مع كلّ هزّة يُصاب بها النظام الأميركي في بنيته السياسية أو الأمنية أو الاجتماعية، يظهر دور الإعلام الأميركي السائد على حقيقته. دور سيّئ في معظم الأحيان يحابي السلطات ويطمس الحقائق. عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن حافل بأمثلة حول الارتباط الوثيق بين أجندة الإدارة والجيش مع سياسة تحرير معظم المؤسسات الإعلامية الأميركية. في الولايات المتحدة «إعلام نظام» أيضاً.
لعلّ تبرير حربي أفغانستان والعراق والتسويق لهما إعلامياً ثم الإخفاق بتغطية فظائعهما لخدمة مصالح إدارة بوش، هو العنوان المختصر لمرحلة سوداء في تاريخ الإعلام الأميركي الحديث، التي ما زالت ممتدة حتى اليوم.

لكن، إعلام النظام الأميركي ليس حربياً فقط، و«فوكس نيوز» (القناة الأكثر مشاهدة في الولايات المتحدة والناطقة باسم اليمين المحافظ) ليست الدليل الوحيد على إعلام ناطق بلسان السلطة السياسية. مؤسسات صخمة اخرى لطالما كرّست نفسها، من خلال تسويق جيّد، كـ«مدارس في الإعلام الموضوعي والمستقلّ» (مثل «ذي نيويورك تايمز»، «ذي واشنطن بوست»، «ذي وول ستريت جورنال»، «ذي تايم» وغيرها) أثبتت ـ ولا تزال ـ أنها منابر تحرّكها الإدارات السياسية المتعاقبة ووكالات الاستخبارات ودبلوماسيون، فضلا عن المموّلين.
في الولايات المتحدة «إعلام أجهزة» أيضاً، يُلَقَّن المعلومة ويؤمَر بالسكوت عن اخرى. والأمثلة على ذلك كثيرة، تكررت في السنوات الخمس الماضية، عندما واجه الإعلام الأميركي والدولي استحقاقات مفصلية، كانت بمثابة امتحان للقيم والمعايير.
فعند تسريبات «ويكيليكس» (قبل البرقيات الدبلوماسية وبعدها) وقف الإعلام الأميركي السائد محتاراً، فغطّى بعضه «السكوب» المربح لكنه لم يسائل المرتكبين الذين عرّتهم الوثائق المنشورة، ولم يدافع عن حرية المسرّب برادلي مانينغ. عند تسريبات إدوارد سنودن، وفضائح تجسس «وكالة الأمن القومي» على الأميركيين، وغيرهم، لم يحوّل الإعلام الأمر الى قضية وطنية (كما يفعل عادة في الحشد الى الحروب) بل لامت بعض المنابر سنودن على كشفه الحقائق، واتهمته بـ «تهديد الأمن القومي».
أكّد لنا صحافي في «نيويورك تايمز» أنه سيكتب أن أساليبنا في التحقيق نجحت


اعتمدت «سي آي إي» على صحافيين مختارين في حملاتها البروباغندية

هكذا، يمكن أن تجد اليوم في الصحف الأميركية مقالات يومية عن «ارتكابات النظام الأمني» في كلّ من كوريا الشمالية وروسيا والصين، أكثر من أخبار ارتكابات «وكالة الأمن القومي» التجسسية بحق المواطنين الأميركيين داخل الولايات المتحدة!

تعاون موثّق مع «سي آي إي»

تواطؤ الإعلام الأميركي السائد مع السلطة تجلّى مجدداً في الأيام القليلة الماضية، عندما نشر الكونغرس تقريره عن وسائل التعذيب التي تتّبعها «وكالة الاستخبارات المركزية» (سي آي إي) في تحقيقاتها مع الموقوفين. ذلك التواطؤ برز على صعيدين: أولاً، ما يكشفه التقرير عن تحكّم «سي آي إي» في أخبار أبرز الصحف حول التعذيب منذ سنوات، والشقّ الثاني في كيفية تعاطي الإعلام السائد مع التقرير بعد نشره.
لم يتوقّف الإعلام السائد (طبعاً) عند ما ورد موثّقاً في التقرير حول التعاون بين «سي آي إي» والصحافة، لكن الصحافي غلين غرينوالد على موقع «ذي إنترسيبت» فعل.
فتقرير الكونغرس يحتوي على مقاطع تخبر صراحة كيف ساهم بعض الصحافيين مع مؤسساتهم في عمليات التعذيب تلك بطريقة غير مباشرة، من خلال التعتيم على حقيقتها والمساهمة في تبييض صورة وكالة الاستخبارات وتبرير أساليبها تلك.
تقرير الكونغرس ينقل عن ضابط في الوكالة الاستخبارية ما حرفيّته أن «سي آي إي» «قررت التعاون مجدداً مع الصحافي دوغلاس جيهل من صحيفة «نيويورك تايمز» (...) وبعد إطلاع الوكالة بالتفصيل على موضوع مقاله المقترح عن أساليب التحقيق المعززة مع أبي زبيدة، أكّد لنا الصحافي أنه سيكتب في مقاله أن تلك الأساليب نجحت في تحقيق مبتغاها وأن الوكالة حرصت على نيل موافقة البيت الأبيض ووزارة العدل لممارستها». الصحافي جيهل من «نيويورك تايمز» وعد الوكالة إذاً بتبييض صورتها مقابل معلومات عن أساليب تعذيب خلال التحقيقات مع أحد الموقوفين البارزين (!).
وفي مقطع آخر، يرد في التقرير، أن «مكتب العلاقات العامة في وكالة الاستخبارات وبعض المسؤولين الرفيعين في سي آي إي، نسّقوا فيما بينهم لتسريب بعض المعلومات السرية عن برنامج التوقيف والتحقيقات، واختيار بعض الإعلاميين لمواجهة الانتقادات وقولبة الرأي العام...». أي إن «سي آي إي» اعتمدت على بعض الصحافيين «المختارين» في حملاتها البروباغندية لتسويق برنامج التعذيب.
ويتابع التقرير نقلاً عن ضابط في «سي آي إي» أنه عندما «تستشهد «واشنطن بوست» و»نيويورك تايمز» بمسؤول استخباري رفيع، هذا يعني أنها تستشهد بنا نحن (ضباط الوكالة) بإدارة وموافقة مكتب العلاقات العامة لـ سي آي أي»، لكن تقرير الكونغرس يشير الى أن معظم المعلومات التي كانت تعطيها الوكالة للإعلام حول برنامج التوقيف والتحقيقات «غير دقيقة».

قبل نشر التقرير وبعده

إضافة الى ما يوثّقه تقرير الكونغرس الأخير، فإن رضوخ الإعلام الأميركي للسلطات بلغ ذروته من خلال موافقته، منذ سنوات، على عدم استخدام كلمة «تعذيب» torture في الأخبار والمقالات التي تتناول أساليب الوكالة في التحقيقات، واستبدالها بعبارة «أساليب التحقيقات المعزّزة» enhanced أو «القاسية» harsh. الصحافي غرينوالد أشار مراراً الى أن الإعلام السائد «رضخ لأوامر بوش في عدم استخدام عبارة تعذيب».
وفي عام ٢٠١٠ خرج مسؤول تحرير «نيويورك تايمز» بيل كيلير وشرح سبب عدم استخدام الصحيفة كلمة «تعذيب» بأنها «أرادت أن تبقى على الحياد في هذه القضية»، وأن «مسؤولين رفيعين في إدارة بوش أكّدوا أن الأساليب تلك لا تعدّ تعذيباً» (!).
وكالة أنباء «رويترز» العالمية، صحف مثل «نيويورك تايمز»، «واشنطن بوست» و«وول ستريت جورنال»، وقنوات كـ«فوكس نيوز» و«إن بي سي نيوز» وغيرها ما زالت، حتى اليوم، أي بعد الاطلاع على ما ورد في التقرير، لا تستخدم عبارة «أساليب التعذيب» عند الحديث عما ورد فيه حول «سي آي إي».
انطلاقاً من التفصيل الأخير، يمكن فهم الوقاحة التي اتسمت بها تغطية بعض الإعلام الأميركي لحدث نشر التقرير وما جاء فيه. ضيوف ومذيعون وخبراء وصحافيون انتشروا على مختلف المنابر (المرئية والمكتوبة) يدافعون عمّا فعلته «سي آي إي»، تحت شعار أن ما قامت به الوكالة هو «من أجل حمايتنا... ومن أجل ولايات متحدة أكثر أماناً».
«الولايات المتحدة رائعة... نحن رائعون... وسبب نشر التقرير هو أن الإدارة تريد أن تُظهر أننا لسنا رائعين»، قالت المحللة السياسية أندريا تنتاروس على الهواء تعليقاً على تقرير الكونغرس.