كانت أشبه بحكومة مصغّرة، مصمّمة لقيادة الحروب، تلك التي أعلن عنها الملك سلمان منذ تسلّمه مقاليد السلطة في 23 كانون الثاني 2015. عينّ وزير الداخلية محمد بن نايف لقيادة الحرب في الداخل فيما عين ابنه وزير الدفاع محمد بن سلمان لقيادة حروب الخارج.
توزيع السلطة على أساس ثنائية الداخل والخارج، يرسم معالم مرحلة جديدة ليس على مستوى شكل الحكم، أو طريقة إدارة الدولة، بل الأهم من ذلك كله إدارة مرحلة تكون فيها الحرب عنوانها الوحيد.
لم يكن محض مصادفة التزامن بين تشديد القبضة الأمنية الى أقصى درجاتها في الداخل والحروب المتناسلة من أحشاء «عاصفة الحزم» في الخارج. توزيع الأدوار بين ابن سلمان وابن نايف لا صلة له بالصراع على السلطة، فتلك لحظة افتراس مؤجّلة، ولكن ثمة استحقاق تاريخي يملي العمل المشترك من أجل إنقاذ الكيان في وقت يتجابه مع دوره الوظيفي، كدولة محوّرية لا تزال قادرة على حشد الدول المدرجة على «بند الإعاشات» في لوائح وزارة المالية لإثبات، وإن في الشكل، أنها الدولة الرائدة والقائدة للعالم السنّي.
في الداخل، قصة قمع مفتوحة، وستار مسدل على أشكال شتى من حملة ترويع متصاعدة في كل أرجاء السجن الكبير. اعتقالات عشوائية، اعدامات عبثيّة، واستدعاءات متواصلة للنشطاء على ذمة التحقيق، ومنع من الخطابة والكتابة والسفر، وحرمان من الحقوق المدنية، وإعادة محاكمة عشرات المعتقلين، وتشديد العقوبات...
يجري ذلك كله بتواطؤ من أطراف عدّة: داخلياً تزاول الصحافة المحلية وظيفة الضد النوعي، وبدلاً من مناصرة الحريات تحوّلت أداة لقمعها، وتبرير كل فعل تقوم به أجهزة الداخلية ضد النشطاء والمدافعين عن حقوق الانسان. الدور ذاته، يضطلع به مشايخ السلطة الذين يباركون الاعدامات، وتدابير القمع من خلفية طائفية وإيديولوجية. وخارجياً، ثمة صمت دولي (أميركي وأوروبي بدرجة أساسية) برغم من تصاعد الانتقادات في الصحافة وجماعات الضغط في الغرب إزاء تمكين النظام السعودي عبر صفقات التسلّح من ارتكاب جرائم حرب في اليمن وانتهاك حقوق الانسان في بلاده.
خلاصة التحرّكات السعودية تتمحور حول تعميم الفوضى

في الخارج، تبدو دبلوماسية الحرب وحدها الفاعلة في علاقة السعودية مع الإقليم. كانت «عاصفة الحزم» في 26 آذار 2015 فاتحة عهد الحروب المتدحرجة في المنطقة. تسلّم بن سلمان دفّة القيادة العسكرية نيابة عن والده، الملك، كيما يكون رسوله المباشر إلى الحلفاء والخصوم على السواء.
لا تسوية منتظرة في المرحلة المقبلة، إنها الحرب المفتوحة، مهما كلّفت من ثمن..لا حسابات منطقية ولا رياضية في هذه الحرب، ولا تخضع لقدرات واقعية أو حتى عملانية... الحرب ثم الطوفان من بعد ذلك.
كلام الرياض عن تدخّل بري في سوريا قد يعني أبعد منها جغرافياً. في المستور السعودي ـ الوهابي رهان على معركة تمتد من كراتشي الى دمشق مروراً بطهران وبغداد نزولاً الى صنعاء. بكلمات أخرى، إن خليت الرياض وجنونها سوف تضع المنطقة برمتها في مهب الإرهاب. في تجربة العدوان على اليمن ما ينهض دليلاً على جنوح آل سعود للوصول الى هذه النتيجة. فالمناطق التي خرجت من سيطرة الجيش واللجان الشعيبة في الجنوب باتت خاضعة تحت سيطرة تنظيم «القاعدة»، و«داعش». وعليه، بعد أن كانت «القاعدة» على وشك الانهيار في اليمن، وجدت من يهبها الحياة لأمد بعيد، وزاد العدوان السعودي عليها حبّة «داعش»، التي لم تكن سوى اسم لا وجود له في اليمن، وأصبح اليوم منافساً لجماعة هادي بل مصدر تهديد لحكومته ومشروعيته المتشظيّة. الأخطر من ذلك كله يكمن في تمدّد «داعش» في مشيخات الخليج، بما يهدد أمن المنطقة برمتها. فالأهداف التي ترجوها الرياض تحقّق عكسها تماماً، وإن حربها على «داعش» تنفعه ولا تضرّه. في واقع الأمر، أن كل المعارك التي تورّطت فيها الرياض بدعوى الدفاع عن «أهل السنة» انتهت لصالح داعش سواء في العراق، أو سوريا أو اليمن.
تحضيرات «رعد الشمال» تتجاوز سوريا، ولا تستثنيها إن نجحت التجربة في العراق، حيث الاستعدادات تجرى بوتيرة متسارعة لمعركة تقسيم العراق الى ثلاثة أقاليم: الاقليم السنّي في الوسط، والاقليم الكردي في الشمال والاقليم الشيعي في الجنوب.
المعطيات المتوافرة تؤكّد ذلك:
ـ دعوة رئيس كردستان مسعود برزاني الى اجراء استفتاء على استقلال الإقليم.
ـ افتتاح ممثلية سنيّة في واشنطن.
ـ زيارة عرّاب مشروع تقسيم العراق، نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الى أنقرة في 21 كانون الثاني الماضي ولقاؤه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. كان من بين الموضوعات التي تمّت مناقشتها: وجود قوات تركية في شمال العراق، ومحاربة «داعش».
ـ حشود عسكرية بقيادة السعودية على الحدود الشمالية مع العراق، ورد الأخير بحشود مقابلة لـ«مراقبة التدريبات العسكرية على حدوده»، بحسب عدنان الأسدي، النائب عن ائتلاف دولة القانون.
ـ وجود عسكري تركي ـ أميركي في الشمال العراقي وفي محيط محافظة الموصل، في مقابل غياب ما يدل على تحضيرات لتدخّل برّي في سوريا من الجهة التركية، باستثناء القصف المدفعي ضد مواقع كرديّة بما لا يشكّل دليلاً على عملية بريّة واسعة النطاق.
في النتائج، كل المؤشّرات تفيد بأن السعودية تقود بالتنسيق مع واشنطن وأنقرة مشروع تقسيم العراق، تحت مظلة التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.
زيارة محمد بن سلمان وزير الدفاع الى بروكسيل لحضور اجتماع حلف الناتو، والمقترح الذي تقدّم به لقيادة الحلف هو تجديد لعرض سابق بتمويل الحرب.
يمثّل عنوان «الحرب على داعش» المخرج الأمثل لإدارة أوباما، بما يبقيه ملتزماً بتعهده بعدم الانخراط في حروب خارجية، ما لم تكن حرباً على الارهاب. وفي كل الاحوال، فإن واشنطن تتطلع من كل التحرّكات السعودية لتحقيق هدفين:
ـ تأمين الدولة العبرية من خلال تشكيل تحالف تقوده السعودية محمولاً على العنوان المذهبي (سني ضد شيعي).
ـ استنزاف كل الأطراف في المنطقة الاصدقاء والأعداء بما يبقيها ضابط الايقاع الوحيد في المنطقة.
وبالنسبة للتركي فإن انخراطه في الحرب يبعث أحلاماً راقدة في الذاكرة التاريخية العثمانية باستعادة المنطقة الواصلة من لواء الاسكندرون مروراً بحلب وصولاً الى الموصل.
بالنسبة للسعودية فإن هدفها في الحروب يتلخّص في: تقويض النفوذ الايراني في المنطقة. ومن المفارقات اللافتة أن شيطنة إيران يفتح مآلاً باب تطبيع العلاقة مع اسرائيل. في النتائج، السعودية تريد من الدول المتحالفة معها أمرين:
ـ الدخول في معسكر مناهضة النفوذ الايراني.
ـ تطبيع العلاقة مع اسرائيل.
استأنفت أنقرة مؤخراً مباحثات تطبيع العلاقات مع اسرائيل على قاعدة تخفيف شروط الأخيرة بالنسبة لعلاقة تركيا مع حماس، على أمل احتواء الأخيرة.
السودان، المحسوب ذات زمن على معسكر الممانعة والمتماهية حالياً مع النظام السعودي، أبدى استعداده للدخول في علاقة مع اسرائيل. وفي مؤتمر الحوار الوطني في الخرطوم في تشرين الأول الماضي دار جدل كثيف بشأن تطبيع العلاقات بين السودان والكيان الاسرائيلي بعد أن تقدم حزب المستقلين بتطبيع العلاقة مع اسرائيل، لكونه مدخلاً مناسباً الى الادارة الاميركية التي تفرض عقوبات اقتصادية على السودان.
وزير الخارجية السوداني ابراهيم غندور ذكر في تصريح له في تشرين الأول/ اكتوبر الماضي أن بلاده لا تمانع دراسة إمكانية التطبيع مع اسرائيل. مستشار الرئيس عمر البشير مصطفى عثمان أيضاً كشف بحسب وثائق ويكيليكس عن أن حكومة بلاده تقترح على الولايات المتحدة أوجهاً للتعاون تتضمن تطبيع العلاقات مع اسرائيل.
من اللافت، أن تركيا والسودان، المحسوبين على جماعة الاخوان المسلمين، هما الأكثر استعداداً للتطبيع مع الكيان الاسرائيلي. لا غرابة في الأمر، فالسعودية تعمل على تكتيل الجماعات السنيّة، وخصوصاً الاخوان المسلمين، في حربها الكبرى والمصيرية.
لا يكف قادة الكيان الاسرائيلي (نتنياهو، يعلون، داغان) عن التصريح بالعلاقات الحيوية مع السعودية ودول الخليج. نتنياهو عدّ السعودية حليفاً، فيما تحدّث يعلون عن قنوات فاعلة بين تل أبيب ودول الخليج. لم يصدر من الرياض أو أي عاصمة خليجية أخرى ما ينفي ذلك.
خلاصة التحرّكات السعودية تتمحور حول تعميم الفوضى، على الأقل في المجال الحيوي الإيراني ـ السوري ـ العراقي. ولن تتردد الرياض في استخدام أقصى ما تملك من إمكانيات وخيارات في مجابهة إيران، وإن أغرقت المنطقة بكاملها في أتون الارهاب والفوضى... والدماء.