استناداً إلى حصيلة معلومات تراكمت لدينا في الأشهر الماضية نتيجة متابعة بيانات الحكومة السورية والمؤسسات الدولية وتقديرات الصحافة الاقتصادية الغربية، فقد ناهز عدد القتلى في حرب سوريا في مطلع عام 2013 الـ50 ألفاً، والجرحى المئتي ألف، وتكبّدت سوريا خسائر اقتصادية فادحة منذ آذار عام 2011 حتى مطلع عام 2013 تجاوزت 70 مليار دولار. فبعد 20 شهراً من الحرب، تقلّص الاقتصاد السوري بنسبة 25 بالمئة، وارتفع السعر الرسمي للدولار إلى 79 ليرة وفق البنك المركزي! في مطلع عام 2013 بعدما كان 47 ل. س. في بداية الأزمة. وثمّة نوعان من الخسائر، تلك المتعلّقة بفقدان الانتاجية والانكماش الاقتصادي ـــ وتقدّر قيمتها بـ20 إلى 25 مليار دولار ـــ والأخرى المتعلّقة بالدمار والخراب المادي، وتقدّر قيمتها بـ40 إلى 50 مليار دولار (أنظر الجدول). وأبرز أوجه فقدان الانتاجية كان 9 مليارات دولار في قطاع السياحة، ومليارين في تحويلات المغتربين، والباقي نتيجة تعطيل الصناعة والبناء والتجارة والخدمات والزراعةii.
تدمير سوريا كهدف استراتيجي

هدفت الجماعات المسلّحة ومَن هم وراءها إلى شلّ سوريا ودفعها إلى الانهيار الاقتصادي، لتصبح أرضاً خراباً لا تملك أيّ مقومات للنهوض. فاستهدفت تلك الجماعات الاقتصاد على نحو متعمّد عبر تدمير المرافق العامة، والمؤسسات، والأبنية الحكومية، والمصانع، وتجهيزات البنية التحتية من الطرق والجسور والسكك الحديدية وأنابيب النفط والغاز والمدارس والمستشفيات، وصادرت آليات الخدمات الاجتماعية كسيارات الإسعاف، ونهبت المنازل والمصانع والمتاجر. وأصبح ربع المستشفيات تقريباً خارج الخدمة، وتعرّض 300 مستوصف ومركز طبي للحرق والنهب. وذكر تقرير لمنظمة الصحة العالمية أنّ سوريا تعاني نقصاً حاداً في الأدوية بسبب الحصار العربي والغربي. وانخفض انتاج النفط من 400 ألف برميل يومياً إلى أقل من النصف، كما ذكرت الحكومة السورية في كانون الأول 2012 أنّ ثمّة ألف مصنع في حلب قد جرى تفكيكها ونقلها إلى تركيا بكامل معداتها. وفي قطاع الكهرباء استهدف المسلحون 25 محطة توتر عالٍ من أصل 85 محطة تؤمّن الكهرباء للشعب.
وبتوجيه استراتيجي عسكري غربي من غرفة عمليات في تركيا، فإنّ الجماعات المسلّحة كانت تعبر عشرات، بل مئات، الكيلومترات لتهاجم منشآت عسكرية ـــ كقواعد أو مطارات بعيدة عن المدن والقرى ـــ أو اقتصادية ـــ كإمدادات النفط ومحطات الطاقة ـــ وذلك لتخريبها ونهبها، ضمن مخطط لا يمكن أن يخدم أبداً أيّ ثورة أو شعب بل يخدم داعميها الخارجيين وإسرائيل.
في مطلع 2013، أشار رئيس الحكومة وائل الحلقي إلى أنّ «استهداف المجموعات الإرهابية للمؤسسات الإنتاجية والخدمية ألحق ضرراً كبيراً بالاقتصاد الوطني وبالحياة اليومية للمواطن»، وأنّ «العقوبات الاقتصادية الظالمة ضد سوريا عرقلت عمليات الاستيراد والتصدير، وأثّرت تأثيراً مباشراً على حياة الشعب السوري»، لافتاً إلى أنّه «جرى استهداف قطاع التربية وبلغ عدد المدارس التي تضررت 2326 مدرسة»، وأنّ «قطاع النفط السوري تعرّض منذ البداية لعقوبات جائرة واعتداءات إرهابية، ما أثّر سلباً في عمليتي الإنتاج والاستيراد وسبّب أزمة في تأمين مادتي المازوت والغاز». أمّا الدمار والخراب المادي، فقد توزّعت قيمتهما حسب المدن والمناطق كالآتي:




أحدثت الحرب خراباً فادحاً في مدن سوريا، وانهارت شبكة الأمان المدنية في عدد كبير من مدن وبلدات وقرى سوريا، وخيّم غول الإرهاب المسلّح، الذي جلب الجرائم والفوضى، وأقفلت مراكز الشرطة أبوابها بعدما استهدف المسلحون قوى الأمن في مكاتبهم وفي بيوتهم. ووصل السلب والنهب إلى مستويات غير مسبوقة لم تشهدها البلاد من قبل، إضافة إلى عمليات الخطف لقاء الفدية واغتصاب الفتيات والنساء، وقطع الرؤوس بالسيوف والإعدامات الميدانية وأحياناً القتل الجماعي، ما يوحي بأنّ معظم مرتكبي هذه الشنائع ليسوا من أهل البلاد أو لا علاقة لهم بأيّ هدف سياسي سوى قتل السوريين وتدمير سوريا. لقد استباح المسلحون لأنفسهم نهب ما تصله أيديهم في المنازل والمتاجر، وإحراق أبنية، وتفجير مدارس ومرافق عامة، كما فرض المسلحون نظاماً أصولياً صارماً على المناطق التي سيطروا عليها، فتحرّشوا بالنساء واعتقلوا عشوائياً أيّ شخص لا يروقهم.
وإلى جانب التدمير المنظّم، أدى الحصار والعقوبات دوراً في انهاك الاقتصاد السوري، إذ لم يكفِ أنّ سوريا منذ الثمانينيات كانت تعاني مقاطعة غربية وحظراً اقتصادياً فرضته الولايات المتحدة لاضعافها ولخدمة إسرائيل، وأنّ واشنطن عمّقت هذه العقوبات عام 2004 كجزء من «قانون معاقبة سوريا»، وباتت تجدّدها كل عام. بل إنّ الحصار الاقتصادي تضاعف منذ عام 2011، ليس من الولايات المتحدة ومعظم دول الاتحاد الأوروبي فحسب، بل من دول عربية شقيقة أيضاً (الخليج والسعودية). وإضافة إلى الحظر والعقوبات، فإنّ تجارة سوريا الخارجية تدهورت والسياحة العربية والأجنبية انهارت تقريباً، وانقطع التواصل التجاري والسكاني بين كلّ من سوريا وتركيا وسوريا والأردن.

العملة السورية

لقد ارتفع سعر صرف الدولار في سوريا منذ بداية الأزمة، وخاصة في السوق السوداء، وبعد زيادة الطلب على العملات الصعبة وتراجُع صادرات النفط وانهيار القطاع السياحي. وساهمت تدخلات المصرف المركزي السوري في إبطاء هبوط الليرة ضمن حدود معقولة منعت انهياراً متسارعاً. فراوح الدولار في السوق السوداء في حدود الـ75 ل. س. معظم عام 2012. إلا أنّ الليرة عادت إلى التراجع حيث بيع الدولار في السوق السوداء بـ80 ليرة في تشرين الثاني 2012، وبـ90 ليرة في مطلع كانون الثاني عام 2013. ورغم ذلك، فالنتيجة كانت لا تزال مقبولة بعد عامين من الحرب، حيث لم تهبط الليرة هبوطاً مأساوياً بفضل الاحتياط وبفضل تنوّع قطاعات الاقتصاد السوري، رغم أنّ محللين ماليين قدّروا أنّ الموجودات تراجعت إلى النصف، وأنّها قدّرت بـ15 مليار دولار في آب عام 2012.
كذلك رأى محلّلون أنّ المصرف المركزي ربما يكفّ عن دعم مستويات معيّنة لليرة السورية من أجل حماية احتياطه، لكنّ هذا التحليل يدخل في رأينا في باب التكهنات، لأنّ من الصعب تخمين موجودات مصرف سوريا من العملات المقبلة، فالمبالغ كانت تصل سوريا كمساعدات أو قروض من دول أخرى (قروض من إيران بقيمة 500 مليون دولار)iii، ومن الصعب أن يغيّر أي مصرف مركزي سياسته بسهولة، لما في ذلك من مجازفة أن يُحدث تياراً جارفاً يدفع العملة إلى انخفاضات لا يمكن لجمها. وهذا ما يشرح حفظ المصرف على حافة الـ79 ل.س. إلى الدولار رسميّاً في مطلع 2013 فلا تجتاز الـ80 ليرة.

المالية العامة

بسبب الحرب والضائقة المعيشية التي أصابت ملايين السكان، أنفقت الحكومة السورية مليارات الدولارات من احتياطي العملات الصعبة لتسديد الرواتب ودعم المواد الأساسية وحماية العملة الوطنية من انهيار غير مضبوط. وكان عجز الخزينة السنوي لا يزيد على ثلاثة إلى خمسة بالمئة من الناتج المحلي قبل الأزمة، وأصبح متوقّعاً أن يصل إلى 10 مليارات دولار (745 مليار ليرة سورية) عام 2013. أي ما يزيد على 17 بالمئة من الناتج المحلي، أو خمسين بالمئة من موازنة 2013 البالغة 20 مليار دولار. لقد تضمّنت ميزانية عام 2013 زيادة دعم السلع الأساسية بنسبة 25 بالمئة، وزيادة الرواتب بنسبة 13 بالمئة لتخفيف الوطأة الاجتماعية على المواطنين، لكن وزارة المالية لم تأخذ بالحسبان فقدان مبيعات النفط، ما يعني تغطية العجز بالديون أو المنح.

التضخّم والأزمة المعيشية

مع ضعف العملة وتراجع الانتاجية وتعطيل الدورة الاقتصادية، ارتفع مؤشّر الأسعار في سوريا بنسبة 50 بالمئة. وظهر ذلك ليس فقط في ايجارات الشقق، في المناطق الآمنة، التي ارتفعت ارتفاعاً صاروخياً، بل إنّ الغلاء أصاب أيضاً كافة السلع الاستهلاكية التي اعتاد السوريون زهد أسعارها. ذلك أنّ البضائع تناقصت في الأسواق بعدما تعطّلت الدورة الاقتصادية في البلاد، وتوقفّت كلياً أو جزئياً قطاعات اقتصادية مهمّة في الصناعة والخدمات، ومن ضمنها الصحة والتعليم والنقل والسياحة والبناء والتصنيع، وأغلقت طرق المواصلات الحيوية التي تربط المدن والمحافظات فسُدّت الأسواق، ولم تصل المواد الأولية والتحويلية إلى المصانع، كما طبعت الحكومة كميات من العملة في روسيا لدعم السيولة في الدورة الاقتصادية. فارتفع مؤشّر التضخم إلى 50 بالمئة في أيلول عام 2012، وإلى درجات أعلى في منتصف العام، حيث تضاعفت أسعار بعض السلع الأساسية كالمازوت والخبز. وتراجعت الزراعة فهبط محصول القمح والشعير عام 2012 إلى النصف (من 4 أو 5 ملايين طن عام 2011 إلى مليوني طن) وفق تقرير منظمة الأغذية الدولية، ما دفع الحكومة إلى استيراد المزيد من المواد الغذائية.
* أستاذ جامعي لبناني مقيم في كندا
Institute of International Finance (27\12\2012) i.
ii. الإنتاج المحلي القائم: 106 مليارات دولار (2009)، 110 مليارات دولار (2010)، 107 مليارات دولار (2011)، 90 مليار دولار (2012). توزّعت صادرات سوريا عام 2011: 39 بالمئة إلى العراق، 8 بالمئة إلى إيطاليا، 7 بالمئة إلى ألمانيا، 7 بالمئة إلى السعودية، 4 بالمئة إلى الكويت. توزع الاستيراد عام 2011: السعودية 15 بالمئة، الصين 10 بالمئة، الإمارات 7 بالمئة، تركيا 7 بالمئة، إيران 5 بالمئة، إيطاليا 5 بالمئة ، روسيا 5 بالمئة، العراق 4 بالمئة..
iii. وكالة سانا 23 كانون الثاني 2013.