نشرت «الأخبار» قبل أيّام مقالة للزميلة هيام القصيفي، بعنوان «الوجه المُضيء للمارونيّة السياسيّة في زمن السلبيّات». وكان توقيت نشر المقالة لوقوع مناسبة دينيّة (عيد مار مارون). تقول القصيفي إن المناسبة جامعة، لأن رئيس الجمهوريّة ورئيسي الحكومة والمجلس يتمثّلان فيها. فاتها أن التكاذب عريق في لبنان، والظهور بين المتصارعين في صورة عناق هو من الفولكلور اللبناني. ولم تمرّ غزوة طائفيّة أو حرب أهليّة إلّا اقترنت بنشر صور تعانق الصليب والهلال، أو تعانق رجل دين مسيحي وآخر مسلم في لبنان. يستطيع وليد جنبلاط، مثلاً، أن يصف المسيحيّين في لبنان _ كل المسيحيّين في لبنان _ بـ«الجنس العاطل»، ويستطيع أن يقول أمام حسن نصر الله وغيره إن الموارنة لا يحسن التعامل معهم إلا «تحت الصرماية» _ بلغة جنبلاط، ثم أن يعود ويزور البطريرك الماروني ويشيد بدوره بإحياء التعايش في الجبل، الذي ازدهر بفعل فؤوس الحزب التقدّمي الاشتراكي ومجازر القوّات اللبنانيّة المتعاملة مع العدوّ الإسرائيلي.لكن قبل نقاش موضوع مقالة القصيفي، وجب التعليق على مصطلح «المارونيّة السياسيّة» الذي سكّه منح الصلح في كتيّب غير موقّع، كانت «السفير» قد نشرته في سنوات الحرب الأهليّة الطويلة. لم أستسغ تعبير المارونيّة السياسيّة يوماً، لأنه يُلصق صفة سياسيّة بطائفة بحالها، حتى لو كان هناك من يستعمل هذه الأيّام مصطلح «السنيّة السياسيّة» أو «الشيعيّة السياسيّة». لماذا يجب إلصاق النظام السياسي، على علّاته، بطائفة دينيّة بحالها؟ والتعميم الذي يُطلقه المُصطلح يضمر إجحافاً بأبناء الطائفة المارونيّة وبناتها الذين عارضوا وقاوموا النظام السياسي اللبناني قبل سنوات الحرب وأثناءها. كيف تكون هي مارونيّة سياسيّة عندما يموت موارنة في أحزاب الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة في صراع ضد النظام السياسي اللبناني؟ ثم هل يكون الماروني في تلك الأحزاب مارونيّاً ويكون _ وفق هذا الوصف _ كامل الأسعد شيعيّاً؟ صحيح أن طبقة سياسيّة مُحتكرة من الموارنة هي التي أدارت دفّة الحكم في لبنان قبل الحرب الأهليّة، لكنها فعلت ذلك قبل الاستقلال وبعده بالنيابة و(أو) بالتعاون مع الاستعمار الغربي، وعبر الاستعانة بزعماء من طوائف أخرى، أي إن كامل الأسعد كان أكثر مارونيّة من الموارنة المنتمين إلى الحزب الشيوعي اللبناني.
قد يكون ما سوّغ لإطلاق المصطلح هذا العنجهيّة الطائفيّة النزقة التي سادت أداء الطبقة التي حكمت لبنان قبل الحرب. وحتى في عمليّة إعادة التقويم ـــ التي تقول القصيفي إن موارنة (عونيّين؟) يقومون بها هذه الأيام ـــ هناك بوادر لذلك النزق والاستعلاء الطائفي. يقول الأب ميشال حايك الذي تستضيفه القصيفي «إن المارونيّة مشروع حريّة يشكّل لبنان رمزاً له». طبعاً، كلام حايك يندرج في إطار فكر التفوّق الطائفي الذي شكّل عقيدة وركيزة للحكم الجائر الذي وسم النظام اللبناني في سنوات ما قبل الحرب. ما معنى أن يُقال إن المارونيّة مشروع حريّة؟ هل يعني هذا أن «الإسلام» _ كي نستعمل مصطلحات الكراهية الطائفيّة لابن القلاعي في مديحته التاريخيّة الزجليّة عن جبل لبنان _ مشروع ظلاميّة وطغيان؟ ولماذا هذا الفصل النوعي، بالمعنى المعرفي والمعنى الجيني، بين أبناء الطوائف المختلفة؟ وكيف تجلّى مشروع الحريّة الذي يشكّل لبنان عنواناً له؟ هل تجلّى في الارتهان المُطلق الذي مثّلته دولة لبنان على مرّ التاريخ المعاصر للاستعمار الغربي؟ أم تجلّى في إصرار الطبقة السياسيّة اللبنانيّة على عدم الاستقلال؟ وهل كان المشروع الفاشي للقوّات اللبنانيّة (المُسيّرة من قبل العدوّ الإسرائيلي) مشروع حريّة؟ أم أن وثيقة الاتفاق السريّة بين البطريركيّة المارونيّة والحركة الصهيونيّة عام 1946 هي مشروع الحريّة أيضاً؟ (طبعاً، لا يجب تحميل أبناء الطائفة المارونيّة وبناتها أوزار أفعال الطبقة السياسيّة المارونية _ في الانتماء الطائفي _ أو حتى أفعال البطريركيّة نفسها). إن لبنان في سنوات ما قبل الحرب كان مشروع قمع وتسلّط وقهر طبقي وطائفي.
لكن زميلتنا لا تكتفي بإيراد المُراجعة تلك، بل تصل إلى خلاصة حول تلك المراجعة المُتمثّلة في الترويج الدعائي للبنان ما قبل الحرب الأهليّة. تريد القصيفي أن تضفي صفات غير حقيقيّة وغير واقعيّة على طبيعة المجتمع والسياسي في لبنان قبل 1975، وتصرّ على أن المارونيّة السياسيّة لم تمت ميتة طبيعيّة، بل إنه «أُريد لها أن تُدفن». هذا صحيح، لكن موت ما يُسمّى المارونيّة السياسيّة، أو النظام السياسي اللبناني الذي بُني على عنصر تفوّق المارونيّة على غيرها كطائفة أو وحدة سياسيّة، لم يتمّ عبر أبناء وبنات لطوائف أخرى فقط، بل إن صراعات أقطاب «المارونيّة السياسيّة» كانت أساسيّة في إنهاء حكم طغيانها. ألم يكن ريمون إده يقول دوماً في سنوات الحرب إنه لم يدمّر لبنان غير الصراعات بين زعماء الموارنة بهدف الوصول إلى مركز رئاسة الجمهوريّة؟
تقول القصيفي إن «زمن المارونيّة السياسيّة... أنتج... صعوداً مطرداً لقيادات مسيحيّة متنوّعة، وزعامات سنيّة، وبداية نهضة شيعيّة». لم يكن هناك زعامات متنوّعة في لبنان ما قبل الحرب: كانت القيادات، المارونيّة وغير المارونيّة، مرتهنة لنظام طائفي عنصري بغيض ومُرتهن منذ إنشائه لسياسات الغرب الاستعماريّة. إن الكلام عن إنتاج زعامات يُتباهى بها يهدف إلى التعمية: هناك نزعة في الإعلام اللبناني اليوم لتعظيم «الكبار» في لبنان ما قبل الحرب. من هم هؤلاء الكبار؟ إميل إدّه الذي كان مجرّد أداة بيد المُستعمر والذي كان متحالفاً مع الحركة الصهيونيّة ولم يخف احتقاره للطوائف الأخرى في لبنان؟ أم ألفرد نقّاش، الألعوبة الأخرى بيد المُستعمر الفرنسي، والذي كان معجباً مبكراً بالحركة الصهيونيّة؟ أم كميل شمعون الذي لم يتكلّم على زعماء الطوائف الإسلاميّة إلا بالكلام النابي (راجع كتاب لويس الحاج، «من مخزون الذاكرة») والذي دفع لبنان نحو الحرب الأهليّة من أجل التجديد لولايته؟ كميل شمعون الذي قبل مساعدات من العدوّ الإسرائيلي في الحرب الأهليّة عام 1958 (وهذه حرب أهليّة لا يمكن لوم الإخوة الفلسطينيّين بسببها على طريقة ميليشيات إسرائيل في لبنان)؟ كميل شمعون الذي جنى ثروة بعد انتهاء ولايته من صفقات ووكالات ورشىً من شركات أجنبيّة؟ أم بيار الجميّل زعيم حزب قبِل تمويلاً (وتسليحاً) من العدوّ الإسرائيلي منذ الخمسينيات (قبل نشوء أكذوبة «محاربة التوطين»)؟ أم المهزلة المتمثّلة بمجيد أرسلان الذي جعل من السياسة الدفاعيّة مسخرة في أنظار العرب، والذي كان يتحدّى العدوّ ببعكورته؟ أم فؤاد شهاب الذي لم يكنّ إلا الاحتقار لأبناء جلدته والذي آمن بتفوّق الرجل الأبيض ولم يقبل إلا مشورته، وأقام دولة حديديّة بوليسيّة بعد الانقلاب القومي؟ أم كامل الأسعد الذي عامل الناخبين الشيعة كالعبيد، ومثّل في حياته السياسيّة والخاصّة أبشع عنوان لطبيعة الزعامة السياسيّة في لبنان؟ أم صائب سلام الذي لم يكن أكثر من وكيل للأمير سلطان بن عبد العزيز في لبنان؟ أم رياض الصلح الذي يقول عنه محرّر مجلّدات الأوراق الخاصّة لحاييم وايزمن إنه كان «مدفوعاً من قبل الصهاينة» والذي غطّت على علاقاته مع الحركة الصهيونيّة كل الكتب التي انتشرت فجأة عن تبجيله بتمويل و(أو) دعم من أحفاده؟ أم جورج أبو عضل، الحليف والمُموّل لحملات سليمان فرنجيّة الانتخابيّة والذي على الأرجح كان على علاقة (فُضحت) مع العدوّ الإسرائيلي، ما منع تعيينه في منصب وزاري في عهد فرنجيّة؟ أم شارل مالك الذي كان أداة بيد الحركة الأميركيّة اليمينيّة الرجعيّة المُعادية للشيوعيّة؟ أم فريد شهاب الذي تظهر أوراقه الخاصّة التي نُشرت بعد وفاته أنه كان يدير جهاز استخبارات (لمصلحة من؟) خاصاً للتجسّس على الشيوعيّة في لبنان والمشرق العربي حتى بعدما تقاعد من وظيفته الرسميّة في الأمن العام؟ أم المطران مبارك الذي قدّم شهادات هو وإميل إده لدعم الحركة الصهيونيّة أمام المحافل الدوليّة؟ أم شفيق الوزّان الذي كان يعمل كواجهة «سنيّة» للتغطية على سياسات نظام أمين الجميّل المرتهن لإسرائيل (وللنظام السوري في ما بعد)؟
هذه هي حقيقة لبنان بعد الحرب. أما ما تقوله القصيفي عن «بداية نهضة شيعيّة» فإن هذا لم يحدث بفضل النظام السياسي اللبناني، بل رغماً عنه. إن ما يُسمّى «النهضة الشيعيّة» كان من خارج نطاق النظام السياسي اللبناني برمّته، وحصل ضدّ الزعامات السياسيّة الإقطاعيّة التي فرضها زعماء الموارنة في لبنان، والذين كانوا يفصّلون النظم الانتخابيّة على مقاسهم، كما كانت الاستخبارات السوريّة تفعل في لبنان بالتعاون مع أداتهم، رفيق الحريري. وما يُسمّى «النهضة الشيعيّة» حصل بفعل التلاقح بين الثورة الفلسطينيّة والقهر والفقر اللذين انتشرا في الجنوب البناني والبقاع والضاحية الجنوبيّة. كما أن سفارات الدول الاشتراكيّة قدّمت عشرات الآلاف من المنح إلى المعوزين من أبناء الجنوب وبناته، وهؤلاء هم الذين شكّلوا بداية الطبقة الوسطى عند الشيعة، الذين أفقرهم كل زعماء الإقطاع في لبنان. لا، لم يتقدّم اللبنانيّون على مختلف طوائفهم بفضل النظام السياسي القمعي والجائر.
لم تكتف الزميلة القصيفي بهذا المديح غير المحقّ لنظام الطغيان الماروني الطائفي في مرحلة ما قبل الحرب، بل زادت عليه قائلة: «كان هناك حوار ونقاشات حيويّة ومسرح وشعر وأدب وموسيقى». هذا صحيح، لكن لم يكن هذا بفضل النظام السياسي اللبناني، بل _ مرّة أخرى _ رغماً عن أنفه. كان الإنتاج الفنّي والأدبي الطليعي متعارضاً وفي تضاد سياسي وفكري مع العقيدة الطائفيّة للنظام السياسي اللبناني. كما أن هذا النظام عمل كل ما في وسعه من أجل قمع تلك الأصوات الرائدة والطليعيّة في كل مجالات الأدب والفن. قد يأتي يوم يُكتب فيه تاريخ حقيقي ومُنصف للبنان، وعندها فقط يعرف اللبنانيّون فضل الشعب الفلسطيني على الثقافة والسياسة (المناهضة والثوريّة) والفن والحراك على أنواعه. إن أي رصد رصين للثقافة والفن والأدب والسياسة والاقتصاد في لبنان بعد 1948 لا بدّ أن يلحظ الإثراء الذي ألحقه الوجود الفلسطيني الفاعل في لبنان. وتجد الأثر الفلسطيني في المسرح الرحباني (المخرج صبري الشريف، لم ينل حقّه من التكريم والتقدير في بلد العنصريّة)، وفي الرقص الحديث والمصارف وفي التثوير الذي طبع السياسة المعارضة في لبنان بعد طرد الشعب الفلسطيني من وطنه. دولة العنصريّة والطائفيّة في لبنان، لم تُثْرِ الفن والأدب والسياسة بل أفقرتها وشوّهتها ومسختها.
تفخر القصيفي بانطلاق الجامعات الخاصّة في زمن «المارونيّة السياسيّة» وتضيف إن الجامعات الخاصّة تضمّ «طلاباً من مختلف الطوائف». هذا غير صحيح تاريخيّاً طبعاً، لأن الجامعة اليسوعيّة والجامعة الأميركيّة أنشِئتا في عصر الاحتلال التركي، وله الفضل، إذا كان هناك من فضل. والجامعتان المذكورتان نشأتا على أيدي مؤسّسات تبشيريّة توخّت إخراج المسلمين عن دينهم (وفشلت في ذلك فشلا ذريعاً)، والجامعتان اعتمدتا على الصفاء الطائفي والطبقي لعقود طويلة _ نحو قرن من الزمن _ والاختلاط الطائفي في الجامعات الخاصّة مُستحدث ولا يسري إلّا على الأبناء والبنات في الطبقات الميسورة. ثم من يفخر بإنشاء جامعات خاصّة في دولة نامية، أو حتى الدول المتقدّمة، خارج الولايات المتحدة؟ إن الدول الأوروبيّة المتقدّمة تعتمد فقط على التعليم المجّاني الرسمي من أجل إحداث عدل في توزيع الدخل والثروات والفرص.
وأوردت القصيفي إنشاء الجامعة اللبنانيّة، مع أن النخبة الحاكمة في لبنان أخّرت تأسيسها (كما ماطلت في السماح بإنشاء الجامعة العربيّة _ وهي فكرة رائدة طليعيّة قبل أن يقضي عليها النظام الساداتي والمباركي) لمحاربة تعميم التعليم بين المسلمين والمسلمات (كما أن تلك النخبة حاربت معادلة شهادة الثانويّة من مصر ومن سوريا وذلك لإبقاء التعليم وقفاً على أبناء الطائفة المُهيمنة في لبنان، بالمعنى السياسي للكلمة). وعندما قالت إن «آخرين» حاولوا دفنها (الجامعة اللبنانيّة) لم تذكر أن هؤلاء الآخرين ليسوا إلا رفيق الحريري، السيئ الذكر، الذي حارب كل ما يمتّ للقطاع العام بصلة في لبنان، من مسرح وفن وتلفزيون وإذاعة وتعليم، وحتى دفاع وطني رادع.
ولكن، كيف يمكن لزميلتنا أن تقول إن سنوات «المارونيّة السياسيّة» لم تكن تاريخ «دم وحروب وفتن داخليّة»؟ على العكس من ذلك، إن تاريخ النظام اللبناني منذ 1943 كان تاريخ الإعداد والتحضير والتدريب (من قبل ميليشيات اليمين الطائفي ذي الوجهة المارونيّة المُصرّة على نظام الهيمنة الطائفيّة) للحرب الأهليّة الضروس التي شهدها لبنان، والتي باتت تُعتبر من أكثر الحروب الأهليّة وحشيّة في تاريخ الحروب الأهليّة. كما أن القصيفي تنسى أن لبنان ما قبل الحرب شهد عدداً كبيراً من الفتن والحروب الطائفيّة وإن لم تكن في حجم الحرب الأهليّة الكُبرى. وماذا عن حرب 1958؟ هل كانت نزهة وطنيّة تستحق المباهاة؟
كتبت القصيفي أن كميل شمعون «أسّس لبنان الحديث المُنفتح على الغرب والشرق». لا، إن كميل شمعون أسّس لدعائم نظام طائفي كريه، وفصّل النظم الانتخابيّة على مقاس مصالحه الطائفيّة والسياسيّة وعزل من لم يَرُقْه. كميل شمعون هذا شكّل أكبر مخالفة لفرضيّة «الميثاق الوطني» الكاذبة. كان كميل شمعون أداة صغيرة في يد الغرب الاستعماري وحارب المصالح العربيّة لمصلحة حلفاء إسرائيل في المنطقة العربيّة. كميل شمعون أحرق لبنان لزيادة حظوظ تجديد ولايته.
حاولت القصيفي أن تروّج لمقولة التنوّع الطائفي في زمن الهيمنة الطائفيّة في لبنان ما قبل 1975، متناسية أن الزعماء الموارنة كانوا يأتون بأدوات لهم من طوائف أخرى. وعليه، كان ريمون إده يأتي بأحمد إسبر، الذي لم يكن على تماس مع أبناء جبيل الذين يُفترض أنه مثّلهم طائفيّاً. أما من ذكرتهم بالإشادة من أمثال سليمان العلي وكاظم الخليل، فهؤلاء كانوا من عهد القهر الإقطاعي الذي فرضه زعماء الموارنة في الجنوب والبقاع والضاحية وعكّار. لم يكن شيعة الجنوب يعتبرون كاظم الخليل ممثّلاً حقيقيّاً لهم، مع أن أجهزة الدولة الطائفيّة كانت مسخّرة لخدمة نظام التبعيّة الطائفيّة الذي احتاجت إليه استدامة الإقطاع الطائفي في مناطق لبنان. كان شفيق الوزّان يمثّل السنّة، وكان كاظم الخليل يمثّل الشيعة بقدر ما يمثّل اليوم عقاب صقر _ نائب الوطن برمّته وأنطاكية أيضاً بسبب إمداده للعصابات المسلّحة بحليب «نيدو» السريع الذوبان _ شيعة منطقة زحلة.
لكن أن تقول القصيفي إن «المارونيّة السياسيّة» لم تعط الجنسيّة اللبنانيّة لمئات الآلاف من «المغتربين المستحقّين» فهذا مخالف للحقيقة. نسيت أن نظام كميل شمعون ومن أتى بعده من رؤساء اعتمد سياسة الإقصاء والتهميش الطائفي في منح الجنسيّة عندما أعطاها للمسحيّيين فقط من الفلسطينيّين وحجبها عن عرب وادي خالد اللبنانيّين والقرى الحدوديّة في الجنوب، لا لشيء إلا لانتمائهم الطائفي. كيف تتغاضى عن كل ذلك؟ كما أن لبنان كان يمنح زواره من المغتربين الجنسيّة فور وصولهم إلى لبنان إذا كان انتماؤهم مارونيّاً. هذا هو تاريخ لبنان الحقيقي وليس التاريخ المُتخيّل. وتقول القصيفي إن «المارونيّة السياسيّة» لم «تحتكر» وسط بيروت لها، كما فعل رفيق الحريري وشركاؤه النفطيّون، ناسية أن تلك الزمرة الطائفيّة الحاكمة احتكرت لبنان برمّته لها.
أما عن عدم إثراء فؤاد شهاب وإلياس سركيس، فهذا صحيح، لكنه غير صحيح في حالات سليمان فرنجيّة (وعائلته) وبشارة الخوري (وعائلته) وأمين الجميّل، بالإضافة إلى زعماء آخرين متنفّذين في ذلك الزمن. لم يقتَنِ كميل شمعون سيّارة «رولز رويس» بعرق الجبين اللبناني.
وتضيف القصيفي على لسان «أحد الباحثين الموارنة» إن لبنان في عهد تلك «المارونيّة السياسيّة» كان «أرقى بكثير من زمن الناصريّة السياسيّة. ماذا؟ تظنّ القصيفي أن حالة مصر الثقافيّة والفنيّة والأدبيّة في عهد عبد الناصر كانت أقل رقيّاً من حالة لبنان؟ ومع احتقاري الكامل لجوائز «نوبل» يكفي أن نذكّر بالإبداع الثقافي والأدبي في ذلك العهد. وهل كانت السينما اللبنانيّة مثلاً أرقى من السينما المصريّة الطليعيّة (والمسرح) في ذلك العهد، مع تقديري الكامل لفيلم «أبو سليم الطبل في أفريقيا» و«غيتار الحب» و«زوجتي من الهيبيز» و«غوار بوند» وغيرها من الأفلام التي قبّحت التاريخ الثقافي اللبناني الحديث . وهل نسيت القصيفي السد العالي وصنع الصواريخ للدفاع عن الوطن وتعميم التعليم والتطبيب المجاني وتوزيع الأراضي وإعادة توزيع الثروات في العهد الناصري؟ صنّع النظام الناصري الصواريخ والسيّارات، فيما لم تتعدّ الصناعة اللبنانيّة أوراق المراحيض وكراسي الحمّام.
لن يُكتب للنظام السياسي البائد أن يحيا من جديد، مع أن النظام السياسي الذي خلّفه هو نظام طائفي بغيض بتبديل في طبيعة السيطرة والهيمنة. لكن فكرة إنشاء الكيان اللبناني المبنيّة على تفوّق عنصر على آخر، وهي فكرة الصهيونيّة نفسها التي أسّست لدولة أريد للبنان أن يكون ظهيراً لها، ماتت ولن تعود. ومآل تلك الفكرة في لبنان مثل مآل الصهيونيّة: إلى زوال، لا محالة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)