لزينب عشّاقها، وزينب ليست مرقداً يُزار على أطراف الشام، بل أيقونة صيغت بالدمع والوجدان فأضحت قبلة لعاشقين تعددت أهواؤهم، فلا عجب أن تشهد حول قداسة ضريحها شيعة إمامية وإسماعيلية وزيدية ونصارى وشعراء ولا أدريين وثواراً وناقمين ومنتفضين، كأنّما الرفض المطلق هو زينب، وكأنّما هي وجه الله الأقرب والأسمى والأرحم والأشدّ تجذراً في ألم الإنسان، أي إنسان. لقد تجاوزت العقيلة في ملحمة صهر تاريخي عقبة الإنتماء وحاجز التحجّر العقائدي لتكون ملهمة للغضب المقدّس في أنين وآهات المعذبين والمحتجين على ما في الأرض من مظالم.
في زيارة بطلة كربلاء كما عمّدتها الروايات التاريخية وأمعنت في إرسائها الأساطير الشعبية، تمتزج مشاعر عديدة، متناقضة، وغريبة في فرادتها. فالجموع التي تتمسّح بعتبة الضريح والتي تئنّ شوقاً إلى وجه لم تره ولم تعرفه، وتناجي إسما لا تنطق به الشفاه فحسب، بل يخرج من حواشي القلب ومن تلك الزوايا الكامنة الصامتة والغاضبة في عمق أعماق النفس البشرية، تُشعل في ذاك المعبد المزار شيئاً من حنين عرفه البشر جميعاً عبر كل حقب التاريخ، وهو الشوق لإسناد الرأس إلى حُجر دافىء ورمي أثقال العيش على أقدام المعشوق. شيء يُقال. لقد صنع الروافض، كلّ الروافض، أيقونتهم الجميلة وتمكنوا عبر عصور من صياغتها على مقاس الهواجس الإنسانية والمشاعر التي يتشارك فيها كل البشر، وهو نجاح يُكتب لهم. فلا يمكن للزائر مهما كان انتماؤه الديني أو العقائدي أن يشعر بغربته في المكان أو يلحظ هوية أو مذهبية في الوجد والعشق والهيام، بل يغرق في شاعرية ورومانسية تتخطى حدود أي هوية.
في زمن المرأة السبية والمرأة العورة والمرأة الناقصة، يصبح الإلتجاء إلى زينب فكراً نضالياً ومنهجاً مدنيّاً، فهي الثائرة، وهي المنادية، وهي القائدة، وهي قبل كل شيء بنت عليّ وعلى صورة عليّ بكمالها. فهي لم ترث النصف عن أبيها بل ورثته كلّه في محضر يزيد، وهذا في عمقه حضور رافضي أصيل في رفض منطق البداوة وشريعة البداوة في صياغة تصلح لأن يؤسس عليها في نقض أطروحة المرأة الذليلة الخاضعة الخانعة التي يريدها سفهاء الشريعة في زمن التخلّف العظيم. فلا غرابة مطلقا أن تلتقي في حضرة «الست» بعلمانيين وتنويريين وأصحاب حداثة، بل الغرابة أن لا تلتقي بهم هناك في زمن الكهوف الظلامية الممتدة على امتداد مساحة القهر. فهي زاوية ضوء في عتمة تاريخ حالك السواد ومن الصعوبة بمكان أن تتلمس فيه بعضاً من حريّة كالتي كانت عليها زينب.
أعداء البَطَلة ينقسمون بين فريقين كلاهما إبن العتمة، فمن يريد لها أن تكون على مقاس أطروحاته المذهبية الضيّقة، ومن يريد أن ينكرها وينسبها لحالة ظلامية، بل ويستعدي من يزور مقامها أو يتمسّح بأعتابها. لكنّ الحقيقة تبقى أن ذاك القبر بقي حيا عبر قرون وهو اليوم يشتدّ توقداً وحياة. إنّها معجزة القبر الذي يضجّ بالحياة، ما دامت ملايين الأفئدة تختلف في الهوى وفي كلّ شيء إلا أنّها تخفق كفراشات حول ذاك الجسد المسجّى في رهبة المكان.
السلام على من زارك وعلى من لم يزرك وعلى من سيأتي حاملا حباً وخبزاً وسلاماً إلى أيقونة الثائرين، فحبّ زينب كحبّ المسيح، طريق خلاص. والحبّ يشمل كل حيّ، فرحمته وسعت كلّ شيء.
أياد المقداد