ينتمي مروان حمادة إلى عالمٍ ليس فيه على الإطلاق حواجز أمام الهذر. كلماته ليست ككل الكلمات، هي مصنوعة من الأوراق النقدّية الفاخرة التي بات فصلها عن سننها الطبيعية وتوجيهاتها النفسية والاجتماعية أمراً عسيراً. نصه مزيج من نقد (عقلاني) وتسويغات فانتازية مستلّة من ذكريات وهواجس وترّهات حميمية وعواطف متناقضة ووجهات نظر تكوّمت من نسيج من النزوات المضمرة والمعلنة. لبّ هويّة الشخص الذي يتعشق هذه الآونة المرافعات والشهادات أمام «العدالة الدولية» تقع عند نقطة تقاطع حادة يصطدم فيها الوهم مع الإيديولوجيا مع البراغماتية وأشياء أخرى لا يصح دوماً البوح بها، ولكن كما يقال: «لكل بناء لافتته الصغيرة»!
ولدت سيرته التاريخية الحقيقية حين كان يحضر القدّاس السياسي الذي كان يقيمه غازي كنعان في كل ساعة من ساعة الليل والنهار، وكان وقت ذاك، وبعد أن نمت تجربته قليلاً، يهسهس قائلاً: «على الإنسان أن يعمل حتى ولو كان رب عمله مجنوناً»، وعليه أن يكرس نفسه لساعات الخلود العظمى الآتية حتماً، فقد كان يملك حاسة شمّ قوية بالنسبة لأخبار المستقبل! بدا للرجل أن يضطلع بأقل مهمة ولو كانت هزيلة بالكامل، فمجموع أفعاله على امتداد حياته سيكون أعجوبة في نهاية المطاف، وهو بحق كانت كذلك. المهم أن يحصل على قوة الاستمرار الطويل بين الدمى المتحركة التي تحظى بعنايات داخلية وخارجية، وأنّ يمتدّ فضوله إلى ما لا نهاية، في كسب الود والحظوة عند كبار «آلهة الجاه» طمعاً بأحدٍ منهم يوفق بنجاح إلى فكّ رموز ذكائه. ومن المعلوم في محله أنّ مَن يؤوّل الأدوار التي تفرضها المواضعات والظروف لا بد من أن يتمتع بجاذبية التمثيل والمحاكاة والارتجال، وأن يحتفظ بسمات اللطف والثرثرة والجديّة كما الانحناء لحاملي الرتب والأوسمة، وأن يكون مستعداً أن يقول للآخر «لا أحبّ سواك» أو أن يذرف الدموع حيث تدعو الحاجة! وبكل ما في الأمر من بداهة نجح حيث خاب الآخرون. كان الأجدر في طبقته، والأقدّر بين أترابه السياسيين على القيام بحركة التفافية تضفي الطابع الجذري على كل ما سبقه من تحالفات وصداقات وأنماط تفكير.
مجموع أفعاله على
امتداد حياته سيكون أعجوبة في نهاية المطاف

هو استنبط ذلك من فحص التحوّلات، ولحظة أحسّ بوهن سنوات الوصاية السورية في لبنان كما يحب وصفها، قبل أن ينعطف انعطافة كاملة لكي يستطيع المصور أن يلتقط له صورة تاريخية وهو يلقي شهادة باسم المنجّمين والمخبرين الذين تكاثروا زمن «الربيع العربي» الأشم. لبقٌ دائماً حتى وهو يذم ظلم إلهه السابق ويمدح فضل إلهه الراهن. وما ذاك إلا لأنّ امتهان التمثيل يمنح صاحبه الفذّ تجسيد الشخوص على أكمل وجه، ويضفي رصانة ضرورية على موقف مؤديها، ورشاقة في التغيّر والتلّون والتقلّب تقود إلى حالة إبداعية وموهبة يحسبها المرء حدثت عفو الخاطر. الرجل يحب الحبر والكلام بالضاد وبلغات العالم الحيّة، لذا اختار أن يخاطب العالم من منبر «العدالة الدولية» متخففاً من قيود قديمة، فهو يريد أن يتكلم بلغة أوضح وأكثر روعة. يا للروعة من أناس يعرفون كيف ينتقلون من عقدٍ إلى عقد، وكيف يرمون شبكة أحابيلهم ليعيدوا ترتيب الوقائع أو خلقها لتبدو أكثر منطقية وصدقية في أذهان الناس الذين يصعب عليهم أن يطرحوا للتساؤل مسألة بهذا العمق العاطفي والطائفي وهي مسألة اغتيال الرئيس الحريري، أو أن يدركوا ما شيدته لهم أنظمة الدلالة وما خلقته من تأثيرات ذهنية حقيقية اختلطت فيها الأفكار النقية مع الادعاءات والمزاعم المزيفة.
جل ما أنتجه هؤلاء لبعض اللبنانيين ثورة أرز بائسة. «ثورة» برجوازية طائفية مقيتة تبدّت هلوستها حين زحفت سنوات عمرها ثقيلة نحو مؤشر «لاهاي» المأسوي. ولكل لبناني ذي لب أن يسأل إن كانت «لاهاي» ملائمة لهذه الظواهر التي يمثلها حمادة ورفاقه في «الثورة» التي لا شأنّ لها بالحرية والاستقلال والقرار الحر ولا بعدالة رفيق الحريري المحكومة تفاعلاتها لقوى السوق الإقليمية والدولية!
بعد داعش وذبائحه انكشف لنا الغطاء، وازددنا يقيناً أكثر من أنّ العقل المتوحش لا يسمح بأي شيء إنساني. لمروان وثلة من طبقته المحاربين على ثغور السيادة، تُقال هذه العبارة : «أعظم عبء في الحياة هي الخرافة»!
* أستاذ جامعي