قبل الأزمة، كنا نخشى على مستقبل أطفالنا لأسباب تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والسياسية. أما الآن فإن الرعب يُصيبنا بالذهول مما سيحمله أطفالنا إلى مستقبل تشير الدلائل كافة إلى إنه سيكون مرعباً. فأطفالنا لم يعودوا فقط ضحايا، لكنّ قسماً كبيراً منهم يجرى تحويله إلى أدوات قتل وتدمير وتشويه. فالواقع اليومي الذي يعج بمظاهر القتل والدمار والمعاناة، إضافة إلى خضوع الأطفال لغسيل أدمغتهم البيضاء، كذلك خروج آلاف المدارس عن الخدمة نتيجة الدمار وتحويل بعضها إلى مراكز لإيواء النازحين، يجبر الطلاب على ترك التعليم. وهذا بحد ذاته، إضافة إلى العوامل السابقة، يجعل من هؤلاء الأطفال مصدراً للتخلف والتطرف والجهل.
من المعلوم أن تطور المجتمعات ومستقبلها، يرتبط بمستوى وعي شبابه وقدرة الدولة على تأهيل الأطفال وتدريبهم وتحضيرهم بشكل يتناسب مع متطلبات العصر. وهذا يعني أن الأزمة التي ساهمت في تحويل شباب سوريا وأطفالها إلى وقود لصراع مجهول المآلات، ستنعكس تداعياته السلبية على مستقبل مكونات المجتمع، وسوف تُحدث خللاً في التوازن الاجتماعي. وهذا يدلل على أن المستقبل سيكون متنافياً ومتخارجاً مع ملامح التقدم الاجتماعي والتنمية البشرية. فالمستوى التربوي والثقافي والتعليمي، وكذلك السلامة العصبية والنفسية والجسدية، تُعتبر من العوامل المساهمة في تمكين النمو والارتقاء الاجتماعي وكذلك الاستقرار والتوازن. وهذا ينطبق بدرجة كبيرة على الأطفال دون الثامنة عشرة من عمرهم، كونهم يشكلون الحوامل العلمية والثقافية لنهوض المجتمع. وإذا دققنا في أوضاع هذه الشريحة، يمكننا القول إن المستقبل سيكون على درجة عالية من الخطورة. فالأزمة لم تترك آثارها الكارثية على الواقع العمراني والبنى التحتية فقط بل ساهمت في تدمير وتخريب الأطفال، وبشكل خاص البنية العصبية والنفسية والسلوكيّة. فالأطفال الذين يعايشون صراعاً يُعمّق أزمات وكوارث عصبية ونفسية وحتى عضوية ستكون له انعكاسات كارثية لا تتوقف على المرحلة الراهنة. لكنها تُشكل مقدمات لأزمة محمولة إلى المستقبل. المعايشة اليومية لمظاهر العنف جعلت شريحة واسعة من الأطفال يفكّرون أنها من القضايا الطبيعية والاعتيادية والمبرّرة. وهؤلاء يعانون من الإحباط ومن أزمات نفسية وعصبية ساهمت في تغيير آليات تفكيرهم، لدرجة بات فيها العنف يشكّل أحد تجليات تفكيرهم وممارساتهم اليومية. وهذا يعني أنهم يمكن أن يلجؤوا فعلياً إلى استخدام أحد أشكال العنف بحق الآخرين أو يحاولوا التماهي مع القاتل وتقليده، من دون أن يشعروا بأنهم يرتكبون أي خطأ. ومن الممكن ألا يشعروا بأية درجة من الإحساس بالألم والخوف والرعب الذي سيتركونه على ضحاياهم. هذا التحول في البنية الشخصية سوف يزداد مع استمرار الصراع، ويمكن أن تتحول تلك التشوهات إلى أحد مكونات بنيتهم الذهنية التي تحكم ممارساتهم السلوكية، وهذا يعني دخول المجتمع في أزمة بنيوية. فالصراع في هذا المستوى يساهم بشكل مباشر في تصنيع وإنتاج أطفال يحملون جينات العنف. وليس هذا فحسب، فالاختلالات النفسية والسلوكية سيكون لها بالغ الأثر على أوضاعهم الذاتية، وبشكل خاص على من يعيش في مناطق التوتر. في هذا المستوى ستنتقل تداعيات الأزمة على الأطفال من البعد الذاتي إلى الحقل الاجتماعي العام. أي لن تبقى تأثيرات وتجليات الأزمة محصورة في البعد الذاتي والداخلي للأطفال الذين يعانون من مظاهر الإحباط والتوتر والاختلالات النفسية والعصبية والسلوكية.
معدّلات التلقيح انخفضت من 99 % قبل الأزمة إلى 52 % عام 2012
وهذا يعني أن شريحة واسعة من الأطفال، وتحديداً تلك التي عايشت الصراع بشكل مباشر وطويل، ستحاول ممارسة العنف على الآخرين، أي أن تجليات تلك الاختلالات سوف تتضح بشكل تدريجي في سياق الحياة اليومية. وهذا يعني أن المستقبل سيكون محمولاً بشكل نسبي على حوامل اجتماعية مصابة بتشوهات واختلالات نفسية وعصبية وذهنية. أما في المستوى الجنسي، فإن التحرش الجنسي والتشغيل القسري للأطفال في الدعارة سيترك بصماته على وعيهم وسلوكهم. ومن المعلوم أن التلاعب في آليات تفكير ووعي الأطفال والتطاول عليهم جنسياً وانتهاك براءتهم والاعتداء على أكثر شؤونهم الذاتية حساسية وخصوصية، يُعتبر انتهاكاً فاضحاً لذوات الأطفال الداخلية ومشاعرهم وأحاسيسهم وكرامتهم. وهذه الاعتداءات إضافة إلى كونها جريمة بحق المجتمع والطفولة، فإنها تُشكل بالنسبة للمُعتدى عليه، تعدياً على كيانه الوجداني والشخصي بشكل كامل، وأزمة أخلاقية لا يمكن تجاوزها أو نسيانها. فالتحرش الجنسي أو الاعتداء المباشر على الأطفال يقود إلى تشوهات أخلاقية وأمراض نفسية وعصبية تستمر معهم طيلة حياتهم. ومن المرجح أن الانحرافات والتحولات والتشوهات الطارئة على حياتهم سينتقل تأثيرها إلى الآخرين، ويمكن أن يحاولوا أذيّتهم بالآليات ذاتها التي انتُهكت كرامتهم بها. وتجاوز هذه الحالات يستدعي اشتغال الجهات التربوية والصحية والنفسية والعصبية على وضع آليات علمية، وتحضير كوادر متخصصة، لمعالجة هذه الظواهر. كذلك فإن الجهات البحثية معنية بدراسة تداعيات الصراع وتجلياتها وآليات انعكاسها على الأطفال وطرق معالجتها وتجاوزها والتخفيف من انعكاساتها السلبية على الأطفال الذين تفتحت مداركهم في ظل أزمة إنسانية عامة وشاملة ومركّبة.
ومن اللافت أن بعض الوسائل الإعلامية تتجاوز في كثير من الأحيان الأخلاق والتقاليد والضوابط المهنية. وهذا يساهم في تضليل المتابع وتشويه وعيه، ويترك آثاراً مدمّرة على الأطفال، كونهم يتلقون الخبر والمشاهد الدموية من دون حصانة معرفية. إذ تقوم هذه المحطات بنشر مظاهر العنف وأدلجتها، وتبرير ما يتساوق منه مع توجهاتها السياسية.
وتتقاطع خطورة التلاعب الإعلامي والتوظيف المشوّه للمادة الإعلامية مع اشتغال زعماء الحرب ودعاة التّدين التكفيري، على تحويل الأطفال إلى أدوات في معاركهم القذرة. فيعملون على غسل أدمغة الأطفال وإعادة تأهيلهم وفق مقتضيات شريعتهم الجهادية التي تقوم على بث الرعب في قلوب الجميع، ذلك من خلال المبالغة في استخدام العنف ضد كل من يخالفهم الرأي والموقف. وهم في هذا السياق يشتغلون على إعادة تأهيل الأطفال من منظور منظومة تكفيرية تبيح لهم وتسهّل عليهم قتل الآخرين بأبشع الأشكال وتحت ذريعة الكفر والإلحاد. وهذا يدلل على أن الصراع الدموي المحمول على أبعاد تدميرية لمكونات المجتمع السوري، يتنافى بشكل صارخ مع المعايير الإنسانية وقيم المواطنة. وبالرغم من ذلك فإن أبعاده تتجاوز حدود تدمير المقومات الوطنية إلى تدمير الإنسان وإعادة تركيبه كشخص مهزوم ومشوه ومدمّر من الداخل.
ولا تقف معاناة الأطفال وأزماتهم عند هذه الحدود، فالأمين العام للأمم المتحدة أشار في تقرير إلى إن نسبة المتسربين من المدارس تجاوزت حدود 38 % من عدد الطلاب، وإن استمرار الحرب يهدّد مستقبل 5.5 ملايين طفل سوري، منهم 4.3 ملايين طفل داخل سوريا و1.2 مليون طفل لاجئ. فيما تشير مصادر أخرى إلى استشهاد وتهجير قرابة مليونيّ طفل، وبقاء نحو مليون طفل تحت الحصار. وجميعهم يفتقدون إلى الخدمات الإنسانية والصحية والطبية، ومحرومون من التعليم، فيما بلغ عدد المدارس المدمّرة بشكل كامل وجزئي أكثر من 4072 مدرسة. وجرى تحويل قرابة 1500 مدرسة إلى ملاجئ و150 إلى مستشفيات ميدانية، وساهم هذا في انخفاض عدد الدارسين بمعدل 60%. إضافة إلى إجبار الأطفال على المشاركة في القتال المباشر، بينما يتم تشغيل البعض منهم كمخبرين، أو حراساً، أو مهربين للأسلحة. كذلك يتم استخدامهم للمراسلات والدروع البشرية. وقد أشار الأمين العام للأمم المتحدة أيضاً إلى أن الأطفال الذين يجرى احتجازهم مع البالغين يعانون من التعذيب والاعتداءات الجنسية. ويتم أيضاً تحويل الأطفال إلى سلع في أسواق تجارة الأعضاء البشرية من قبل لصوص وتجّار ومجرمي الحروب. ويشير أطباء إلى ارتفاع عدد الأطفال المصابين بسوء التغذية، والالتهاب الرئوي والإسهال. فمعدّلات التلقيح، انخفضت وفق تقرير اليونيسيف من 99 % قبل الأزمة إلى 52 % عام 2012. كذلك ارتفعت عدد الإصابات بالليشمانيا من أقل من ثلاثة آلاف قبل الحرب إلى أكثر من مئة ألف.
وإذا دققنا في المعطيات السابقة، فإنها تدلل على أن المجتمع السوري سيعاني من ارتفاع نسبة الأمية ومعدلات الجهل والتخلف وتفشّي الأمراض. وهذا بداهة سوف يشكّل مناخاً مناسباً لتعميق وانتشار مظاهر التطرف الذي يعمل على تعزيزها زعماء الحرب والمتأسلمون. من هذا المنظور، يبدو واضحاً أن مستقبل سوريا سيعاني من كارثة وطنية عامة ومركّبة، تتجلى ملامحها في انتشار ثقافة العنف والتطرف والتحلل القيمي. ويزيد من تداعيات هذه التحولات تمزّق النسيج الاجتماعي وازدياد مظاهر والفقر والبطالة. وتساهم هذه التحولات في انحطاط القيم والمعايير الوطنية، وتنبئ بازدياد مظاهر الوعي العنفي المشوه الذي بدأ يتحوّل من قوة كامنة إلى قوة بالفعل، وسيكون لهذا التحوّل تداعيات خطيرة على الوحدة الوطنية ومستقبل التطور الاجتماعي، وتتعزز هذه الميول في ظل مؤشرات لا تنبئ باقتراب انتهاء الأزمة. فالوحدة الوطنية مهددة بالانهيار، وكذلك التماسك الاجتماعي والجغرافية السياسية وكيانية الدولة. كذلك فإن تعدد المناهج التعليمية واشتغال التنظيمات الجهادية وبعض الأقليات القومية على وضع مناهج تعليمية إسلامية متطرفة وجهوية وإثنية مغلقة، سيكون لهما بالغ الأثر في مستقبل سوريا الثقافي، وعلى تماسك مكوناتها المجتمعية. فاستنهاض الثقافات الإثنية والأقوامية والطوائف والعشائر، وتعميق لغة التمييز الطائفي والمذهبي والوعي الديني المتطرف في إطار المناهج الدراسية الجديدة، يمثّلان تهديداً بالغ الخطورة لتماسك الوعي الاجتماعي الذي استند تاريخياً إلى مبدأ التعايش والسلام الاجتماعي. وخطورة هذه التحولات على المرحلة المقبلة، تكمن في أن الشباب والأطفال يشكلون حواملها الاجتماعية الأساسية.
وإذا كان نزع السلاح بعد انتهاء الحرب فيه كثيراً من الصعوبة. فإن التخلص من ثقافة العنف والقتل، سيكون أصعب بكثير. تحديداً في ظل اشتغال العديد من أطراف الصراع على نشر ثقافة العنف، وتعميق حدة الشعور الطائفي والديني والعشائري والجهوي والعرقي. ومن المؤكد أن هذه المظاهر والتجليات ستكون خطورتها على المجتمع أعم وأعمق في حال انهيار الدولة.
من هذا المنطلق يُعتبر الحفاظ على وحدة سورية والسوريين واجب وطني. وهذا يحتاج لفهم وإدراك وطني يتجاوز الانغلاق على الذات الطائفية والعرق والعشيرة والتحزب الأعمى والعقل الأحادي. وباللحظة ذاتها يستوجب العمل على نبذ ثقافة ولغة العنف، والبدء في تمكين ثقافة المواطنة التي تحتاج بدورها إلى وعي وطني وديمقراطي يحافظ على كيانية الدولة من الانهيار.
* كاتب وباحث سوري