لا توجد نسخة رسمية واحدة لقائمة المطالب التي قيل إنّ التظاهرات والاعتصامات المستمرّة في محافظات الأنبار، ونينوى، وصلاح الدين قدّمتها، ربما لعدم وجود جهة رسمية مخوّلة التوقيع عليها، وإنّما هناك نسخ عديدة متشابهة. ونشير عرضاً إلى أنّ ديباجة هذه القائمة من المطالب ذكرت أنها صدرت «بمباركة سماحة العلامة المرجع الكبير عبد الملك السعدي»، ولكنها لا تحمل توقيعه الصريح، وهي المرة الأولى التي تستعمل فيها عبارة «المرجع الكبير» الشائعة لدى المسلمين الشيعة. أما النسخة التي عرضتها قناة «الجزيرة» في برنامج حواري بثته مساء 7/12/2013، واستضافت فيه المحلل السياسي المرموق د. يحيى الكبيسي والناطق باسم «هيئة علماء المسلمين» د. مثنى الضاري، فهي نسخة محرَّفة وعديمة القيمة حاول محررها تنقية المطالب مما اتهمت به، ووضعها في حلّة لغوية وأسلوبية أخرى فأفرغها من أيّ محتوى مفيد في مجرى العمل التحليلي. فهي مثلاً، تذكر مطلب (إقرار قانون العفو العام وإطلاق سراح جميع المعتقلين)، وتحذف عبارة «دون استثناءات»، ومطلب (إجراء تعداد سكاني تحت إشراف الأمم المتحدة) وتحذف منه عبارة (مع ذكر جميع تفاصيل انتماء جميع العراقيين من مذهب وقومية ودين). إنّ تحويراً كهذا أمر متوقع من هذه القناة التي انحدر مستواها المهني إلى درجة أصبحت معها متخصصة في التشويه العمدي للوثائق، والتصريحات، والوقائع لتضليل الرأي العام وقلب الحقائق، ولكنّ غير المتوقع هو سكوت الضيفين المحترمين عن صنيعها هذا.لقد استقبلت هذه المطالب بما هو متوقع من قبل الطرف المهيمن على الحكم وأنصاره، فبدلاً من التحليل والبحث عن نقاط الاتفاق أو الاختلاف مع الدستور، اختار هذا الطرف الحلّ الأسهل والأكثر حمقاً، فاعتبر المطالب «طائفية ولادستورية» لا يمكن مناقشتها أو التعاطي معها! أما أصحاب المطالب فقد رفضوا بالمقابل مراجعتها أو إعادة صياغة بعضها، مما ثبت عدم واقعيته وتسبّبه في انفضاض جماهير غفيرة من المشاركين في الحركة الاحتجاجية. لقد اعترف أسامة النجيفي، رئيس البرلمان، الذي عرف بتحمسه لمشروع الإقليم السني، بأنّ بعض المطالب غير قابلة للتنفيذ، وينبغي المطالبة بتعديل القوانين المتعلقة بها أو تطبيقها بنحو عادل، لا إلغائها، وتحديداً إلغاء المادة 4/ إرهاب، أو إلغاء قانون المساءلة والعدالة. أما النقد الحقيقي، الذي انطلق من موقف لاطائفي متميّز، فكان ذلك الذي أدلى به النائب حيدر المُلا، ولكن بوصفه قيادياً في جبهة الحوار التي يقودها المطلك، حين قال إنّ «الكثير من هذه المطالب هي استحقاقات للشعب تعبّر عن حقيقة مفادها أن العملية السياسية ذهبت لمشروع لبناء مؤسسات دولة مكونات وليست بناء مؤسسات لدولة مواطنة). ولكنّه أضاف أنّ «عدداً من المطالب التي احتوتها ورقة المتظاهرين مرفوضة». وأكد أنّ «العراقية ترفض أيّ تشريع قانوني أو إجراء تنفيذي يسهم بتعزيز دولة المكونات، وتسعى لدولة المواطنة التي تتجاوز الانتماء المذهبي والديني والقومي للمواطنين العراقيين، ليكون جميع العراقيين متساوين أمام القانون بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية والمذهبية، عبر إجراء تعداد سكاني يشخّص هذه الأمور».
هنا، نجد نقداً مفيداً وحقيقياً لهذه الشطحة المؤسفة في بيان المتظاهرين، التي نرجّح وقوف بعض الطائفيين المتنازعين مع غرمائهم على الغلبة العددية لطائفتهم خلفها. وبمقدار ما يبدو موقف النائب المُلا متماسكاً في هذه النقطة، ولكنه لم يكن كذلك في رؤيته لآفاق الحلّ. إنه لا يخرج عن الفكرة الإنشائية المكرّرة، والقائلة بأنّ «الحلّ الجذري سيكون بتشخيص الخلل البنيوي داخل العملية السياسية، التي لم تستطع أن ترتقي بمؤسسات الدولة العراقية الجديدة ضمن مفهوم دولة المواطنة». إنّ الأمر لا يتعلق بخلل بنيوي داخل العملية السياسية، بل في العملية السياسية القائمة على خطأ مركزي يتعارض مع المواطنة الحديثة، وهو المعبّر عنه بحكم المحاصصة الطائفية التي قبلت به الأطراف الحاكمة كلها بما فيها «العراقية». ولهذا فإنّ رؤية الملا للحلّ الجذري ظلّت غائمة ضمن كلام مرسل لا يلوي على شيء، ومع كل ما قلناه، يبقى صوت النائب الملا هو الأكثر تميزاً وقرباً من الموقف المواطني الحديث داخل معسكر العملية السياسية.
أما المحاولة التي قام بها د. يحيى الكبيسي في برنامج «الجزيرة» لتبرئة المطالب من كونها طائفية، والقول بأنها فئوية، فلم تكن مقنعةً كفايةً؛ فهو في مجرى كلامه وتحليله يعود ليؤكد أنها فئوية بمعنى طائفية، ولكنه يقترب كثيراً من وضع يده على الجرح حين يرفض أنْ يكون «شخص نوري المالكي» هو المسبب لهذا الوضع والأزمات المتوالية كما تصرُّ «فرقة الهجاء والردح الشعبي»، التي يقودها ضده المستشار الرئاسي السابق فخري كريم، بل العملية السياسية برمتها. وهو مصيب تماماً حين يقول إنّ هذه العملية ستنتج المزيد من الأزمات بوجود أو بعدم وجود المالكي، ما بقي أساسها كما هو.
في المقابل، جاءت محاولة د. مثنى الضاري للتفريق بين نوعين من القوى المشاركة في الحركة الاحتجاجية، وهي قوى الإصلاح من داخل العملية السياسية التي تقود حتى الآن الحركة الاحتجاجية، وبين قوى التغيير التي يصل سقفها إلى إسقاط النظام، جاءت سطحية وأيديولوجية أكثر مما هي تحليلية سوسيولوجية؛ فهذا التقسيم غير واقعي، ويهدر السياق المجتمعي؛ إذْ لم تتبلور القوى المعارضة إلى هذه الدرجة حتى الآن. صحيح أنّ هناك مَن يريدون إسقاط النظام والعملية السياسية ككلّ، ومنهم الهيئة التي ينطق باسمها د. الضاري، إضافةً إلى قوى تعتمد أسلوب المفخخات وكواتم الصوت كجناح الدوري في حزب البعث وتنظيم القاعدة، ولكن هذه القوى أصغر كثيراً من أنْ تكون مُعادلاً لقوى فعالة أخرى، أو ممثلة لأسلوب ديموقراطي وسلمي في التغيير تطمح إليه الناس. يمكن أنْ نقارب هذه القضية بشكل آخر أكثر وضوحاً، فنقول إنّ المحاولات التي تريد معالجة أزمات النظام وتصحيح العملية السياسية من داخلها، واعتماداً على آلياتها وقوانينها محكوم عليها بالفشل؛ لكونها قائمة على خطة المتاهة والمحاصصة الطائفية، أما الأقرب إلى الواقع، فهو العمل الجماهيري والسلمي من داخل هذه العملية السياسية وخارجها بهدف تغييرها جذرياً، وتحويلها إلى عملية سياسية وطنية قائمة على أسس المواطنة الحديثة والمساواة.
نعود الآن إلى قائمة المطالب الثلاثة عشر لنرى أنّ المطلب الأول ينصّ على (إطلاق سراح جميع المعتقلات المتهمات وفقاً لقانون الإرهاب وإحالة المتهمات بقضايا جنائية على محافظاتهن ونساء بغداد على الأنبار حصراً، ونقل قضية الدكتور رافع العيساوي وحمايته إلى المؤسسات القضائية في الأنبار، ومحاسبة المقصّرين والمغتصبين في الانتهاكات أعلاه علناً). في هذا المطلب يختلط ما هو مشروع كإطلاق المعتقلات بموجب تقارير المخبر السري، أو من دون مذكرات اعتقال أو تحت بند التستر على الإرهاب، والتي تعتقل بموجبها قريبة أيّ رجل مطلوب للقضاء، بما هو غير مشروع كإطلاق سراح متهمة بزرع مفخخة سببت مقتل العشرات من العراقيين الأبرياء مثلاً، أو امرأة اعتُقلت متلبسة بنقل مواد قتالية ككواتم الصوت وغيرها. ثم لماذا الإصرار على أن تكون الأنبار هي الجهة التي تتولى أمر معتقلات بغداد؟ ومَن قال إنّ المعنيات بالأمر سيوافقن على ذلك؟ بصراحة، ثمّة رائحة غير مريحة في هذا المطلب لا نتردد في وصفها بالتقسيمية، وهي تحاول أن توجد نداً جغرافياً وفئوياً للعاصمة بغداد.
المطلب الثاني والخاص بإيقاف تطبيق أحكام الإعدام، هو مطلب إنساني مشروع، بل وينبغي رفع سقفه إلى المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام نهائياً في العراق، الذي اكتوى شعبه بهذه العقوبة الوحشية قرابة نصف قرن، بلغت ذروتها في المقابر الجماعية للمعدومين في عهد نظام صدام حسين. المطلبان الثالث والرابع يمكن دمجهما في مطلب واحد مفاده (تعليق العمل بالمادة [4] إرهاب بجميع مواده، وإيقاف جميع القضايا المتعلقة بهذه القانون لحين إلغائه من قبل مجلس النواب. وتشريع وإقرار قانون العفو العام مع حذف الاستثناءات، وإطلاق سراح جميع المعتقلين). غير أنّ هذا المطلب خطير جداً، فالمنادون به يشترطون «حذف جميع الاستثناءات»، وإذا ما علمنا أنّ العمليات المسلحة الإجرامية التي تستهدف المدنيين مستمرّة، وقد تصاعدت كثيراً في الأيام الماضية، فإنّ هذا المطلب قد يُعَدّ دعوة صريحة لإطلاق سراح القتلة التكفيريين من تنظيم القاعدة وأمثالهم، رغم كونهم ملطخين بدماء العراقيين من قمم رؤوسهم إلى أخامص أقدامهم، وهي أيضاً، دعوة لتشجيع وتبرير تهديدات عزت الدوري في خطابه الأخير بقتل خصومه السياسيين ممن يسميهم «الداعمين للتحالف الفارسي الصفوي المجوسي داخل العملية السياسية وخارجها». إنّ اعتبار حزب البعث الصدامي «جناح عزت الدوري» بعد هذا الخطاب منظمة إجرامية وإرهابية، أمر لا يمكن شجبه أو استنكاره من اليوم فصاعداً، إنما لا يمكن المساواة بين هذا الجناح وجميع أجنحة البعث الأخرى!
المطلب الخامس والخاص بإلغاء قانون المساءلة والعدالة «النسخة المعدلة من قانون اجتثاث البعث»؛ فهو وإن كان ينسجم مع المبادئ الديموقراطية العامة، والتطبيقات العالمية لحرية التعبير والفكر والنشاط السياسي التي تمنع اجتثاث الأفكار والأحزاب المدنية السلمية، ولكنّه اليوم، يأتي في ظرف خاص وردت فيه دعوة الدوري سابق الذكر لقتل الخصوم، وثانياً، إن هذا الحزب، وجميع أجنحته، لم يقدّم رسمياً الاعتذار لشعبه عمّا اقترفه من ممارسات دموية طوال قرابة أربعة عقود حكم فيها العراق بالحديد والنار، ومع ذلك ينبغي التفكير ملياً في هذا المطلب قبل أنْ يرفع في تحرك شعبي يزعم القائمون عليه أنّه غير مسيّس وذو أهداف شعبية ووطنية عامة. المطلب السادس والخاص بتحقيق التوازن في مؤسسات الدولة مصوغ بنحو يجعله مطلباً طائفياً بامتياز، مع أننا لا ننكر وجود إقصاء وتمييز طائفي في مؤسسات الدولة ضد «العرب السنة» خصوصاً، ولكنْ كان ينبغي المطالبة به ضمن المطالبة بالمساواة بين العراقيين في التوظيف، والأخذ بمبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع بدلاً من تكرار هذا المطلب بهذه الصيغة الملتبسة. المطالب الأخرى جاء بعضها مشروعاً وبسيطاً وسهل التطبيق كرفع الحواجز الكونكريتية، وتحريم استخدام العبارات والشعارات الطائفية في المؤسسات الرسمية وتجنب عمليات الدهم الليلية العشوائية، وإلغاء قانون المخبر السري والإسراع في تشكيل المحكمة الاتحادية العليا من القضاة النزهاء المهنيين، وإعادة جميع المساجد ودور العبادة وأملاك الوقف وأملاك المواطنين الخاصة المغتصبة. وقد أضيفت إلى المطلب الأخير عبارة بخط اليد تفيد بأنّ المقصود هو «العتبة العسكرية»، أي مرقد الإمامين العسكريين في سامراء. وهذا الخلط والصياغة للمطالب ناتجان، كما يبدو، من الارتباك والارتجال والسرعة. أما المطلب الأخير، فيعبّر عن مصالح شخصية لرجال الدين المستفيدين من عوائد هذه الأوقاف الدينية.
ولعل المطلب الخاص بحلّ قيادات العمليات، والآخر المنادي «بإعادة التحقيق في القضايا التي تخصّ الرموز الدينية والوطنية في داخل العراق وخارجه أمام جهات قضائية محايدة بعيدة عن التأثير السياسي». فهما مطلبان حزبيان وسياسيان طرحت قيادة البارزاني أولهما خلال أزمة طوزخرماتو، والثاني صار شعاراً لأحد المسؤولين المدانين من قبل القضاء، هو طارق الهاشمي.
وكنا قد توقفنا عند المطلب العاشر والخاص بـ«إجراء تعداد سكاني شامل قبل الانتخابات العامة مع ذكر تفاصيل الانتماء إلى جميع العراقيين من مذهب وقومية ودينية». فهذا المطلب ينبغي أن يكون مرفوضاً رفضاً تاماً وغير قابل للنقاش، لأنّه يوفّر الأساس الدستوري والإحصائي والنفسي لقيام دولة المكونات الطائفية والعرقية»، وهذا ما لا سبيل إلى إمراره أو القبول به ديموقراطياً ووطنياً.
*كاتب عراقي