الضربات الاسرائيلية ضدّ سوريا وجيشها ليست جديدة، بل هي تقليد ابتدأ في أواخر التسعينيات مع غارات ضد مواقع ورادارات للجيش السوري في لبنان، ثمّ انتقلت الاعتداءات الى داخل البلد بعد حرب العراق، عبر هجمات ضد أهداف حساسة في عمق سوريا، وصولاً الى الاستهداف المباشر والمتكرر منذ عام 2012، واحتدام الحرب التي أرهقت الجيش الوطني وخلخلت دفاعاته.اثر كلّ غارة، تصدح في جوار سوريا العربي، كالصدى، أصواتُ «تعيّر» النظام بقصف اسرائيل له وغياب الردّ، كأنما العدوان ليس حرباً على سوريا، بل على النظام، وكأن مدعاة الخجل هي في أن تضربك اسرائيل، وليس في أن تحالفك وتعاونك. في الاعلام المهيمن، يعفي هذا المنطق أصحابه «مغبة» التضامن مع جيش عربي تحاربه إسرائيل على أكثر من جبهة، أو مطالبة حكوماتهم بالردّ على العدوان، أو، أقله، انتهاز المناسبة للتفكّر في مكانهم ودور بلدانهم في الصراع مع الصهيونية والغرب.

والحال أن أيّ «موقف» خارج هذه الخيارات، مهما بدا متطرّفاً أو صادماً أو سلبياً، هو انشائيّ لا يقدّم ولا يؤخر (وفي هكذا مواضع، طقوس التضامن والتعاطف نفسها يمارسها الناس لأجلهم هم، ولتوكيد هويّتهم وقيمهم، وصوناً لصورتهم أمام أنفسهم - وليس لأن مشاعرهم ستنفع سوريا بشيء).
بدلاً عن ذلك، تُفتتح حفلة شماتة، بالمعنى الرخيص للكلمة، ويختزل العدوان الى مناسبة لتكرار للّوازم الساخرة الجاهزة عن نظام «الممانعة» الذي تضربه اسرائيل مراراً، ويكتفي بـ «حق الرد». السؤال المنطقي للعرب الذين تفتنهم هذه المفارقة هو: وماذا تريد – اذا ـــ بالضبط، وفي بلدك قبل سوريا؟ هل تطمح الى نظامٍ بديل يتعهد الردّ والمواجهة مع اسرائيل، ويعرف كيف يحشد عناصرها (ومن بينها ان يعيش الجميع حياة حرب واقتصاد حرب واعلام حرب)؟ ام انّك تريد نظاماً ترضى عنه اسرائيل، فلا تهدده ولا تضربه؟ أو أنّ الغاية هي في أن ينكّس النظام السوري خطاب المقاومة وشعارها، طالما انّه غير قادر على الانتصار، أو رد الضربة بضربة (وما هو البديل الأفضل حينئذ)؟
من يتشفّى
بالجيش السوري اليوم لن يقف الى جانبه ساعة المعركة


واذا ما أخذنا هذا الخطاب الى خلاصاته المنطقية، وسلّمنا بها، فقلنا إنّ الجيش السوري هو، بالفعل، أضعف من أن يواجه اسرائيل، ولا يسعه فتح حرب معها حتى في حال الاعتداء السافر، فالى اين يجب أن يقودنا هذا الاستنتاج؟ سوريا، في الحقيقة، قد خسرت سباق التكافؤ الحربي مع العدو بعد سقوط المنظومة الاشتراكية وقطع الدعم الخليجي، حتى تدنى انفاقها العسكري، عام 1996، الى عُشر مثيله الاسرائيلي، بعد أن كان قريبا منه في الثمانينيات. وصحيح أن أية حربِ بشروط اسرائيل، حتى قبل سنة 2011، كانت ستعني تدمير سوريا وبناها المدنية وجيشها من الجو؛ وستقف الشام وحيدة معزولة، فيما الدول العربية تؤازر العدوان وتغطّيه – ومن يتشفّى بالجيش السوري حين تغير عليه اسرائيل اليوم لن يقف الى جانبه ساعة المعركة.
بعض أصحاب النيّة الحسنة، كأسعد ابو خليل، يطلبون الرّدّ العسكري الفوري، كمسألة مبدأ، وبصرف النظر عن ميزان القوى والكلفة والخطوة التالية (ثم يسخرون من صدّام حسين...) ولكنّ غالبية المشاركين في حفلة الشماتة هذه لا تريد، في الحقيقة، المواجهة ومتطلباتها – والمقاومة، مثلاً، تتأسس على تعاضد الأنظمة غير العميلة، وتوحيد الجيوش والجبهات في المنطقة؛ وليس على قصم عرى شعوبها، والرهان على ضرب ايران، وزرع نظام يعادي العراق في سوريا، ونظام يعادي الجميع في العراق الخ...
ما يتبقى للذاكرة هو انّه، يوم أغارت اسرائيل على الجيش العربي السوري، كان خيار بعض العرب هو الوقوف على قارعة الطريق والسخرية منه ومن شهدائه. وهذا مكانٌ مفهوم، بل ومنطقي، لفئة واسعة في المجتمع السياسي العربي ذهبت الى ما هو أسوأ بكثير، ولم تعد مقولة «اضرب الظالمين بالظالمين» عندها مجرّد لازمة تبريرية، بل صارت بمقام ايديولوجيا.