاق الحاكم الفقيه العادل حسب النظريّة، فإنّ من اللازم أن نبحث في الضوابط الموضوعيّة والإجراءات الإداريّة والتقنيّة لحفظ التجربة من الانزلاق إلى متاهات الاستبداد أو التخلّف أو كبت الحريّات، وهو أمر خارج النظريّة، وهذا ما تحتاجه الرسائل إلى هذا الرئيس أو ذاك، أو هذه الدولة وتلك.
* مدير معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة