لا يحتاج وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق إلى أن يكون أكثر من مجرد لبناني نموذجي حتى يزم شفتيه على وقع الحادثة الجلل. الرجل «الإفرنجي» أحضر معه عاملة المنزل الأثيوبية. هي نفسها تلك الخادمة التي يحرص العديد من مستخدميها اللبنانيين على أن يلقنوها درساً في الإخفاء حتى تقوم بخدمتهم من دون أن تجرح عالمهم بحقيقة وجودها. السيد البريطاني طوم فليتشر لم يكتفِ بذلك بل عمد إلى مساعدتها في غسل الأطباق وشارك متابعيه على «تويتر» بالصور. يومها، علّق على الأمر قائلاً بأن العاملة الأثيوبية شاركته في عمله الصباحي وهو سيشاركها في عملها بعد الظهر. يا للهول، إذاً بالنسبة للسيد فليتشر الدبلوماسية تماماً كغسل الأطباق، مجرد مهنة.

ماذا إذا عن محتويات شيفرة الـ DNA الخاصة باللبناني والتي تميّزه بشكل حاسم عن الأثيوبي، يتساءل اللبناني «العادي» ربما. فعل الرجل فعلته في بلد من الطبيعي أن ترفع مسابحه لافتات تنبه العاملات المنزلية من مغبة الدخول إلى حوض السباحة مثلاً، في بلد صار لزاماً على المشاة في مدنه أن يتفحصوا شرفات المباني المحاذية فمن يدري لعل عاملة منزلية قررت أن تضع حداً للقهر الممارس عليها وتقفز، الأمر يحدث بشكل متواتر هذه الأيام.
أن تكون دبلوماسياً غربياً في بلد متوسطي فتلك شبهة في المقام الأول، أما أن تكون سفيراً للدبلوماسية الإنكليزية فهذه تهمة مكتملة العناصر بالنسبة للكثيرين. هذه الدبلوماسية ورثت بجدارة مهارة مهندس الخريطة السياسية لأوروبا فون مترنيخ ولم تنسَ يوماً أن تخشع لآيات كتاب «الأمير» لميكافيلي. الأمر ينطوي بالتأكيد على نكء الجراح التي لم تندمل ذاكرتها بعد ونفض الغبار عن شخصيات كلورنس العرب التي حيكت حولها صنوف المؤمرة المجبولة بالخبث والدهاء.
رحّب العديدون على
ضفتي الانقسام السياسي بالكثير
من نشاطات السفير

سفير جلالة الملكة إذا بحاجة إلى أن يبذل جهوداً مضاعفة فقط ليحظى بقبول مساو لغيره من السفراء الغربيين. يمارس السفير طوم فليتشر، العاشق للعبة الكريكت، عمله بنشاط فوق العادة وبمرونة ملحوظة. وتسجل حركته المكوكية مثلاً زيارة إلى عكار لتفقد الاماكن التي طاولها «القصف» السوري وزيارة أخرى مفاجئة إلى مبنى السفارة الإيرانية عقب التفجير الذي تعرضت له، على السواء. ولا ينسى طوم أن ينهي نهاره بتبادل التغريدات على «تويتر» خاصة مع الوافد الجديد النائب وليد جنبلاط. هو يعلم تماماً أن السياسيين في لبنان «يستزلمون» عند السفراء وهو بالتحديد بحكم كونه سفيراً ليس بحاجة إلى قراءة محاضر ويكيليكس التي وثّقت للفضيحة، هي عادة سياسية قديمة في لبنان منذ زمن غراميات الإمارة اللبنانية في توسكانة. في المقابل، فإنه حين كتب رسالته لمناسبة عيد الاستقلال الماضي تحت عنوان «عزيزي لبنان» صرّح بأنه لا يجب على الساسة أن يستمعوا له أو لغيره من السفراء، بدا وكأنه الوحيد بين أقرانه الذي يصدق حقاً أن لبنان بلد مستقل!
بالنسبة لكثير من اللبنانيين إنه لأمر فائق الإحراج أن تكتب مقالاً عن سفير غربي لا يحتوي على كم معيّن من الغضب والتحدي. ويستطيع المرء أن ينزلق بسهولة نحو السذاجة حين يصدق تلك الواجهات الإنسانية التي تبتدعها السفارات لترمي «عظمة» أخلاق هنا وهناك لبعض جمعيات المجتمع المدني. فأنت لا تستطيع ان تبني سياستك باتجاه دولة معينة بناء على المساعدات التي تقدمها سفارتها لحماية السلاحف البحرية مثلاً (مع عميق تعاطفي مع هذه السلاحف اللطيفة). في المقابل، وفي مكان ما، رحّب العديدون على ضفتي الانقسام السياسي بالكثير من نشاطات السفير طوم فليتشر وباستطاعة أي متابع لوسائل التواصل الاجتماعي أن يلمس أن الرجل نجح بالفعل في صناعة معجبين ومتابعين ليسوا بالضرورة من المؤيدين للسياسة الإنكليزية. هذا الخرق الذي سجله السفير البريطاني وعجزت عنه مثلاً الـ USAID ذات الميزانية العملاقة يرده كثيرون إلى عفوية السيد فليتشر وشخصيته الديناميكية ومبادراته التي تشبهه من حيث أنها غير كلاسيكية على الإطلاق.
قد يحاجج البعض بأن السفير فليتشر ينسخ أساليب قديمة اعتاد «الرجل الأبيض» على ممارستها كتنويع ناعم على فجاجة السياسة ولا أخلاقيتها تعريفاً. حسناً، ربما. ولكن، ورغم ذلك، لا ضرر من أن يقول هؤلاء للسفير فليتشر بأنهم لن يطلبوا منه ما لا طاقة له به لناحية تغيير سياسة المملكة المتحدة التاريخية تجاه قضايا المنطقة ولا يجب أن يتوقع هو منهم في المقابل أن يؤيدوا سياساتها الحالية. فقط، ليحرص على اصطحاب العاملة الاثيوبية مجدداً في زياراته الدبلوماسية فمن يدري لعل شرفات المنازل اللبنانية تعود إلى تأدية وظيفتها كمكان لشرب فنجان قهوة صباحي بدلاً من وظيفتها المستجدة كمنصات للموت هرباً من القهر، ثم أنه لا بأس أن يزم سياسي لبناني شفتيه قليلاً.
* كاتب لبناني