اياد المقدادإن نُظماً تستطيع أن تحوّل أطول أنهارها وأغزرها إلى مجرور هي نُظم ساقطة بكلّ المقاييس. فلا جدوى من كتابة أناشيد لنهر الليطاني كرمز أسطوري للبطولة والرجولة بينما نحن نتحدث في واقع الأمر عن مجرور. 20 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي هي حقيقة النهر العظيم، ابتداء من تموز في كلّ عام، وملايين أخرى من النفايات الصلبة التي تطفو على سطحه مع كل جولة شتاء، لتحيل هذا المجرى إلى ناقل للأمراض والكيميائيات المسرطنة، وتجول بها من البقاع إلى أقاصي الجنوب حتى يغصّ البحر ذاته بالقذارة. في الحقيقة المجرّدة هناك صنّاع أوساخ وليس أي شيء آخر.

مزارع دواجن، مسالخ، مخلّفات مستشفيات، مبيدات، مجاري صرف صحي، مخلفات متنزّهين مدنيين حضاريين على ضفاف الخردلي وعشرات من منتزهات لهواة الإستمتاع بتلويث الأمكنة وإحالتها إلى مزابل. 90 كلم هي مجرى حوضه الأعلى تتلقى مياه الجور الصحية من 48 قرية على ضفافه وبجواره. ومع ذلك فإنّ الليطاني يبقى حاضراً كأسطورة عصية ورمزاً من رموز التمرّد في كوميديا سوداء تشبه كلّ الكوميديا التي يعيشها المواطن اللبناني في مزبلته الكبرى، من دون أن ينسى ترداد حكاية الشعب العظيم الذي يبذل دماءه وأرواح شبابه حفاظاً على مياهه من الأطماع الصهيونية. لكنّ الحقيقة المرة أنّ في استطاعتنا، وبقليل من الذكاء، أن نستخدم مياه هذا النهر لدكّ إسرائيل وإزالتها من الوجود. فلو غضضنا الطرف قليلاً عن الطموحات الإسرائيلية وسمحنا لها بجرّ بعض من الليطاني، أو جرّه كله، فقد تكون النتيجة موت إسرائيل مسرطنة، أو على الأقل هجرة اليهود هرباً من الروائح النفّاذة، إضافة إلى ما يسببه ذلك من تلوّث مياه الريّ لدى دولة العدو، وما يستتبع ذلك من امتناع المجموعة الأوروبية عن استيراد منتجاتها، والتي ستتلوث بالزئبق ومشتقات النفط. إنّها معجزة الزبالة، السلاح الذي ليس في استطاعة أحد أن ينتجه كمّاً ونوعاً سوانا.
لسنا في حاجة لدروس أخرى في الشعر والنثر والشعارات الغبية. ما نحن في حاجة اليه هو قليل من الأخلاق، وليس من العيب بشيء أن نستعين بمختار دنماركي على سبيل المثال ليعلّمنا كيف يعيش البشر وكيف يتعاملون مع محيطهم، وكيف من الممكن أن تعيش الأبقار في حظائر أكثر نظافة من الزرائب البشرية التي زجّونا بها. وكيف من الممكن أن تكون أعلافها ومياه مشاربها أكثر طهراً وصحة من مياه حليب أطفالنا. بل ربّما كان كافياً استعادة الليطاني على صورته الأولى حين كان يضجّ بعذوبة مياه كنقاء فلاحيه في ذاك الزمن الأخلاقي الذي أطاحت به الحرب الأهلية وكلّ ما تلاها.
يهدر المسؤولون المحليون الكثير من الوقت في الثرثرة والفلسفة والبحث في عوالم الهيولى، إضافة إلى الكثير من التحليلات والتنبؤات بمصير المنطقة والعالم كله، فيما تغرق بلداتهم وقراهم في تصحر وجفاف ما دام النهر الذي يخترقها نهر مسموم. إن خطرا أقلّ من هذا بكثير استشعرته آنا ماريا غوريني، عجوز إيطالية، في ثمانينات القرن الماضي جعلها تدقّ جرس الإنذار في مجلسها البلدي وتطلب من مواطنيها وضع حجر في خزّان مياه كلّ مرحاض في بلدتها الصغيرة ليتحوّل الفعل إلى ممارسة وطنية شاملة، فإذا بها توّفر عشرات ملايين الأمتار المكعبة من المياه على امتداد إيطاليا. أولسنا نمتلك بين كلّ جهابذة وعمالقة المنابر دماغاً مبدعا ًكدماغ آنا ماريا؟ لكنّ المسألة هي أعقد من ذلك بكثير، انها تتجاوز توفير المياه إلى احترام الإنسان كقيمة وليس اعتباره رقماً على مذبح المصالح السياسية والإقتصادية لطبقة انتهازية فاشلة في الإدارة والتخطيط.
الليطاني قضية وعار، ولن يغسل عارنا مجرور. فالطهارة لن تأتي بها النجاسة، إنّما هي صناعة الأطهار. أليس بيننا من طاهر؟