جريمة اغتيال بل إعدام، كما وصفها وزير الداخلية الفرنسي، المناضلات الكرديات الثلاث ساكينة جانسيز، وفيدان دوغان، وليلى سويلماز في العاصمة الفرنسية، لم تكن كأيّ جريمة مشابهة، رغم أنها مجرد حلقة في سلسلة من جرائم وسياسات الاضطهاد والإبادة والقمع بحق الشعب الكردي. الجريمة التي هزت باريس، ومعها الأكراد في وطنهم المقسم، نفذت باحتراف عال، وهي تستمد استثنائيتها من الظرف والمكان اللذين وقعت فيهما. وبهدف وأد ارهاصات الربيع الكردستاني الذي يزهر من آمد (ديار بكر) في كردستان تركيا إلى قامشلو (القامشلي) في كردستان سوريا، ولا سيّما أنّ الحكومة التركية بدأت كخطوة استباقية جولات تفاوض لحلّ القضية الكردية مع الزعيم الكردي الأسير عبد الله أوجلان، بعد نحو عام ونيف من العزلة الممنهجة المطبقة بحقه، مع بدء موجة التحولات والانتفاضات في المنطقة في مسعى منها إلى عزل الرجل ومنعه من التأثير في هذه التحولات وإضعاف الدور والموقع الكرديين عامة في موجة ربيع شعوب المنطقة. فهي بدأت هذا المسعى التفاوضي على وقع تصاعد الحراك التحرري الكردي في تركيا، وفي سوريا خصوصاً، وتمكن أكراد سوريا من إدارة مناطقهم بأنفسهم في غرب كردستان (كردستان سوريا) مع تبنيهم عبر الهيئة الكردية العليا خيار الفدرالية شكلاً للعلاقة مع المركز الدمشقي ما بعد البعث، رغم المحاولات التركية المحمومة لضرب المكتسبات الكردية في سوريا، وتأليب المعارضة العربية السورية الدائرة في فلك أنقرة، بشقيها السياسي والمسلح. الأمر الذي وصل حدّ محاولة احتلال كردستان سوريا من قبل «الجيش الحر» وتنظيم «القاعدة»، كما يحدث في سري كانيه (رأس العين). المخطط فشل اثر المقاومة الكبيرة التي أبدتها وحدات حماية الشعب Ypg، معزّزة بالالتفاف الجماهيري حولها من مختلف مكونات منطقة رأس العين، في منطقة أصبحت حاضنة لعشرات آلاف النازحين واللاجئين من المناطق العربية السورية.وفي استهداف الناشطات الكرديات الثلاث، وفي مقدمهن المناضلة المخضرمة والعضو المؤسس لحزب العمال الكردستاني ساكينة جانسيز وفي قلب باريس، دلالة واضحة على استهداف الطابع الحضاري المتقدم للحراك التحرري الكردي، ولا سيّما مع موجة ربيع شعوب المنطقة، حيث تؤدي المرأة الكردية دوراً ريادياً، فاستهدافها هو ضرب لقيم الحرية والمساواة، التي تمثلها حركة التحرر الكردستانية، إن في دعوتها إلى المساواة والتكافؤ بين مختلف الشعوب والجماعات الدينية والقومية في الدول المقتسمة لكردستان، أو بين الجنسين. وهي محاولة لارهاب الأكراد عامة، والمرأة الكردية خاصة، ولضرب النموذج الثوري الكردي، حيث إنّه في ظل تصاعد النزعات الطائفية في المنطقة، واصطباغ تحولاتها وانتفاضاتها بصبغة طائفية يبرز الاستثناء الكردي، في تقديمه نموذجاً تحررياً عصرياً واعداً، يرنو إلى المستقبل وفق مبادئ التعدد والتسامح، والتعايش، والحرية، ولا سيّما حرية المرأة.
لذا جريمة اغتيال جانسيز ورفيقتيها بهذه الطريقة الثأرية المنحطة لم تأتِ اعتباطاً، بل هي في أحد استهدافاتها الأساسية محاولة لاضعاف هذا التقليد المشرق والمشرف للحراك التحرري الكردستاني.
واللافت أنّ هذه الجريمة وقعت بعيد الترحيب الكردي، إن عبر الزعيم أوجلان أو منظومة المجتمع الكردستاني على لسان رئيسها السيد مراد قره يلان، بالحوار طريقاً للحلّ السلمي العادل. كيف لا والأكراد لطالما كانوا دعاة الحلّ السلمي، وحقن الدماء، فيما أدّى الجانب التركي، دائماً، دور الرافض والمصرّ على الحلّ الأمني والعسكري للقضية الكردية. هذا الخيار لم يعد يستقيم مع مرحلة ربيع شعوب الشرق الأوسط، وتهاوي نظم الاستبداد من حول تركيا.
ورغم أنّه من المبكر الحكم على جدية الطرف التركي من عدمها، إلّا أنّ أنقرة لم تقدم بعد على خطوات ملموسة في سياق تأكيد جدّيتها، كتحسين شروط سجن أوجلان، والشروع في بعض الاجراءات الأولية التي تزرع الثقة وتبدّد المخاوف حول كون المبادرة التركية قد تكون مجرد مناورة، لا بل إن مواقف الحكومة التركية من جريمة اغتيال المناضلات الكرديات في باريس ذهبت إلى حدّ محاولة تصوير الأمر كأنه تصفية حسابات داخلية كردية، فيما هذه الحكومة نفسها تبقى في موضع الاتهام المباشر بالوقوف خلف هذه الجريمة، حتى لو افترضنا أنّه ليس ثمّة قرار سياسي من حكومة أنقرة بارتكاب هذه الجريمة.
وتبقى الفرضية الأقوى، والأكثر منطقية، أنّ جهات يمينية متطرفة أو استخبارية أمنية في تركيا، تسندها مراكز قوى تقليدية في ما يعرف بالدولة العميقة، هي من تقف خلف هذه الجريمة لاجهاض جهود السلام وعملية التفاوض، التي بدأت بين الطرفين التركي والكردي بغية انضاج حلّ سلمي عادل لقضية مزمنة، لن تعرف تركيا الاستقرار دون الاقرار بوجودها وبضرورة معالجتها وفق مقاربة ديموقراطية حضارية، قائمة على الاقرار بالتعدّد وبشراكة الشعب الكردي مع نظيره الشعب التركي في وطن جامع، يعترف دستورياً بالشعب الكردي، وبحقّه في إدارة مناطقه في كردستان تركيا، في اطار اتحادي فدرالي، أو حتى في شكل حكم ذاتي وفق ما تؤدي إليه المفاوضات. هذا الأمر الذي سيعود بالنفع على تركيا ككلّ، بأكرادها وأتراكها، ما سيفتح أمامها الأبواب على مصراعيها لدخول النادي الأوروبي. فليس سراً أنّ بقاء القضية الكردية رهينة المقاربات الاستئصالية العنصرية الفاشلة يعني ببساطة أنّ أنقرة لن تحلم يوماً بالعضوية الأوروبية، فلو ارتقت الحكومة التركية إلى اللحظة التاريخية، واتخذت قراراً شجاعاً بمعالجة هذه القضية بالاتفاق مع عبد الله أوجلان، الذي هو عنوان أمة، فستكون بذلك قد أخرجت الدولة التركية من دوامة الاضطرابات والتحولات المزلزلة التي تعصف بعموم دول المنطقة المأزومة. تركيا ليست بأيّ حال خارج دائرة الاضطراب هذه، طالما أنّها تعاني مشكلة كردية تتمثل في وجود نحو 25 مليون كردي محرومين أبسط حقوقهم الانسانية والديموقراطية
القومية.
وتبقى الحكومة التركية هي المتهم الأول في هذه الجريمة، وهي من تتحمل المسؤولية عنها ولو على نحو غير مباشر، إن افترضنا أنّ أطرافاً عنصرية متطرفة في تركيا، إن في دوائر الاستخبارات والأمن والجيش أو حتى خارجها، هي الفاعلة مع عدم اغفال احتمال تورّط جهات أخرى اقليمية ودولية، وخاصة أنّ المنطقة برمتها تعيش مخاضاً دموياً عسيراً، بحيث اختلطت أوراقها وتشابكت قضاياها بعضها ببعض على نحو لا مثيل له. ومن هنا، تسعى بعض الأطراف إلى عرقلة أيّ محاولة لحلّ القضية الكردية سلمياً عبر بوابة الزعيم الكردي أوجلان، الذي هو الأقدر على انجاز تسوية تاريخية مع أنقرة. إذاً المطلوب حلّ لقضية لطالما قضّت مضاجع الدولة التركية، وستبقى إن لم يجرِ اقتناص هذه الفرصة والمضي في خيار الحلّ السياسي السلمي إلى النهاية، أي إلى حدّ انتاج جمهورية جديدة في تركيا قوامها شراكة بين الشعبين، والنصّ دستورياً على هذه الشراكة التي ستكون دعامة رئيسية لدمقرطة تركيا، وازدهارها، وتحوّلها إلى قوة اقليمية كبرى، ليس عبر إعادة انتاج نموذج امبراطوري عثماني، كما بشّرنا بذلك قبل بضعة أيام بتعيين والٍ تركي (هل أقول عثماني) على السوريين، بل في تقديمها نموذج الدولة الديموقراطية التعددية المتصالحة مع نفسها، ومع مكوناتها، وتالياً مع محيطها والعالم ككل.
*كاتب كردي