تُعرف وزارة الخارجية الروسية بلغة أهلها، اختصاراً بالـ«ميد»؛ وهذه كلمة تتشكّل من مزيج أول الحروف في ثلاث كلمات روسية متتابعة، تعني حرفياً: «وزارة الشؤون الخارجية». وكان يلحق بهذه الكلمة، بطبيعة الحال، المختصر الحروفي الشهير الذي يشير إلى الاتحاد السوفياتي (يو. إس. إس. أر.). وفي العهد الحالي يرتبط بها اسم روسيا. وبالمحصلة، فإن الـ«ميد» بقي «ميداً»، رغم تغيّر الأحوال، وتبدل اسم الدولة وهويتها.
مولوتوف وغروميكو

كان الـ«ميد» دوماً، مكاناً مختلفاً، وهذا الاختلاف ليس وليد الصدفة، فقد صنعته عوامل كبيرة وجوهرية، منها عاملان صنعهما وزيران مرّا على الـ«ميد» مروراً مؤثراً؛ الأول فيتشسلاف مولوتوف لدوره في تأسيس معهد العلاقات الدولية، الذي هو إلى اليوم واحد من أركان الـ«ميد» الوطيدة. والثاني، عميد الدبلوماسية السوفياتية أندريه غروميكو، الذي جعل من الانتماء إلى الوزارة «عصبية» تمثّل الوطنية والانتماء إلى الدولة العظمى بطبيعتها، والقوية بقدرها؛ ومن الطريف أنّ الأخير (غروميكو)، عاش طفولته ونشأ في ضيعة كان أغلب سكانها من عائلته، بل إنّ اسم العائلة مأخوذ من اسم تلك الضيعة البيلاروسية المجهولة. وهكذا، فليس غريباً أنّ الرجل، الذي حمل اسم المكان الذي ولد فيه وعاش بين أناس ينتمي إليهم وينتمون إليه، نقل ما اعتاده في طفولته، ليكون ناموساً في مكان عمله، بحيث أضحى مزيج الأحرف الثلاثة التي تشير إلى الوزارة شيفرة وراثية، تحدّد نوعاً من الانتماء وصنفاً من الولاء.
ومن هنا، ليس غريباً أنّ الوزير الذي اختاره غورباتشوف من خارج الوزارة (إدوارد شيفارنادزه)، خرج منها مستقيلاً بعد نحو أربع سنوات باكياً، ينتابه الذعر بأنّ قوى الشدّ العكسي تحيط به، وبالدولة، من كل حدب وصوب، وأنّ انقلاباً ما لا بدّ أن يحدث. كما أنّه ليس من الغريب أنّ ذلك «الانقلاب» وقع فعلاً في آب عام 1991، بينما بقيت أوساط الخارجية السوفياتية محايدة بغموض، لا تخرج عن صمتها، في حين أن السفير الوحيد الذي أدان ذلك الانقلاب (بوريس بانكين في تشيكوسلوفاكيا السابقة)، وأراد المنتصرون مكافأته على موقفه، فعيّنوه وزيراً، لم يعمر في «الخارجية» سوى شهرين ونصف شهر.

معهد الـ«ميد»

وفي الحقيقة، فإن الخصوصية التي يتمتع بها الـ«ميد» تتضمن، كذلك، حقيقة أنّه لا يستقبل المنتسبين إليه عشوائياً؛ ولا يقبلهم بترشيحات من «الحزب» (سابقاً) أو من الأجهزة. بل هو يملك «مفرخته» المتخصصة، ويعدّ موظفيه المستقبليين في مؤسسته التعليمية والتأهيلية الخاصة (معهد العلاقات الدولية)، ويختار رجاله المستقبليين على مهل، وينتخبهم من بين متخرجي هذا المعهد الموهوبين والبارزين.
بمعنى أدقّ، لا يأتي أحد بالصدفة إلى الـ«ميد». ومن غير المتوقع أن يجد شخص ما نفسه هناك عرضاً أو نتيجة لرغبته الخاصة فقط؛ فهو بالضرورة مختار ومصطفى من بين زملائه الذين انتسبوا إلى معهد العلاقات الدولية، مدفوعين بطموح جارف بأن يدخلوا من تلك البوابة، التي تقود إلى دواخل ذلك المبنى الأكثر إثارة وغموضاً من بين الشقيقات الستالينية السبع!
وبالطبع، فإنّ الطموح الذي يعيشه طلاب معهد العلاقات الدولية، تتم تغذيته بحالات من الإعجاب بالـ«ميد» وأهله، الذين يصبحون مثلاً أعلى، ولا يلبث هذا الإعجاب أن يتحول مع دخولهم مبنى الخارجية إلى ولاء وانتماء كاملين لـ«مجتمع» له خصوصيته داخل المجتمع، كما له حصانته أمام الأجهزة، ويمتلك وضعه الخاص في الدولة، ويحظى بحصته الكاملة في النخبة
الحاكمة.
وهنا، متسع لكلمتين حول الوزير لافروف نفسه؛ لقد تلقى تعليمه في مدرسة تتبنى التعليم المعمق للإنكليزية. وهذه تشي بخيارات عائلية لا تتوفر مصادر تؤكدها، ولكن توجهه للدراسة بمعهد العلاقات الدولية لاحقاً يزيد من منسوب احتمال القصدية في الموضوع، فضلاً عما يشي به انتقاله مباشرة بعد تخرجه للعمل في الـ«ميد»، الذي لم يعمل في حياته العملية، التي تصل إلى أربعين عاماً، لغيره أبداً.

أسلاف وأكلاف

استهلك الـ«ميد»، في مرحلتيه الروسية والسوفياتية، نحو خمسة عشر مفوضاً ووزيراً؛ منهم عشرة وزراء في المرحلة السوفياتية، ينقسمون إلى قسمين: الأول يتكون من «مفوضي الشعب» بالشؤون الخارجية، وعدد هؤلاء أربعة، هم بالترتيب: ليون تروتسكي، وغريغوري تشتشيرين، ومكسيم ليتفينوف، وفيتشسلاف مولوتوف. أما القسم الثاني، فهو يتمثل بالوزراء، ويمثله كلّ من: أندريه فيشينسكي، وديمتري شيبيلوف، وأندريه غروميكو، وإدوارد شيفاردنادزه، وألكسندر بيسميرتنيخ، وبوريس بانكين. ويضاف إليهم عدد آخر من وزراء الـ«ميد» في المرحلة الروسية (أربعة)، هم بالترتيب: أندريه كوزيريف، ويفغيني بريماكوف، وإيغور إيفانوف، والوزير الحالي سيرغي لافروف.
هذه التقسيمة تعكس على نحو ما ثلاث حقب مرت على الخارجية الروسية _ السوفياتية سابقاً _، وهي: المفوضية، ثم الوزارة السوفياتية، ثم الوزارة الروسية، في تصاريف تعكس مراحل من عمر الدولة، وتحولات نظرتها للسياسة الخارجية، حيث يبدو الاستقرار في عمل الـ«ميد»، في المرحلة الأولى التي تمتد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، من خلال الإقامة الطويلة للوزراء، بمتوسط ثماني سنوات للوزير (هذا باستثناء مرحلة تروتسكي التي لم تزد على سبعة أشهر).
في هذه المرحلة، كانت الدولة تتحرج الظهور كتفاً إلى كتف إلى جانب «الحزب» والثورة، فلهما صدارة المشهد، ولها الظلال والأعباء والمسؤولية، ولا سيما في حالات الإخفاق. وكانت «الخارجية» تسير بمحاذاة حائط «الكومنتيرن»، ولغة المصالح تهمس بحذر إلى جوار الخطاب الأيديولوجي، الذي كان يصخب في الحديث عن الثورة المستمرة (تروتسكي)، وفكرة أن «تنتصر الثورة الشيوعية فقط إذا كانت ثورة عالمية»، وأنّ «مع نمو الثورة، تتحول إلى ثورة عالمية للأسباب نفسها التي أدت بالحرب الإمبريالية إلى التحول إلى حرب عالمية» (بوخارين وبريوبرجينسكي)، وهو كلام ردّد ما يشبهه لينين لدى سعيه إلى إبرام اتفاق بريست ليتوفسك عام 1917.
ومن الطريف أنّ تروتسكي، الذي تولى التفاوض مع الألمان عام 1917 لتوقيع اتفاق يتيح لروسيا السوفياتية حينها الخروج من الحرب العالمية الأولى (كان مفوض الشؤون الخارجية)، ظلّ يماطل بعقد الاتفاق مقتنعاً بأنّ الثورة العالمية على الأبواب، وستشتعل في أوروبا. ولكن بعد تسعة أسابيع من المفاوضات بدون نتيجة، حركت ألمانيا قواتها لاجتياح روسيا، وعندها أرسل لينين إلى تروتسكي، يطلب إليه قبول الشروط الألمانية وتوقيع الاتفاقية دون تأخير.

وزراء من عهدين

في المرحلة الثانية، انتقل الـ«ميد»، مروراً بثلاثة من الوزراء، ليصل إلى يد الوزير أندريه غروميكو، الذي تسلمه في مطلع عام 1957، ليحتفظ بموقعه فيه حتى عام 1985؛ أي عملياً، طوال المرحلة التي أخذت اسم الحرب الباردة. في حين بدأت بتسليمه الـ«ميد» لإدوارد شيفاردنادزه مرحلة انهيار الدولة السوفياتية، التي اكتملت في عام 1991. وشهدت هذه المرحلة تعاقب ثلاثة وزراء، هم: بيسميرتنيخ وبانكين، الذي لم يبقَ على رأس الوزراة سوى أقل من ثلاثة أشهر، ليعقبه مرة أخرى إدوارد شيفاردنادزه ليسجل أقل مدة في عمر وزراء الخارجية، إذ لم تستمر وزارته الثانية سوى شهر ونحو خمسة أيام؛ فقد كان الاتحاد السوفياتي قد انتهى.
في المرحلة الثالثة، الروسية، تعود الأمور إلى الاستقرار مع تعيين أندريه كوزيريف الذي احتفظ بالوزارة حتى عام 1996، ليخلفه يفغيني بريماكوف لمدة ثلاثة أعوام، قبل أن يعقبه إيغور إيفانوف الذي استقر في موقعه نحو ستة أعوام، هي المتوسط المعقول لسنوات الخدمة في موقع وزير الخارجية. وهو المعدل الذي تجاوزه وزير الخارجية الحالي سيرغي لافروف، حيث يتمّ قريباً التسع سنوات.
لم يستقبل الـ«ميد»، في عهديه السوفياتي والروسي، الوزير نفسه مرتين، إلا في حالة واحدة، هي حالة الوزير فيتشسلاف مولوتوف، الذي تمت تسميته على رأس «الخارجية» مرة ثانية وقد أصبحت وزارة، في عهد خروتشوف، خلفاً لأندريه فيشينسكي (آخر وزير في المرحلة الستالينية). لكن مولوتوف سرعان ما اختلف مع خروتشوف حول تقويم إرث ستالين ودوره، فتمت إطاحته بعد ثلاث سنوات. أما الحالة الأخرى، فيمكن تجاهلها، وهي الفترة الثانية لإدوارد شيفاردنادزه التي بالكاد زادت على الشهر بأيام.
الفكرة الأساسية هنا تتمثّل في أنّ القاعدة العامة أن يخلف الوزير واحد من بين رجال الصف الأول، وليس أحد من زملائه السابقين؛ فالـ«ميد» لا يستقبل المتقاعدين، والوزير في عرفه يتقاعد وينصرف إلى شؤون أخرى، وهذا ما يعطي أهمية لرجال الصف الثاني في الوزارة، وفي مقدمهم نواب الوزير ومساعدوه، ثم السفراء المعاد استدعاؤهم إلى المركز، أو رأس المندوبية العامة في الأمم المتحدة (من هناك جاء إلى الوزارة: غروميكو، ولافروف... ويا لها من صدفة تمنحهما مثل هذا القاسم المشترك).
لكن ثمّة استثناءات طبعاً؛ فقد مثلت علاقة غورباتشوف بالـ«ميد» حالة اعتداء مزدوج؛ فقد جاء له بوزير من خارجه (شيفاردنادزه)، ثمّ تجاوز دور الوزارة من خلال ميله إلى رسم دور خاص له، يتيح له التعاطي مع السياسة الخارجية بنفسه مباشرة، بما عرف بتقليد القمم والزيارات غير المعهودة بتعددها للخارج. وتكررت هذه الحالة مع بوريس يلتسين، حينما جاء بيفغيني بريماكوف وزيراً، وهو من خارجها، إضافة إلى أنه في العرف شخصية سياسية متقاعدة.
وفي ردة فعل على «اعتداء» غورباتشوف، تكرست سمعة الـ«ميد»، بوصفه طليعة الجهاز البيروقراطي العنيد، الذي يأبى التخلي عن ثقافته السوفياتية. وفي مرحلة يلتسين، بات معروفاً أنّ الخارجية «وكر» رجال الدولة، وأنصار فكرة أنّ الدولة العظمى هي قدر روسيا، وأنّ السياسة صراع مستمر، يمكن إدارته، ولا يمكن تصفيته، وأن «البزنس» (معبود الحكام الجدد) ليس شيئاً خارج اقتصاد الدولة، وأن الاقتصاد نفسه يدار بالسياسة أيضاً، ويحتاج إليها.
العلاقة المشوهة بالـ«ميد»، التي بدأت مع غورباتشوف وتعمقت مع يلتسن، تجاوزها بوتين باختياره لسيرغي لافروف وزيراً في عام 2004، حيث سحب الصلاحيات عن السياسة الخارجية من مجلس الأمن القومي ومكتب الخارجية في الرئاسة، وأعادها إلى الـ«ميد»، الذي أضحى المسؤول الحصري عن وضع مبادئها وتنفيذها، وتحويل سلطة الجهات الأخرى ذات العلاقة إلى صلاحيات بتقديم المشورة والتنسيب غير الملزم.

عابرو حكومات ولغات

وزراء الخارجية في العهدين، السوفياتي والروسي على حدّ سواء، هم بالعادة وزراء عابرون للحكومات؛ اللهم فقط في تلك المراحل التي تتسم بعدم الاستقرار نتيجة تحولات داخلية، مثل السنوات الأولى للثورة البلشفية ومرحلة انهيار الاتحاد السوفياتي أو في ظروف الأوضاع الدولية المستجدة، كنتائج الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي يشي بالوضع الخاص الذي يتمتع به وزراء الخارجية.
وأهل الـ«ميد» هم بالعادة ثلاثيو اللسان (اللغات)، فكل واحد منهم يتأهل بلغتين إلى جانب الروسية؛ واحدة يخدم بها، وفي بلدانها. وأخرى ثقافة عامة واحتياطية ضرورية. وبما أنّ اللغة تمثل ثقافة، تتعزّز بالغالب في المراحل المبكرة بخدمة في البلدان الناطقة بها، فإن الـ«ميد» يحفل بـ«القوميات»، ويقصد بذلك مجموعات الموظفين من الناطقين بلغة معينة ومن أهل الخدمة الدبلوماسية في بلدان تلك اللغة.
وفي هذا، يمكن الإشارة الى أنّ حصة اللغة العربية ليست قليلة في الـ«ميد»، ويقال إنّه لا لغة تنافسها في أوساط المراتب المتوسطة سوى الإنكليزية، بينما يسجل المستعربون حضوراً بارزاً ومؤثراً، وتروى حكايات عن نفوذهم وتأثيرهم. ومرة أخرى يقال إنّه لا أحد ينافسهم في ذلك سوى الناطقين بالإنكليزية.
ويبلغ عدد المساعدين الحاليين لوزير الخارجية تسعة، سبعة منهم من متخرجي معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية، بينما اثنان فقط من متخرجي معهد الدراسات الآسيوية والأفريقية ومعهد اللغات الشرقية التابعين لجامعة موسكو، التي تحتل بدورها واحدة من «الشقيقات الستالينية السبع»، بينما المعهدان هما على نحو أو آخر معهدان شقيقان.
الوزير لافروف نفسه لا يتحدث العربية، وهو من الناطقين بالانكليزية، ولكن اثنين من أبرز مساعديه يتحدثانها بطلاقة (غاتيلوف وبوغدانوف)، وهما كذلك من أصحاب الخدمة الدبلوماسية في عالمنا العربي.
عموماً، فإن وضع الـ«ميد» الخاص، والمستعاد في عهد بوتين، يحتم النظر إليه دوماً، ومتابعة أهله على وجه التحديد، حينما يتعلق الأمر بسياسة روسيا الخارجية.
*كاتب أردني