مفاهيم مغلوطة كثيرة تنتشر في منطقتنا وتصل إلى عامة الناس بسهولة، منهم من يتقبلها ويسير وفق مبتغاها ومنهم من يرفضها كلياً. لكن حقيقة الأمر أن الأفكار المشوهة تجتاح بقوة عقول الكثيرين في العالم العربي، وتضرب كالأمواج العاتية مخلفةً وراءها أضراراً فكرية كبيرة. ليس هدف الإرهاب الذي يضرب منطقتنا القتل والذبح فقط، بل نشر الفوضى وتفتيت الدول وشرذمة الأمة. ويعتبر انتشار الجماعات الإرهابية التابعة لـ«القاعدة» في البلاد العربية، وعلى رأسها تنظيم «داعش»، وممارسة كل أنواع الجرائم المادية (القتل وما يشمله) والمعنوية (جرائم نشر الأفكار التكفيرية)، يضاف إلى ذلك أن تحديد معالم وجود «داعش» في الدول العربية لسفك دم أهلها، ونشر تعاليمه وعقائده التكفيرية، في ظل نسيان فلسطين وعدم توجيه طلقة واحدة ضد العدو الإسرائيلي، هو أحد أخطر نماذج الحرب الناعمة التي تستخدم ضد منطقتنا في سياق نشر الفوضى التي قد تقضي علينا إذا لم نتكاتف لمواجهتها.

من هنا تأتي أهمية مكافحة الإرهاب ـ من خارج المنظور الأميركي ـ ليس عن طريق الحرب الصلبة فقط التي قد تكون عاملاً رئيسياً للنجاح في إبعاد خطر الإرهاب عن بلداننا، ولكن من خلال الدعاية الفكرية الصحيحة التي يكون دورها مواجهة هذه الحرب أو تعطيل مفاعيلها.
مواجهة هذه الحرب تكون بشقين أساسيين، حرب «ناعمة» ـ حرب فكرية وتصحيح الصور القيمية ـ ضد التكفير ودعائمه، وحملة مضادة ضد الحرب الناعمة التي تشن علينا من الغرب بشكل عام وأميركا بشكل خاص.
إن استخدام القوة الخشنة هو جزء من الصراع الحاصل بيننا وبين الإرهاب ومن يصدره. وهو يبدأ بقرار سياسي مقترن بالعمل من أجل هدف سياسي، أساسه تحديد اللاعبين في خريطة الصراع والوجود في كل زمان ومكان، لكن الأخطر من القوة الخشنة في صراع الوجود، هو القوة الناعمة التي قد تقضي على إرادة الصراع من أجل البقاء، لا على الخريطة فقط، وإنما في منظومة الحياة أيضاً.

هدف الحرب الناعمة انتشار الأفكار المغلوطة

الحرب الناعمة تشن علينا بأفكار وتعريفات ونماذج عدة،
يمكن القول إن أساس
نشوب هذه الحرب هو
القضاء على القيم


لمنظومة واحدة هدفها إبعاد الخطر عن أمنها، مقابل تدمير مجتمعاتنا. وتعني القوة الناعمة Soft Power من وجهة نظر الأميركي جوزيف ناي، القدرة في الحصول على ما نريد من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع. ويرى الأميركي الآخر صامويل هنتنغتون أن «القوة الناعمة هي قدرة أي دولة على حمل دولة أخرى على أن تقول ما تريده من خلال اللجوء إلى ثقافتها وأيديولوجيتها».
أما الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فيعتبر أن القوة الناعمة تتضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين، تعتمد في ظهورها على القوة الخشنة أو الصادة.
القوة الناعمة ليست دعاية سياسية، بل هي سجال عقلي وقيمي يهدف إلى التأثير على الرأي العام في داخل المنظومة الاجتماعية وخارجها. ومن أجل تحقيق أهدافها، تستفيد القوة الناعمة من كل المؤثرات والرموز البصرية والإعلامية والثقافية والأكاديمية والبحثية والتجارية والعلاقات العامة.

انتشار الإرهاب والفلسفة الأميركية

يمكن القول إن أساس قيام هذه الحرب هو القضاء على القيم، وهدفها الأول تبيين الثقافة الإسلامية بطريقة مغلوطة، تحمل بين جنباتها التطرف والإرهاب، على عكس الإسلام الأصيل، إسلام التسامح والمحبة والتكاتف ونبذ التكفير والفتن (إسلام الرسول الأكرم محمد «ص»، لا الإسلام الأميركي).
يعتبر انتشار الإرهاب في منطقتنا وادعاء مكافحته دليلاً على ما تقدم، لا من خلال جرائم الذبح والتنكيل والتي هي أحد أهداف هذه الحرب التي تقوم على ترويج سياسة العنف التوحش، ولكن من خلال الاعتماد على هذه الأفكار ونشرها.
يصب الأميركيون جهودهم على نشر الأفكار التي يريدونها في دولنا، لكسب العقول والقلوب لتغيير المفاهيم والقيم الإسلامية ومن ثم استعمارنا. ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال ما يقوله الأميركي المتصهين «برنارد لويس» الذي عمل مستشاراً لشؤون الشرق الأوسط في إدارة بوش الأب والابن: «إن العرب والمسلمين قوم فاسدون مفسدون فوضويون، لا يمكن تحضرهم، وإذا تُرِكوا لأنفسهم فسوف يفاجئون العالم المتحضر بموجات بشرية إرهابية تدمِّر الحضارات...».
بالإضافة إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى أفكار الكاتب الأميركي الصهيوني دانيال بايبس الذي يقول إن «أكثر صور مكافحة الإرهاب فعالية وكفاءة لا تقاتل الإرهابيين، وإنما تقاتل الأفكار التي تحرّضهم، ويؤكد على ضرورة أن يواجه الغرب الإسلام كإسلام حتى إضعاف قوته».

كيف نواجه

يعتبر تنظيم «داعش» وأفكاره التكفيرية، بالإضافة إلى بقية الجماعات الإرهابية التكفيرية التابعة لتنظيم «القاعدة» نماذج رعتها أميركا نشأة وتمويلاً وتسليحاً، وقد استخدمتها بين «القوة الصلبة» و«القوة الناعمة»، وما يحصل في سوريا والعراق خير دليل على ذلك. فمن بنى هذه الجماعات وقواها هو الدعم الأميركي الغربي العربي اللامتناهي. وحالياً يعتبر «داعش» أساس انتشار الفوضى، هذه الجماعات الإرهابية لم تقم بأي هجوم ضد الصهاينة للدفاع عن الأقصى الشريف الذي تنتهك يوميّاً حرماته، لأن إسلام هذه الجماعات هو إسلام مفصّل على مقاسات أميركية ـ إسرائيلية.
لذلك على الكوادر العلمية والثقافية في البلاد العربية، والذين يدركون خطورة هذه الحرب، المسارعة قبل دولهم إلى المواجهة، ليس عسكرياً فقط ولكن من خلال أمور عديدة قد تساعد على مواجهة التكفير الذي يراد له أن يحكم أمتنا ودولنا، فالحرب العسكرية هامة جداً، ودورها كبير جداً في مواجهة هذا الإرهاب. وتعتبر الإنجازات التي تحقق في سوريا والعراق ضد «داعش» والجماعات الإرهابية الأخرى أساسية في مواجهة الموجة الإرهابية، لكن لا بد من المواجهة عبر خطوات فكرية ثقافية دعائية.
وتعتبر الحرب الدعائية إحدى أبرز الوسائل المفيدة، من خلال الاستخدام الصحيح للوسائل الإعلامية لتبيان الحقائق، وتفعيل عمل المؤسسات الثقافية والأكاديمية ومراكز الأبحاث لمواجهة هذه الأفكار، بالإضافة إلى عقد مؤتمرات محلية، إقليمية ودولية حول التكفير وسبل مواجهته.
تفعيل هذه الخطوات لا بد أن يترافق مع تنفيس الخطاب المذهبي ونسف خطاب الفتنة الذي يستخدم من قبل الكثيرين، بالإضافة إلى عدم استخدام الخطاب المنفّر للناس، وكذلك لا بد من الإعلان جهاراً عن تكفير «داعش». ولا بد من اقتران الخطاب بالعمل وليس فقط إطلاق كلمات رنانة، على أن يتم تتويج ذلك من خلال وضع استراتيجية إسلامية حقيقية لمواجهة الإرهاب والتكفير، مع مراعاة التقيد بالنصوص الدولية التي تحظر دعم الإرهاب مالياً ومعنوياً وتسليحاً، وتفعيل التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف بين دولنا لمكافحة هذا الإرهاب.
* صحافي لبناني