في مشهد قلّما شاهده التونسيون، أحاط المئات من قوات النخبة في وزارة الداخلية في قلب العاصمة تونس بأبرز مسجد في المدينة. أفراد فرق الكومندوس، الملثمو الوجوه، تأبطوا الرشاشات والقنابل المسيّلة للدموع، وأغلقوا جميع الممرات التي تؤدي إلى جامع الفتح، الذي يؤمّه كلّ يوم جمعة عدد كبير من موظفي الإدارات الحكومية، لكونه يحاذي مختلف المصالح الحكومية المركزية. المسجد الذي تحوّل بعد ثورة «14 جانفيه» إلى معقل رئيسي للحركة السلفية، أصبح يضيق برواده الذين يضطرون إلى الصلاة في الشوارع المحيطة به.في ذلك اليوم، قرّر أبو عياض، أحد زعماء التيار السلفي في تونس، أن يؤمّ المصلين. القيادي السلفي لم يأبه، بطبيعة الحال، لكون أئمة المساجد التونسية موظفين أساساً لدى وزارة الشؤون الدينية، التي تحتكر دور اختيار الأئمة؛ فأنصاره لديهم سطوة كبيرة لا يمكن أن يحول دونها حراس الجامع، ولا إمامه المعيّن من الوزارة المذكورة.
دعوات سابقة أصدرها عدد من الجمعيات المحسوبة على السلفيين للحضور بكثافة في حضرة أبي عياض، ومواقع إلكترونية بثّت الخطبة مباشرة على الإنترنت. إلى هذه الحدود، تبدو الأمور شبه عادية، وإن كان يجب ألا تكون كذلك في دولة يكفل لها القانون مهمة الإشراف على جميع مساجد البلاد. إلّا أنّ أبا عياض، الذي تدرّب في أعماق الكهوف الأفغانية، أصبح الطريد الرقم واحد للأجهزة الأمنية على خلفية اقتحام السفارة الأميركية في تونس إثر بثّ الفيديو المسيء إلى الرسول محمد.
ذلك أنّ النيابة العمومية أصدرت إذناً بالقبض على الداعية السلفي بقصد التحقيق معه، غير أنّ قوات الشرطة المدججة بمختلف أنواع الأسلحة لم تستطع الإمساك به، وتمكّن بضع عشرات من أنصاره من تهريبه إلى مكان مجهول، رغم تطويق المكان من قوات النخبة.
هذا المشهد يختزل، جزئياً، الحالة التي بلغتها مؤسسات الدولة التونسية بعد إمساك تحالف الترويكا ـــ وعلى رأسهم حركة النهضة الإسلامية ـــ بدفة الحكم منذ قرابة سنة ونيّف.
فالوهن قصم ظهر الإدارة المتزعزعة بفعل انهيار أحد أبرز أركانها، وهو النظام السياسي المستبدّ الذي أرساه الحزب الحاكم السابق، قبل أن تلحق به أضرار سيئة بمجرد إدارة «النهضة» لشؤونها.
النظام الديموقراطي الوليد بعد الثورة يفترض أن يُلزم «الأفرادَ إخضاعَ إرادتهم لعقلهم»، مثلما دعا إلى ذلك المفكر الفرنسي جان جاك روسو. فالسيادة الشعبية تمظهرت في انتخاب المجلس التأسيسي، الذي يفترض أن يضع القوانين العادلة الواجب تنفيذها من قبل الحكومة، إلا أنّ السلطة الحالية ارتأت أن تقود البلاد نحو وجهة أخرى. فبين دولة قوية تضمن الحقوق والحريات، مثلما حلم منظرو الدولة المدنية، ودولة «هي التعبير الاجتماعي عن عقيدة التوحيد»، التي لا تخالف النص الديني (أي نصّ؟ ووفق أيّ فقه؟ ومن هو المؤهل لتحديد القراءة الصائبة والسوية لنصّ القرآن والحديث النبوي؟) لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي هناك فرق شاسع في المفاهيم والنظريات. وليس من المستغرب أن يعمد إسلاميو تونس إلى هدم جميع أركان الدولة المدنية ليبنوا على أنقاضها تصوّرهم لدولة تعود جذور بنيتها إلى العصور الغابرة. الموجة الثورية التي اجتاحت تونس بعد فرار الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي استهدفت بالأساس القضاء على أسس الدكتاتورية؛ فأُعلن إلغاء العمل بالدستور السابق، وحُلّت جميع المؤسسات السياسية المنبثقة منه، وتشكلت حكومة وهيئة موقتة للتمهيد لانتخاب مجلس يؤسس لنظام دولة جديدة. الجميع انخرط في مهمة تفتيت الدولة وإحداث الفراغ من حولها، تيقناً من أنّه سيكون الفائز في انتخابات ستحمله إلى ملء المساحة التي تركها الحاكم السابق. ويا لخيبة المسعى! فالاستبداد لا يُختزل في رأس الحكم، بل يتأسس عندما يجد له سنداً في العقلية العامة للمجتمع. والتونسيون ليسوا ديموقراطيين بما فيه الكفاية، وإلّا ما قبلوا دكتاتورية حكمتهم لمدة نصف قرن، وسيظلّ لديهم دائماً الاستعداد الذهني لتقبّل سلطة طاغية، ولو غيّرت رداءها، حتى إشعار آخر لن يأتي إلّا بعد عشرات السنين. وجاء اكتساح «النهضة» لنتائج الانتخابات متوقعاً من حزب يعمل بنفس أسلوب حزب التجمع الدستوري الديموقراطي المنحل. وبمجرد قيادة هذا الحزب دفة الحكم، بالشراكة مع حزبين صغيرين لا حول لهما ولا قوة، تسارعت وتيرة بناء النموذج «النهضوي» لدولة القرن الحادي والعشرين.
فانهارت منظومة القضاء والعدالة، وانفلت الأمن والاستقرار، وأطلّت القبلية والعشائرية برأسهما من جديد، وديست جميع القوانين المحلية، وتغلغل الإرهاب بين أركان المجتمع. وبالتالي، ضعفت الدولة، التي استندت لأوّل مرة في تاريخها المعاصر، إلى الإرادة الشعبية.
فمنذ الثورة، شهدت البلاد طوفاناً من الإضرابات، والاعتصامات، والتظاهرات لم تعرفه منذ استقلالها. وبقيت حكومة، يديرها أشخاص يفتقدون الكفاءة والخبرة الضرورية لتولي تلك المناصب، عاجزة أمام انحلال الدولة.
العشرات من سجناء الحقّ العام هربوا من السجون و«تاب» جزء كبير منهم فجأة، معلنين تبنيهم الفكر السلفي، ما منحهم صكّ الغفران وحصانة من الملاحقة القضائية.
تونس، التي ظلّت فترات طويلة منارة في منطقة ما زالت تُصارع بكلّ ما أوتي لها من قوة قيم الحداثة، تتعرض لعملية اجتياح مخططة من طرف اللوبيات المالية الضخمة في دول الخليج العربي. فجمعيات محلية تحوز أموالاً هائلة تقدّم خدمات اجتماعية في عدد كبير من المناطق الداخلية، لتعوض عن غياب المؤسسات الحكومية المفترض أن تقوم بتلك الأدوار. وطبعاً الهبات والمساعدات لن تكون دون مقابل؛ إذ يكفي اقتناء قميص أو «تشادور» أفغاني، وإطلاق اللحية، وحفظ بعض الآيات القرآنية، وإعلان الولاء والطاعة لفائدة عدد من الأشخاص، الذين نصّبوا أنفسهم «شيوخاً» للإسلام، حتى تفتح أمام الوالي الجديد جميع خيرات قطر والسعودية. فتونس التي اقتنع أهلها بأنّ الزواج المدني والقانوني هو الكفيل بخلق مجتمع متماسك ومتوازن ومتساوٍ بين جنسيه، سجّلت في سنة واحدة ما بين 700 و800 زواج عرفي، فرضه سلفيو الجامعات والمدارس العليا ـــ الذين لا يُعلم أسباب حالة التعصب التي يتميّزون بها في فضاء أكاديمي يُلقنهم، مبدئياً، الأفكار التنويرية ـــ دون أن تتدخل أجهزة الدولة لإيقاف هذا النزف.
في إحدى ضواحي العاصمة تونس، أُعلن تأسيس مدرسة «دينية» في المرحلة الابتدائية الأولى، لأول مرة منذ إلغاء التعليم الزيتوني سنة 1964. مدرسة لن تعلّم اليافعين العلوم والمعارف الحديثة، بل ستكرّر الشروح والحواشي التي تفسّر قضايا فقهية مرّ عليها الدهر وشرب. وطبعاً، هذا دون أن تحرّك الدولة ساكناً ضد خلق جهاز تعليمي موازٍ قد يسهم في خلق نظام تعليمي بصدد إفراغ عقول الناس وتدجينها. إذاً، الاختراق الإسلامي للدولة التونسية يمرّ عبر مستويين: الأول، في جانبه الرسمي عبر تولي حركة النهضة الإمساك بكامل مقاليد البلاد، من طريق تعيين أفراد من جماعتها في أبرز الوزارات، والمحافظات المحلية ومجالس البلديات وكبرى المؤسسات. والثاني، من خلال غضّ الطرف عن اكتساح مجموعات إسلامية أخرى مقربة منها الفضاء العام. ففي ضاحية «دوار هيشر» الفقيرة، سيّرت مجموعات صغيرة من السلفيين دوريات في أحيائها لردع «مخالفي الشرع»، والقبض عليهم قبل تسليمهم إلى مخافر الشرطة! إيذاناً بنشأة «شرطة إسلامية» لحماية الأخلاق (الأخلاق وفق منظور المتشددين طبعاً) والنهي عن المنكر. كذلك لا حديث في تونس أخيراً، إلا عمّا سُمي «لجان حماية الثورة»، أو النسخة التونسية لقوات الباسيج الإيرانية. بلطجية تحصّلوا على الضوء الأخضر من طرف راشد الغنوشي، الذي نعتهم بـ«روح وضمير الثورة» من أجل العيث في البلاد فساداً. فها هم تارةً يتصدون لنشاط نقابي، وطوراً يعنّفون أحد السياسيين أو يمنعون اجتماع إحدى الحركات الحزبية. ميليشيا أدّت في إحدى غزواتها إلى مقتل قيادي في أحد أحزاب المعارضة، وهو لأمر يُعدّ مستهجناً في بلد تندر فيه عمليات الاغتيال السياسي.
حركة النهضة لا تؤمن بقيم الدولة المدنية، التي هي غريبة عن المعجم السياسي لحزب لا يزال يولي بأنظاره إلى عصور غبرت. ألم ينذر رئيس الحكومة المؤقت حمادي الجبالي في أحد اجتماعات حزبه بقرب إعلان «الخلافة السادسة»! لا شيء يمنع، في الوقت الحاضر، أن يواصل النهضويون مخططاتهم ما داموا قد وجدوا الطريق معبّداً... بمساعدة العلمانيين!
*صحافي تونسي