دفع النظام السوري الانتفاضة نحو العسكرة، بمساعدة أطياف خارجية كثيرة لها مصلحة في عسكرة الداخل، كلٌّ لحسابه، ظناً منه أن الأمر سيؤدي إلى خلق مبررات لقمعها. وفي محاولة منه لاستعادة أجواء الثمانينيات في مواجهة السلفيين/ الإخوان، لينقلب الأمر عليه بتراجع سيطرته العسكرية عن الأرياف السورية، وتضعضع سيطرته على المدن رغم كل آلة التفوق التي يستخدمها. إضافة إلى العسكرة، عمل النظام السوري على أقلمة الصراع وتدويله، عبر إدخال أطراف خارجية كثيرة إلى الداخل السوري لمشاركته حربه، (إيران – روسيا – الصين – العراق – لبنان) لتواجهه المعارضة بإدخال أطرافها الداعمة (قطر – تركيا – أميركا – السعودية..). ونجح النظام في تحويل سوريا إلى ساحة صراع دولية، أملاً في أن يتعوّم على ظهرها، بانتظار تحولات دولية (لطالما برع في انتظارها) تنقذه من مأزقه الداخلي، عبر إطالة الأزمة والتعيّش عليها، بوصفه نظام أزمة بامتياز.
لكن تحولات كثيرة حصلت أخيراً تجعل احتمال نجاة النظام هذه المرة أمراً شبه مستحيل، بل تزداد مآزقه أكثر فأكثر بفعل هذه السياسة، من خلال توسّع دائرة الاحتجاج إقليمياً/ دولياً من/ ضد النظام السوري فحسب في بداية الانتفاضة، إلى كل الدول الداعمة له والمتورطة في دعم آلة القمع.
ها هو رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي يواجه انتفاضة تستلهم الانتفاضة التي وقف ضدها وترفع علمها، وها هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يواجه على نحو دوري احتجاجات معارضة، وفي الصين تظاهر أخيراً عشرات من أنصار إحدى الصحف الليبرالية على تدخل المسؤول الحكومي عن الدعاية في قوانغتشو عاصمة إقليم قوانغدونغ، إضافة إلى تزايد عدد مستخدمي الإنترنت، حيث من المرشح أن يتخطى حاجز الـ800 مليون بحلول عام 2015، استناداً إلى أرقام وزارة الصناعة الصينية، وإذا عرفنا قوة العلاقة بين ثورات العصر الحديث وتكنولوجيا الاتصالات والإنترنت، فسندرك أهمية ما سبق. وها هي الحكومة اللبنانية (كما العراقية والأردنية) تواجه مآزقها الأخلاقية بعدم الترحيب باستقبال اللاجئين، قبل أن تواجه مآزق الحياد المزعوم (من قبل كل الأطراف) في الأزمة السورية، لينفتح الداخل اللبناني على صراعاته المؤجلة على وقع ما يحصل في دمشق. وتبقى طهران الداعم الأهم للنظام السوري تتعرض لضغوط اقتصادية متزايدة على خلفية تراجع العملة الإيرانية أمام الدولار بفقدانها 15 بالمئة من قيمتها، بسبب تراجع صادرات النفط الإيراني «بنسبة 40 بالمئة والعائدات النفطية بنسبة 45 بالمئة»، وفق أرقام وزير النفط الإيراني، رستم قاسمي. هذا أدى إلى تراجع الإنتاج بنسبة عشرين المئة وهو أدنى مستوى منذ الحرب الإيرانية ــــ العراقية (1980-1988)، وفق تقديرات منظمة أوبك، وذلك في ظل أوضاع معيشية وأزمة سياسية
صعبة.
ويضاف، إلى ما سبق، بدء الحوار التركي مع حزب العمال الكردستاني، الحليف الآخر للنظام السوري في معركته الداخلية، حيث وصف رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، أخيراً، عبد الله أوجلان، بأنه عنصر مهم ومفتاح القضية الكردية، خلال حديثه للسفراء الأتراك العاملين في الخارج.
اللافت للنظر في داعمي النظام السوري أنهم ينتمون إلى بينة شمولية واحدة (هل يفسر هذا وقوف هذه الأنظمة مع بعضها بعضاً؟)، على المستوى النظري الصرف لإيديولوجياتها، وعلى مستوى بنية أحزابها التنظيمية/ الستالينية، وعلى مستوى ممارستها السياسة. في الجوهر لا تختلف بنية حزب الله اللبناني عن بنية حزب العمال الكردستاني، فالأولى تنطلق من أصولية/ شمولية دينية مستمدة من الجذر الإيراني والثانية من أصولية يسارية تقترب كثيراً من أصولية قومية للبعث السوري، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النظام السوري المدعي العلمانية والنظم الإيراني والروسي والصيني حتى، فثمة قواسم مشتركة تجمع بين هذه التوتاليتاريات في نهاية المطاف مع اختلاف في الدرجة لا أكثر. فتوريث السلطة في سوريا توازيه عودة بوتين إلى السلطة مجدداً، لتكون الديمقراطية الروسية تشبه الديمقراطية الإيرانية في إعادة إنتاج السلطة نفسها في بوتين العائد والولي الفقيه الممسك بكل شيء، كما أمسك بوتين الحكم وهو رئيساً للوزراء. وكما يمسك الرئيس السوري بمفاصل كل شيء قبل أن تهز الانتفاضة هذه الأسس.
هذا التشابه في العمق هو ما يفسر طريقة ممارسة السياسة (في الداخل خاصة) بوصفها عنجهية وتعالياً لا غير، فثمة قاسم مشترك يظهر بوضوح في تصريحات المسؤولين الإيرانيين والسوريين والعراقيين (المالكي تحديداً) والروس في مستوى أول (عنجهية لافروف)، يمكن وصفه بحد أدنى بـ«اللاسياسة» أو السياسة المستندة إلى العنف المطلق والعاري بتوصيف أدق. ويظهر نفس القاسم المشترك في خطابي حزب الله والعمال الكردستاني، وخاصة الصادر من جبال قنديل.
وعلى صعيد الممانعة واستخداماتها، يتجلى التشابه، فحزب الله والنظام السوري وإيران ترفع جميعها شعار الممانعة عالياً لحصد نتائج في الداخل، وكذلك الأمر «باتت موسكو ترفع شعار الممانعة بوجه واشنطن على خلفية الأزمة السورية مستغلة الشعور القومي الروسي، حيث يسعى بوتين إلى خلق عدو خارجي لحشد الشعب وراء هدف وطني. ومن خلال استخدام سوريا لتعزيز المشاعر المناهضة للولايات المتحدة يكون بوسعه حينئذ تحقيق فائدة سياسية فورية، بمعنى أن دعمه للأسد يعني بالضرورة مقاومته للغرب. وعلى غرار ما قام به الأسد عندما حوَّل ممانعته ضد إسرائيل إلى أهمية سورية على المسرح الدولي، فإن «الممانعة» الروسية حول سوريا تجعل من موسكو لاعباً مهماً لا يمكن اتخاذ القرارات بدونه. وكان دافع بوتين لانتهاج هذه السياسة هو أنه، في كانون الأول/ديسمبر 2011، شهدت البلاد أوسع احتجاجات منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وبالنسبة إلى بوتين، الأكثر اعتياداً على شعب معروف تاريخياً برضائه، لا بد أن هذه الأحداث قد أثارت الذعر، ومن المرجح أنه يخشى من أن يلقى نفس المصير الذي لاقاه الزعماء العرب المخلوعون»، وفق ما تقول الباحثة آنا بورشفسكايا.
إن قراءة ما سبق، ستجعلنا ندرك أن تحولات الخارج التي ينتظرها النظام السوري للخروج من أزمته مجرد وهم، بل تكاد تكون للمرة الأولى في تاريخه تصب ضده، فالأزمة على المدى الآني والبعيد هي أزمة الأنظمة الشمولية التي تهزم يوماً بعد يوم، لأنّ المد الديمقراطي في العالم يتمدد من انهيار جدار برلين «بطريقة غير قابلة للارتداد»، وفق ما يقول سمير أمين في كتابه «إمبراطورية الفوضى». هذا على المستوى العام. أما على المستوى الخاص، فإن وصول الانتفاضة إلى بغداد من الباب السوري يعدّ مؤشراً قوياً إلى تمدّد الانتفاضة إلى كامل دول المحور، وخاصة من طهران إلى بيروت، مما يعني أننا أمام احتمال سقوط المحور بأكمله (ولو تدريجاً وتفكيكاً على مستوى سنوات مقبلة) بدلاً من سقوط النظام السوري وحده، أو سقوط أطرافه (بغداد، دمشق، بيروت) على الأقل. وليس هذا مستبعداً، فمن يعرف أهمية الموقع الجيوسياسي لسوريا ومدى استفادة النظام منه عبر تشابكاته الإقليمية/ الدولية، يخمّن أن السقوط لن يكون سورياً فحسب، بل سقوط محور بأكمله. وهذا ما يفسر حدة المعركة السورية وتعقيدها.
عاملان حاسمان قد يكون لهما دور مسرّع في هذه الرؤية: تجذر الانتفاضة العراقية بوجه المالكي، والتوصل إلى تسوية تاريخية بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني.
لا يعني ما سبق، أن المحور المقابل «المعتدل»، وخاصة في أطرافه العربية (الأردن، الخليج العربي) أفضل حالاً، بل إن سقوط الأنظمة التوتاليتارية هذه، سيمهّد تدريجياً لسقوط الأنظمة الملكية أو لإجراء تحوّلات عميقة فيها باتجاه دمقرطة هذه الملكيات أو
سقوطها.
* كاتب وشاعر سوري