ذكر الإعلام هنا أن وزارة الخارجيّة الأميركيّة حضّرت سفاراتها في منطقة الشرق الأوسط لأعمال «شغب» واحتجاجات بعد نشر (بعض من) تقرير الكونغرس عن قيام وكالة الاستخبارات المركزيّة بعمليّات تعذيب حول العالم (كما حذّرت الوزارة من ذلك في لقاء مع أعضاء في مجلس الشيوخ في محاولة أخيرة لمنع نشر تقرير التعذيب). قد تكون وزارة الخارجيّة قد بالغت في مخاوفها. لم تحدث اعمال شغب أو احتجاجات، ولم يتجمّع صبية أمام أي من سفارات أميركا في عواصم العالم العربي. الشعب في كينيا ثار قبل أيّام لأن الحكومة (بطلب أميركي) مرّرت قانوناً جديداً لمكافحة الإرهاب (عبر قمع الحريّات كالعادة) فيما مرّرت حكومات العالم العربي قوانين أكثر صرامة قبل سنوات (وبطلب لا يُردّ من أميركا). العالم العربي بقي صامتاً متفرّجاً أو غير مكترث.

لم يجرؤ رئيس عربي واحد إلى إصدار إدانة للتقرير الأميركي مع ان ضحايا التعذيب هم كلّهم من مواطني البلدان العربيّة والإسلاميّة. المُرشد الأعلى في إيران وأشرف غاني (وهو يزيد في طاعته للمُحتلّ الأميركي عن سلفه، حميد قرضاي) وحدهما أصدرا إدانة لحقائق التعذيب الأميركي وخروقات حقوق الإنسان والسيادة. كيف يجرؤ زعماء العرب على إصدار إدانة قاموا هم بمثلها إما بالنيابة عن أميركا أو بالنيابة عن أنظمتهم. كما ان الزعماء العرب (بما فيهم بشّار الأسد) لا يريدون ان يستفيضوا في الحديث عن تقرير يتضمّن الكثير عن تعاونهم من تعذيب الوكالة نفسها. لكن سلام الزعتري، مقدّم البرنامج الكوميدي «شي إن أن»، وجد مادّة كوميديّة في التعذيب الأميركي وخفّف من هول التعذيب. وأضاف انه يلاعب ابنته بطريقة التعذيب الأميركي التي لا تصل إلى مستوى تعذيب المخابرات السوريّة في لبنان (طبعاً، من الطريف انه لم يسمّ إلا التعذيب من قبل المخابرات السوريّة في العالم العربي، ربّما لأنه يظنّ ان ليس من نظام عربي يلجأ إلى التعذيب إلا النظام السوري وحده). المفارقة ان الزعتري نفسه تعرّض للسجن في أميركا يوم 11 أيلول (من جملة المئات من الأبرياء العرب والمسلمين الذين تعرّضوا للاعتقال العشوائي). ربما لا يعلم الزعتري وغيره ان كل وسائل التعذيب المُمَارسة من قبل المخابرات العربيّة مورست من قبل المخابرات الأميركيّة، وأن وحشيّة المخابرات الأميركيّة أو البريطانيّة ترتقي (أو تنحدر) إلى مستوى المخابرات العربيّة. والتقارير الإعلاميّة ركّزت على وسيلة «الإغراق» (التي تُسبّب بالموت في أكثر من حالة) وتجاهلت وسائل تعذيب أخرى من نوع «الإطعام الشرجي» (الذي لم تقم به حتى مخابرات البعث والأردن والسعوديّة) والضرب والإهانة والتهديد بالمسدّس الروسي وخطف الأقارب والمنع من النوم والتقييد على مدى أيّام في أوضاع مؤلمة (وجدت لجنة تحقيق سجيناً ميتاً ولم يلاحظه أحد في واحد من السجون السريّة التي رعتها الوكالة حول العالم).
افتتحت الحكومة الأميركيّة بعد 11 أيلول مكتباً خاصّاً بالدعاية للعالم العربي في دبي

(قد يقول قائل أو قائلة ان الدليل المُستقى من برنامج كوميدي لا يُعوَّل عليه لأن الحديث كان نكاتاً، لكن النكات أمر جدّي، وقد كتب فرويد كتاباً عن علاقة النكات بالعقل الباطني).
لم يبدر استفظاع للتقرير في العالم العربي، كما كتب الرفيق عامر محسن. قد يكون الشعب العربي مشغول (أو معذور في انشغاله) هذه الأيّام. لم تسمح له مشاغله بملاحظة خطورة ما نُشر عن التعذيب الوحشي. قد يقول واحد (أو واحدة) ان العالم كلّه مُطالب بالردّ، وهذا صحيح. لكن التقرير يعني العرب والمسلمين أكثر من غيرهم، لأن كل ضحايا تعذيب ووحشيّة المخابرات والعسكريّة الأميركيّة كانوا من العرب والمسلمين. لكن برنامج اختيار الـ»آراب أيدول» كان في أوجه، والأمّة تعرف كيف تقيس أهميّة القضايا، خصوصاً ان المسلسلات الرمضانيّة غابت عن الشاشّة وزادت الرغبة الشعبيّة في التسالي والمنوّعات (لم يكن عالم الاجتماع، سي رايت ملز يمزح عندما قال إن «النخبة الحاكمة» في أميركا تعتمد في هيمنتها التسلطيّة على عناصر ثلاثة: الثناء على الجماهير، الخداع، والتسالي. وإعلام النفط والغاز يعتمد على العنصريْن الأخيريْن فقط، فيما يغدق الثناء على الدين الحنيف وكأنه هو الذي نصّب الطغاة في عروشهم). لكن إلقاء اللوم على الحكّام من دون الشعوب لم يعد يجدي خصوصاً في زمن أوصلت به بعض الجماهير (بيساريّيها وناصريّيها - أو بعضهم - في حالة مصر) طاغيةً إلى السلطة، ووصل إلى السلطة في تونس رئيس تسعيني كان يعمل في حقل الشرطة السريّة القمعيّة في عهد بورقيبة. وهل يخلط الشباب العربي اليوم بين النشاط السياسي الدؤوب على مواقع التواصل الاجتماعي (وهو لا يهدم جداراً ولا يقصي حاكماً ولا يصيب أياً من جنود الاحتلال بخدوش) وبين النشاط السياسي الحقيقي الذي أنهى وإلى الأبد عائلات حاكمة مالكة في مصر والعراق؟
أم أن هناك عاملاً آخر للتجاهل العربي لفضيحة التعذيب! هناك من يتعامل مع التعذيب والتنكيل الذي يصيب عرباً ومسلمين على يد قوّات أميركية على أنه لا يعنيهم، أو على أن ضحاياه هم من الإسلاميّين الذين لا يستحقّون شفقة أو تعاطفاً. هذا ما حدث في مصر بعد انقلاب السيسي الذي اعتقل في سنة واحدة نحو 10000 رجل وامرأة (ونال، استحقاقاً، على 10 طائرات أباتشي أميركيّة كمكافأة على أفعاله). لكن حسابات الشماتة بين الخصوم ليست جديدة في العالم: عندما كان شيوعيّون يتعرّضون للقتل والتنكيل على يد أخطبوط القمع الأميركي العالمي في سنوات الحرب الباردة لم يكن هناك إسلامي واحد يتعاطف معهم، لا بل كانوا يومها في صف الإمبرياليّة الإميركيّة التي أوعزت إلى وكلائها في المنطقة (من السادات والملك حسين إلى العدوّ الإسرائيلي) كي يتعاملوا برفق وحنان شديديْن مع المعارضين الإسلاميّين. هذا تاريخ، لننتقل إلى الحاضر.
لم تكن الإدارة الأميركيّة في وارد نشر تحقيق نقد ذاتي على الطريقة اللينينيّة: هناك مراسل عربي في واشنطن كتب في جريدة لبنانيّة ان أميركا تستحق التقدير (على تعذيبها؟) لأنها تصحّح مساراتها وتشطّ في خرق حقوق الإنسان فقط في سنوات الحرب. لكن أميركا لا تحيد عن تاريخ طويل من خروق الإنسان داخل أميركا وخارجها، كما أن القول إن اميركا تعتمد الوحشيّة في الحروب لا يفيد في قياس الديمقراطيّة، حتى بمعيار الرئيس تيودور روزفلت الذي قال ما معناه إن الديمقراطيّة الحقّة تُقاس في زمن الحرب وليس في زمن السلم، لأن قبول المعارضة في زمن الحرب هو الأصعب. لكن إعلام النفط والغاز له هموم أخرى تتصدّرها محاولة خدمة الدعاية الأميركيّة حول العالم، وبشتّى الطرق والوسائل. ولهذا، افتتحت الحكومة الأميركيّة بعد 11 أيلول مكتباً خاصّاً بالدعاية (للعالم العربي) في دبيّ، وذلك من أجل الإشراف على توجّهات الإعلام العربي وإزالة ما يعلق به من إزعاج للحكومتيْن الأميركيّة والإسرائيليّة (كانت الحكومة الأميركيّة ترسل - ولا تزال على الأرجح -لمدير عام «الجزيرة» تقريراً أسبوعيّاً يتضمّن نقداً لتغطية المحطة لما يضرّ بالمصالح الأميركيّة، وما لبثت ان ضمّنت التقرير نقداً لتغطية المحطّة لتغطية عدوان إسرائيل أيضاً، كما أخبرني وضّاح خنفر بذلك عام 2010).
جريدة «المستقبل» مع غيرها من الصحف العربيّة لم تجرؤ حتى على استعمال كلمة تعذيب بل جارت مفردات مترجمة من خطاب عالم ديك تشيني في وصفها للتعذيب الوحشي بـ «وسائل الاستجواب القاسية». الاستجواب شيء والتعذيب شيء آخر. ثم ان الاستجواب مهما كان قاسياً لا يودي بحياة البشر فيما أودى تعذيب أميركا بحياة عدد غير من المعروف من الناس. كان واضحاً ان الإعلام العربي لم يرد أن يحرج الراعي الأميركي أو نفسه. هناك شركاء في عمليّات التعذيب الأميركيّة، وشارك فيها أكثر من 54 دولة في العالم. السؤال ليس حول ما إذا كانت هناك دول عربيّة قد شاركت في العمليّات الوحشيّة بل إذا ما كان هناك دول عربيّة لم تشارك. نعلم أن سوريا (المُمانعة) شاركت عبر السنوات في التنسيق مع الاستخبارات الأميركيّة في تقصّي وتعذيب معارضين إسلاميّين (وكانت هي قد امتعضت من توقّف هذا التنسيق مع أميركا بعد 11 أيلول، كما ورد في مقالة في «نيويوركر» بعد تدهور العلاقات السوريّة-الأميركيّة في عهد بوش). وكل دول الخليج تضمّ قواعد عسكريّة واستخباراتيّة أميركيّة، وهي تسمح لأميركا باستعمال أراضيها من دون مشورتها الشكليّة. (ليس صدفة ان معظم خلفيّة الجيل الجديد من حكّام الخليج هي أمنيّة عسكريّة - لكن لا تغشّكم وتغشّكنّ شهادات كليّة «ساندهرست» البريطانيّة، إذ ان هؤلاء لا يخضعون لمسار التعليم والتدريب التقليدي بل تُعدّ لهم، مقابل ملايين من الدولارات، دورات خاصّة مُسهّلة ومُبسّطة كي لا يعاني هؤلاء في الغربة القصيرة).
لكن دولة الأردن حالة خاصّة: هذه الدولة التي أُنشأت ليس فقط كجائزة ترضية للهاشميّين مكافأة لهم على ولائهم وارتهانهم، بل أيضاً كرديف للكيان الصهيوني الغاصب وكقاعدة عسكريّة استخباراتيّة متقدّمة، هي شريكة في كل جرائم الحرب الأميركيّة (والإسرائيليّة) في الشرق الأوسط. ليس هناك من منطقة تقوم فيها القوّات الأميركيّة بعمليّات احتلال (ومكافحة «الإرهاب» - بالتعريف الإسرائيلي ـ الأميركي) إلا ووجدت قوّات أردنيّة حليفة معها، تقاتل معها وتموت بالنيابة عنها، وتعذّب لعيون الراعي الأميركي. الجيش، الذي لم يشارك في معركة مع العدوّ الإسرائيلي منذ عام 1948 إلا وأفشل وساعد المجهود الحربي الإسرائيلي، يتمنّع عن مناصرة شعب فلسطين على حدوده (وضمنها) يرسل قوّات إلى أفغانستان لمناصرة جيش الاحتلال الأميركي. هذا الجيش ينفي نفياً قاطعاً وجود قوّات أميركيّة على أراضيه كما ينفي تدريبه لعصابات سوريّة معارضة (موالية لآل سعود)، ويتطوّع بخدمة أميركا من دون أن تطلب منه ذلك أحياناً، كلّ ذلك والمعارضة الملكيّة المتعدّدة الأشكال والألوان تهتف بحياة الملك المفدّى. خذوا (وخذن) قصّة الشاب اليمني العدني، محمّد بشميلة.
محمّد بشميلة واحد من 26 سجيناً - على الأقلّ - اعتقلَ وعُذّب ظلماً (وخطأً) باعتراف التقرير الأميركي الرسمي عن التعذيب. لقد روت «منظمة العفو الدوليّة» مأساة هذا الرجل الذي لم تحرّك حكومته ساكناً لمحاسبة أميركا على ما فعلته به (قد يكون الرئيس اليمني اليوم من أكثر الرؤساء العرب طاعة للحكومة الأميركيّة في منطقة لا يعرف قادتها إلا طاعة عمياء لأميركا). كان بشميلة يتعاطى التجارة والاستيراد والتصدير في أندونيسيا وزار عمّان ذات مرّة عام 2003 كي يلتقي بأمّه ويعطيها مالاً لإجراء عمليّة في القلب. رأت سلطة المخابرات في الأردن إشارة على جواز سفره تدلّ على زيارته أفغانستان فاعتقلته على الفور. وباشرت الحكومة الأردنيّة (التي وصفتها مسؤولة الشرق الأوسط في منظمّة «هيومان ريتس ووتش» هذا الأسبوع بالحكومة «التقدميّة» على إثر تطبيق حكم الإعدام الجماعي بـ11 شخصاً مرّة واحدة) بتعذيبه بإتقان ووحشيّة تُعرف عن المخابرات الأردنيّة. علّقته بالمقلوب وأمعنت به ضرباً وتعذيباً وتنكيلاً (هكذا كان النظام الأردني يفعل بالمناضلين المقاومين على مرّ تاريخه: علّقوا ثوّار من طينة أبو داوود بالمقلوب كالفراريج لتسهيل تعذيبهم). لم تكتفِ الحكومة الأردنيّة (عندما كان جمال عبد الناصر يشير إلى «النظام الأردني العميل» كان يعني العبارة حرفيّاً، وليس مجازيّاً كما في الخطاب العبثي) بتعذيب الرجل البريء بل قدّمته هديّة إلى المخابرات الأميركيّة لتفعل به ما تشاء، وتمعن فيه تعذيباً - ولم تعترض الحكومة اليمنيّة بكلمة.
والإيغال في التعذيب والتمثيل كممارسة في مؤسّسة رسميّة لا يؤدّي إلا إلى جذب ذوي النفوس المريضة والمجرمة كما أنه يفسد من لم يكن من ذوي النفوس المريضة. يُفاجأ المرء (أو لا يُفاجأ) أن عدد الذين تركوا عملهم جراء هذه الوحشيّة كان قليلاً جداً. ما جاء في التقرير أن عدداً من عملاء الوكالة غادروا الغرفة أثناء التعذيب، أو ان بعضهم امتعض، لكن لم تكن هناك حركة اعتراضيّة جماعيّة. هل كان عذر تنفيذ الأوامر ممنوعاً على أعضاء الجيش النازي ومسموح على من يقوم بجرائم حرب من قوى «التحالف الحرّ»؟ يروي بشميلة في تقرير مفصّل لـ «منظمّة العفو الدوليّة» (راجع «الولايات المتحدة: تحت الرادار: رحلات سريّة نحو التعذيب والاختفاء» - ويبرز في التقرير الدور الأساس للنظام الأردني الذي يرد في جدول الرحلات السريّة لنقل متحجزي الحكومة الأميركيّة غير المُسجّلين من أجل تعذيبهم في بلدان صديقة) عن معاناته فيقول: «تفقد معظم حواسك لكن تحتفظ بالقدرة الضئيلة على الشعور، وفي الرحلة هذه شعرت بوجود عدد من الأجساد (على الطائرة) تتراوح ذهاباً وإياباً...». حتى «نيويورك تايمز» روت - متأخّرة جدّاً - قصّة بشميلة التي التي لم تجرؤ صحيفة عربيّة واحدة على رواية قصّته. وبعد محطة التعذيب الأردنيّة، وجد بشميلة، بحسب ما روى لمجلّة «سالون» الأميركيّة أن المعاناة النفسيّة التي صاحبت سجنه انفراديّاً في أفغانستان لمدّة 19 شهراً فاقت في عذابها عذاب التعذيب الأردني (لا يمكن ان نتوقّع لا من الصحافة الأردنيّة ولا من المعارضة الأردنيّة رفع قضيّة الرجل البريء، لكنه لو كان رجلاً أبيض لكان قبض تعويضاً بالملايين من الحكومة الأردنيّة). وعندما أدركت الحكومة الأميركيّة انها تعتقل وتعذّب رجلاً بريئاً، لم تكترث. اكتفت بإبعاده إلى اليمن وطلبت من الحكومة المطيعة هناك ان تحتفظ به في السجن (وتعذّبه من جديد).
هناك من أثنى على الحكومة الأميركيّة لنشرها التقرير. ومن مهازل تعاطي منظمة الأمم المتحدة الخاضعة للمشيئة الأميركيّة الظالمة، ان الأمير زيد بن رعد الحسين الأردني (أي ممثّل سلالة التعذيب الوحشي في الأردن) اختير (من قبل أميركا وإسرائيل طبعاً) كي يكون مفوّض حقوق الإنسان في الأمم المتحدة. وكيف كانت ردّة فعل الأمير هذا على الفضيحة؟ أثنى على الحكومة الأميركيّة لنشرها التقرير، كما أنه دشّن وظيفته الجديدة عبر إلقاء خطاب تدشيني له في حضرة الذراع البحثي للوبي الصهيوني في واشنطن. لا، لم تنشر الحكومة الأميركيّة هذا التقرير طوعاً أو قسراً. لقد كافحت الحكومة الأميركيّة في السرّ وفي العلن كي تمنع نشر هذا التقرير. إن عضو مجلس الشيوخ، السيناتورة دايان فاينشتاين من كاليفورنيا (وهي يمينيّة مؤيّدة للحروب الأميركيّة والإسرائيليّة من دون تحفّظ، ما يعطيها صفة «الصدقيّة» هنا)، نشرت التقرير لأسباب ليست أخلاقيّة محضة. هي تنتمي إلى الحزب الديمقراطي والتقرير يتعلّق بالتعذيب الذي جرى بعد 11 أيلول في إدارة بوش الجمهوريّة. هي لم تنتقد إدارة أوباما: إدارة أوباما أوقفت، على ما يُقال لنا، التعذيب (لكن صدقيّة الحكومة الأميركيّة لا تختلف عن صدقيّة الحكومة الإسرائيليّة المعروفة بعدم قدرتها على قول الصدق في أي موضوع، حتى في نِسب أرقام مستويات الفقر في دولة الكيان الغاصب) لكنها رفضت بشدّة، بعد مداولات شاركت فيها وزارة العدل، محاكمة أي من الذين شاركوا في التعذيب (هناك رجل وحيد عوقب بالسجن في قضيّة التعذيب في إدارة أوباما، وهو جون كيرياكو، عميل سابق للاستخبارات الأميركيّة حوكم وجُرّم لأنه سرّب إلى الإعلام تفاصيل عن ممارسات وحشيّة من قبل عملاء في الوكالة).
أذكر أن سيمور هيرش قال لي عام 2004 بعد وقت قصير من كشفه فضائح سجن أبو غريب إن ما نشره هو نقطة في بحر، وأن هناك الكثير من الممارسات التي سنعلم عنها قريباً أو بعد سنوات. وما نُشر في التقرير هو نذر يسير من المعلومات. وما يجهل كثيرون ان التقرير منقوص لأنه لم يجر بناء على تحقيق مهني تخصّصي، بل هو مبني على ملخّص لتحقيق أجرته الوكالة نفسها (في عهد المدير ليون بانيتا) بنفسها عن نفسها، وبناء على تقاريرها هي. أي ان لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ تتحمّل مسؤوليّة في عدم القيام بمهماتها الدستوريّة في ما يُسمى دستوريّاً بـ «الإشراف الدستوري المُراقِب»: هي تركت الوكالة التي تُشرف هي على عملها تقوم بما تريد من دون طرح أسئلة او طلب تقارير مفصّلة. ومبادرة فاينشتاين لم تلق ترحيباً من قبل حزبها: سيناتور ديمقراطي واحد، مارك يودال، تجرّأ على المجاهرة بالمطالبة بتحقيق ومحاسبة - ربّما لأنه لن يعود إلى مجلس الشيوخ بسبب خسارته للانتخابات في ولاية كولورادو. وحتى السيناتور الجسور نسبيّاً رفض مطالب اليسار الأميركي بنشر كل صفحات التقرير السرّي (نشرت لجنة مجلس الشيوخ 480 صفحة خاضعة لرقابة و»تحرير» وحذف صارم من أصل أكثر من 6000 صفحة لا تزال سرّ الأسرار في العاصمة الأميركيّة.)
أرست الحكومة الأميركيّة بعد الحرب العالميّة دعائم إمبراطوريّة عالميّة مُتسلّطة. إن فضائح «ويكيليكس»، وخصوصاً فضيحة تسريبات إدوار سنودن الشجاع، تثبت بالقاطع ان رغبة الحكومة الأميركيّة في خرق خصوصيّة المواطنين والمواطنات حول العالم يفوق بأشواط ما إرتكبه جهاز «شتازي» في ألمانيا الشرقيّة. إن حجم التجسّس الأميركي العالمي والظلم العسكري الأميركي والاستخباراتي العالمي لم يسبق لدولة أو إمبراطوريّة في التاريخ البشري ان قامت به. لكن أميركا، خلافاً للاتحاد السوفياتي، عرفت كيف تسوّق وتروّج لقمعها الداخلي والعالمي بعناوين برّاقة مختلفة. هي تقيم دولة أمنيّة في داخل اميركا حيث تحتفظ بأكبر عدد من المساجين (بين الدول) في العالم قاطبة، كما ان تخصيص السجون (لشركات متقاعدة) زاد من خرق حقوق المساجين هنا (هذا ما أسمته أنجيلا ديفيس بـ «مجمّع السجن الصناعي»). ليس هناك من حدود ومن ضوابط لا تريد الحكومة الأميركيّة ان تخترقها (وهذا بدأ قبل 11 أيلول).
صحيح أن حياة المساجين العرب والمسلمين رخيصة جدّاً في بلدانهم، لكن أرخص بكثير في سجون الاعتقال الأميركي السريّة. لكن حالة الصمت والاستكانة العربيّة (على المستوى الشعبي) ستزيد من قدرة الحكومة الأميركيّة على الاستهانة بحياتهم. وإذا كانت إدارة بوش قد أتقنت فن التعذيب الوحشي، فإن إدارة أوباما أتقنت وتتقن فنّ القتل من طائرات من دون طيّار - ومن دون محاكمة.
* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)