طغت خلال الشهرين الماضيين نغمة اختزلت «الحراك الأردني» بأطيافه وتوجهاته بـ«الهبّة التشرينية»، معلنةً أنّها لم تنته بفعل الحلّ الأمني، بل بقرار ذاتي يستجيب للضرورات الملحة في الحفاظ على الكيان والدولة. وذلك في ما يشبه شهادة وفاة، تحاكي عمليات «القتل الرحيم»، من أهل «الحراك» أنفسهم لحراكهم.
تبع ذلك، على الفور، جملة من اللقاءت المستعجلة، أطرافها الملك عبد الله الثاني ورئيس الوزراء عبد الله النسور، كلّ على حدة، وأطياف قومية ويسارية وحراكية متفرقة من جهة أخرى، تبعتها «حملة علاقات عامة» تطوّعت بها هذه القوى، مبشّرة بجدية النظام في تعليق المشانق للفاسدين (قيل في حينه: خلال أسبوعين)، ومركّزة على إعادة بناء صورة الملك «اليساري» الحريص على الكيان الأردني والممانع للتورط في الشأن السوري، وخلافه.
ومن الواضح، أنّ أداء «أهل الحراك» في هذه الخطوات الثلاث لم يكن مرتجلاً، فكلّ خطوة كانت تؤدي إلى نتيجة طبيعية لاحقة: اختزال الحراك بأطيافه وتوجهاته بـ«الهبّة التشرينية»، ثمّ إصدار شهادة وفاة لـ«الهبّة» باعتبارها الحراك نفسه، ومن بعدها اللقاء مع الملك. لذا، لم يكن من الغريب أن يثير السلوك لغطاً عن تحالف ما بين تلك «الأطياف القومية واليسارية والحراكية» مع النظام.
وعملياً، فإنّ الأولوية التي استدعت التحالف مع النظام، تقود «الحلفاء الجدد» إلى إرجاء الحديث عن تعليق المشانق للفاسدين، ثم التعامل «البراغماتي» مع التورط بالشأن السوري (ثمّة موافقة من «الحلفاء الجدد» على مواصلة التعاون الأمني مع إسرائيل)، بينما الفاسدون أنفسهم (الذين يبدو هنا أن علاقتهم بالسياسات التي وضعت الأردن على قائمة الخطر الذي يتهدد وجوده، غير ذات شأن) يمكن أن يصبحوا (بحكم مواقعهم في النظام) شركاء أصليين في هذا التحالف، الذي تجرى محاولات بلورته من خلال الانتخابات، تحت راية الحفاظ على الكيان.
وملخص القول هنا، أنّ بعض الحراكيين، من مستقلين ونخب وقوى سياسية، قد عزموا أمرهم، في حالة معبّرة جداً، على الانتقال بالحراك من روعة البدايات إلى بؤس النهايات.

عودة إلى البدايات

للتسلسل: تحولت حركة الاحتجاجات العمالية والمهنية في الأردن، مع موجة «الربيع العربي»، إلى حراك شعبي، يستقطب فئات وشرائح أوسع من الشارع العريض، ويسجل حضوراً في أغلب مناطق البلاد، مظهراً قدرته على الاستجابة لطموحات أهله بتوسيع نطاقه والتطور به ليتبلور في إطار قادر على تفعيل الشارع واستخدام قوته في الضغط على النظام باتجاهات مطلوبة.
لقد تمثّل سرّ هذا الإنجاز النوعي بتلك اللحظة الـ«بوعزيزية» الحرجة التي اجتاحت البلدان العربية، وأوجدت بقوة تأثيرها على الساحة الأردنية، المتململة أصلاً، ظرفاً سمح بالتوصيل بين البؤر العمالية الاحتجاجية المتفرقة، وقاد إلى الوصل بين مطالبها، وربطها بشبكة من المطالب السياسية، التي مثلت مظلة عامة مكّنت الحراك من أن يستقطب حلفاء جدداً، كانوا يراقبون مشهد «الربيع العربي»، ويتساءلون عن الترجمة الأردنية المباشرة له.
وهكذا، فإنّ الحراك، الذي ابتدأ مطلبياً متفرقاً، واكتسى طابعاً عمالياً واضحاً ومباشراً (عمال المياومة، عمال الميناء... إلخ)، برز في خضم الحدث العربي باعتباره «ربيعاً عربياً» آخر قيد الولادة. وتملكت أهله، في بدايته، قناعة بأنّه سيتطور (ويجب أن يتطور) باتجاه مماثل للأحداث العربية. غير أنّه من المعلوم، اليوم، أنّ هذا لم يحصل، وأنّ الحراك لم يتحوّل إلى «ربيع»، ولا بأيّ معنى من المعاني أو الصور التي شهدناها في بقية بلدان الربيع العربية؛ فلم يسفر عن تحوّل ما، ولم يستقطب «انفعالاً» دولياً، ولا غيرة على «الإنسانية»، ولم يستوجب التباكي على «حرية الشعب» وحقه في «التغيير» من أي طرف وجهة كانت.
وعلينا الاعتراف بأنّ «العلّة» الأساسية في ذلك لا علاقة لها بـ«الحراك» نفسه، أو بحجم فعالياته وقوته، ولا بالحالة الأردنية في أيّ من تجلياتها أو أطرافها، إنما بجدول أعمال «الربيع العربي»، الذي يبدو أنّه أضحى منذ وقت مبكر «منحة خليجية» و«مساعدة أميركية»، بينما الأردن في العادة موعود بالمنح والمساعدات، لكنها تتأخر وتتعطل إلى أن يستدعي ظرف ما إعادة التذكير بها.
وهنا، إذا كان من المريح بالنسبة إلى النظام أن يكون «الحراك» موضوعياً خارج جدول أعمال «الربيع العربي»، فإنّ ذلك لا يلغي الحقائق على الأرض، وهي تشير إلى أنّ الأردن بات يشهد نشاطاً سياسياً عاماً، منتظماً، جعل من الشارع الاحتجاجي بهذا القدر أو ذاك طرفاً يؤخذ بعين الاعتبار من قبل متخذي القرار، ويملأ الفراغ الذي أحدثه غياب برلمان قوي، ويعوّض عن هشاشة الأحزاب والنخب السياسية، التي تقف مسلوبة الإرادة أمام النظام و«الإخوان المسلمون» على حدّ سواء.

حراك وأزمة محلية

بقي «الحراك» واقعياً في حدود «أزمة محلية»؛ لكنّ هذه الأزمة، التي ليس لها حراجة الأحداث العربية المحيطة، ولا وقعها الإعلامي والسياسي، ولا تثير كل ذلك اللغط الدولي، ولا تحظى بالمعجبين العرب والإقليميين المتحمسين، هي برغم ذلك أزمة حقيقية وعميقة، ولا تنفرج إلا إذا مرت ببوابة تحقيق التحول والتغيير النوعي. وبمعنى من المعاني، من حسن حظ الأردنيين أنّهم كانوا خارج جدول أعمال «الربيع العربي». لكن حسن الحظ هذا لا يدفع القلق ولا يلغي الأخطار، فـ«الربيع العربي»، الذي أسقطهم من جدول أعماله، يؤثر عليهم بشدة وقسوة، وهو في نهاية الأمر ليس حليفهم، ولا يمكنه أن يكون، سواء أرادوا ذلك أو لا، بغضّ النظر عن موقفهم منه. بل لعلّ مطامحهم بالتغيير، التي جاءت سابقة للأحداث العربية، لا تحظى بقبول رعاة «الربيع العربي»، الذين يشترطون تغييراً بعينه.
ولتبسيط المعادلة، فإن الجهود الجبارة التي بذلها هؤلاء «الرعاة» في تسخين الساحة السورية، تضمنت، في الوقت نفسه، جهوداً مماثلة في تبريد الوضع الفلسطيني، وتحاشي الاصطدام بانتفاضة ثالثة تهدّد جهود تصفية الصراع العربي الإسرائيلي. وبالنسبة إليهم فإن الأردن ليس واقعاً من الأصل على الحدود السورية، بل هو يقع على حدود الصراع العربي الإسرائيلي تحديداً، وحصراً، ومتداخلاً معه؛ وباختصار، فإنّ نظاماً ضعيفاً في الأردن، ومحكوماً بمعاهدة سلام، هو النتيجة التي تمّ ويتمّ السعي إلى تحقيقها في أكثر من بلد عربي، وبالتالي فحمايته لا تتطلب أيّ «فزعة قومية ويسارية وحراكية»، واستبدال عبارة «النظام» بـ«الكيان» أو «الدولة»، هي في هذا المقام مجرد تذاكٍ لا يحاكي الواقع.
لا يلزم هنا التذكير بأنّ الحراك الأردني، الذي لم يحظ بحلفاء خارجيين، يقف موضوعياً ضد كلّ حلفاء «الربيع العربي»، ولا أدلّ على ذلك من أنّ هذا الحراك لم يجد نفسه مضطراً إلى مجاملة الغرب والأميركيين، ولم يقبل إغفال تأييده الحاسم للحقوق الفلسطينية، التي يحتّم تأييدها اتخاذ موقف جذري من الكيان الغاصب؛ فاختلف عن حراكات «الربيع» بإحراق العلم الأميركي في فعالياته وبالأنشطة التي تذكّر بالصراع العربي الإسرائيلي، فضلاً عن أنّ توجهاته نفسها، معادية لاتفاقيتي وادي عربة وأوسلو. وهذا الموقف تكشفه حقيقة أنّه بدأ في المناطق الممثلة تقليدياً القاعدة الاجتماعية للنظام، التي تشعر بعمق أنها تضرّرت من العملية السياسية، التي ترجمت بالاتفاقيتين المذكورتين، ومن السياسات التي تبعتهما. وهذا فارق هامّ يميّزه عن «الربيع العربي».
هذه الفوارق، وغيرها، جعلت من وعي «الحراك الأردني» متحرراً عملياً من أوهام عملية «الربيع العربي»؛ ويمكن تلمّس المزيد من التمايزات والفوارق الإضافية، التي وفرت له ظروفاً مناسبة للاستمرار بإيقاع محلي وسلمي، وتبعده عن أن يكون نشاطاً تخريبياً دولياً، كما في ليبيا وسوريا، وتقلّل من منسوب الهوس العربي والغربي في السيطرة على أحداثه وتوجيهها.

المعضلة ليست هنا

بالمحصلة، فإنّ الطبيعة المحلية الخالصة، تمثّل إشارة إلى حراك مدفوع حصراً بأسبابه الذاتية والموضوعية المحلية، رغم أنّ هذا يجعله أكثر عرضة للانتكاسات وحالات التراجع. ولكن لا ضير، فهو محكوم في حركته بالبطء، وبصروف المدّ والجزر، فضلاً عن أنّ الحالات العربية التي طبقت (أو طُبقت عليها) السيناريوهات السريعة انتهى بها الأمر إلى إنتاج حالات احتلالية على الطريقة العراقية، بدلاً من أن تحقّق التغيير المنشود.
من المفترض أن لا يؤثر تراجع مدّ «الربيع العربي» على الحراك نفسه، لكن من المحتّم أن يؤثر بالمقابل على «الإخوان المسلمون» وجماعات الليبراليين والملتحقين الجدد بهم (أركان التحالف الجديد)، ويقلّل من فرصهم فيه وحوله، في الوقت الذي يفيد فيه الحراك من ذلك في تصحيح مساره، وتحديد وجهته، وتوجيه بوصلته بدقة. تتمثل المعضلة الحقيقية، كما هو واضح، في عدم إدراك الميزة الأساسية للحراك الأردني التي تمثلت طوال الوقت بطابعه المحلي؛ ولم يفطن المتحالفون الجدد مع النظام إلى أنّ هذا بالذات ما كان يسعى إلى تجاوزه وتحطيمه «الإخوان المسلمون»، الذين يحاولون بلا كلل ربط الحراك بحركة ما يسمّى «الربيع العربي»، من الوجهة التي يتوكلون بها.
ولم ينتبه هؤلاء أيضاً إلى أنّ «النظام» استطاع عملياً ونهائياً، وصولاً إلى «الهبّة التشرينية»، التي استدعاها عمداً، أن يضع الحراك الأردني في وضعية المرشح لعضوية الوجهة الثانية من «الربيع العربي»، وصورتها الصارخة الحالة البحرينية، حيث تقف القوى الراعية لـ«الربيع» إلى جوار النظام؛ والدعوة الخليجية لضمّ الأردن لمجلس التعاون هي أصلاً تعبير مبكّر عن ذلك. في حين أنّ التحفظ الخليجي على هذه الدعوة، ينطلق من أنّ ضرورات الحفاظ على الوضع في الأردن لا تستدعي منحه عضوية النادي الخليجي. المعضلة الأساسية الأخرى، تتمثل في أنّه يتمّ تغييب الحراك نفسه، لصالح الانتخابات التي هي مشروع النظام نفسه، وتجري بقانونه الذي يناسبه حصراً، وأنّه يتمّ في الأثناء تغييب شعارات «الحراك» التي كانت تحرك الشارع لصالح تعميم شعارات الدعاية الانتخابية، وتحويل وجهة الصراع نحو خلاف على انتخابات لن تغير شيئاً، لكنها تستنزف بشدة علاقة الحراك بشارعه. والأدهى، أنّ الانتخابات ستنقضي، بينما سيجد «الحراك» أنّه أودع صوته في الصناديق، التي يراد لها أن تغلق بالشمع الأحمر، على كل الآمال والطموحات التي تداولها الشارع خلال العامين المنصرمين. وعملياً، يبدو الأمر كأنما بعض أهل ونخب «الحراك الأردني»، الذين يعتقدون أنّ ظروفهم وفرصهم نضجت، قرروا التخلص منه بعملية «قتل رحيم»، وقد تهيأت فرصة دفنه في صناديق الاقتراع الملكية.
* كاتب أردني