يُطلِقُ البعض على القرن الحادي والعشرين تسمية «قرن الله»، ومعنى ذلك أن الدين، وليس كلام الله ووصاياه، هو الذي سيبقى السمة الأساسية للسياسة الدولية والمحلية على مدى العقود القليلة القادمة. يمكننا التأكد من هذا الأمر من خلال الماضي القريب، فعلى مدى الـ25 عاماً الماضية، شهد العالم زيادة في مستوى النشاط الديني من قبل الأفراد والمنظمات الدينية. انبعاث السياسة الدينية هذا واضح في الطائفية العنيفة والهويات الدينية الطائفية في الشرق الأوسط الحالي، كما نراهُ في بروز متصاعد للسياسة الدينية المتعصبة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى.
في مقال لـ«سكوت هيبارد»، تحدث فيه عن السياسة الدينية والصعود غير الليبرالي للدّين، نقل فيه تفاسير ووجهات نظر متباينة عن الموضوع، بالاستعانة بمراجع مختلفة. إحدى هذه النواحي هي التوجه نحو نظرية العلمنة المثيرة للاهتمام، والذي تنبأ بأن تأثير النظم العقائدية التقليدية من شأنه أن يتضاءل بحلول التنمية الاقتصادية والسياسية.
أدى استمرار السياسة الدينية إلى ارتفاع الأصوات القائلة بأن الدبلوماسيين والسياسيين والمحللين السياسيين، بحاجة إلى فهم أفضل للدين، إذا أرادوا فهم السياسة الدولية المعاصرة.
في حين أن هناك مجموعة متنوعة من التفسيرات لعودة الحرب الباردة السياسية والدينية، في أدبيات ضخمة، لكن ما هو مفقود في الكثير من النقاشات والتحاليل ارتباط الدين بالسياسة الحديثة.
الدين ليس ظاهرة أحادية التقديس من وجهة نظر واحدة، ولا ظاهرة مشوهة، إنما هي ظاهرة متعددة الأوجه، يظهر للحظات على أنه الأكثر اعتدالاً وتسامحاً وسلاماً، وفي لحظات أخرى تبلغ الطائفية الدينية أشدها، والتي هي محرك الحروب والصراعات. هذه التفسيرات المختلفة للدين تتنافس في التأثير، تتأكد هذه الرؤى المختلفة التفسير من خلال أسلوب الحياة، وهي كثيراً ما تحدد نقاط الضعف في المجتمع.
في منتصف القرن العشرين، كانت الأصولية مهمّشة ومقموعة سياسياً

لماذا ظلت الأساليب الدينية المحافظة شديدة التأثير والتأثُّر بالسياسة في المجتمعات العلمانية مثل مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية؟
الجواب عن هذا السؤال هو أن الدين سيستمر بعلاقته بالسياسة الحديثة، لأنها مستمرة في تقسيم الهويات الوطنية لمناطقية محددة. أما السبب الآخر، فهو أن الدين قادر بشكل فريد على توفير غطاء أخلاقي لممارسات سياسية معينة، لذلك تتذرع الأطراف السياسية المتنوعة المشارب بالدين لتحقيق غاياتها وخططها السياسية. ويبقى السؤال، لماذا كان تقديم وتجسيد المحافظ أو غير الليبرالي للتقاليد الدينية بارزاً جداً، وليس أكثر شمولية وليبرالية؟
هذا الجانب الأخير من السياسة الدينية المعاصرة والأكثر إثارة للاهتمام، يسلّط الضوء على الانقسامات الداخلية للدين، ويجسد ما أشار إليه سكوت أبليبي باسم الالتباس الأساسي للدين، واستمرار التوتر بين التفسيرات المتناقضة والمتنافسة لدين معين ونمط اجتماعي محدد يتصورهُ كل شخص.
عودة السياسة الدينية، واحدة من السمات المميزة لعصر ما بعد الحرب الباردة، هذا الاتجاه غريب جزئياً، لأنه يتعارض مع نظرية التحديث وأطروحة العلمنة. توقعت نظرية التحديث أن الدين سوف يصبح أقل أهمية في دول علمانية ذات أسواق رأسمالية، بدلاً من دور الكنيسة أو أي مؤسسة دينية رسمية أخرى كمؤسسات ذات سيادة في الحياة العامة.
من المفترض أيضاً أن تتضاءل المعتقدات الشخصية، وتفقد الأساطير الدينية سيطرتها على المخيلة الشعبية، وأن تُهمّش الدول والأسواق الكنيسة.
كان يُعتقد أن العلم والعقل من شأنهما أن يزيحا المعتقد الديني كوسيلة لشرح الوجود، ليبقى الدين خياراً شخصياً ومسألة فردية تعتمد على ضمائر الأفراد. وجاءت الحداثة في وقت لاحق لتتحدد بالتنوع في الحياة الاجتماعية في مختلف المجالات، العلمانية والدينية من جهة، والقطاعين العام والخاص من جهة أخرى.
أجبر انتشار السياسة الدينية، في عصر ما بعد الحرب الباردة، على إعادة تقييم هذه الافتراضات، وقد ركز أحد التفسيرات لعودة السياسة الدينية بشكل جوهري وهو: لا تستطيع السياسة الدينية التعامل مع قضايا الدين، بقدر ما تستطيع التعامل مع الفوارق الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والمظالم السياسية، والقضية الجوهرية باختصار... هي السياسة وليست الدين.
الأساس لهذا الطرح، هو فشل الدولة العلمانية بتلبية احتياجات الإنسان الأساسية. هذا الفشل خلق السخط الشعبي الذي يترجم لاحقاً بأفعال ذات طابع ديني بعيدة عن جوهر المشكلة. الحل، في الوقت الذي قد تعبّر فيه هذه الحركات السياسية عن مظالم الناس برداء ديني بدوافع سياسية اقتصادية. وبالتالي من الخطأ إطلاق صفة «ديني» على النشاط المعاصر، واعتبار الظلم مصدراً لذلك. ينبغي النظر للأصوليات الدينية كمنتج للبيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتغيرة بسرعة، وليس بوصفه عودة للدين، بحد ذاته.
من وجهة نظر بديلة، أن ظاهرة العودة إلى الدين هي ظاهرة حقيقية، تعكس تجدد انتشار التقاليد الدينية في عالم يزداد حداثة وعلمانية، وكيف لهذين المتضادين الاجتماع؟ السياسة الدينية في السنوات الأخيرة تعزز الرفض الشعبي للعلمانية وقواعدها. يفسرها البعض على أنها رغبة في إعادة تبني الدين، كإثبات لوجودهم وكيانهم في المجتمعات العلمانية الغربية. ومن هنا، التعبئة الدينية في عصر ما بعد الحرب الباردة، تجسد التمرد الديني للسكان ضد النخب العلمانية، وتنافس أولئك الذين يسعون إلى صبغ الحياة اليومية العامة بطابع ديني، ضد الدولة التي تجسد قيم الإلحاد والحداثة العلمانية.
في حين أن كلاً من هذه التفسيرات لها ما يبررها، يسعى النهج الثالث إلى دمج كلتا الوجهتين، ويرى أن الاتجاهين السياسي والديني هما المسيّران لهذا التحرك الديني الواسع. بينما الدافع المنطقي والواقع الذي يقود هذه العودة إلى الدين هو اقتصادي ــ اجتماعي، بالإضافة إلى الأسباب الدينية والسياسية. لكن من المهم معرفة أن الأطراف السياسية الفاعلة تتمسك بالأيديولوجيا الدينية، وليس بأيديولوجيات أخرى، يعزز ذلك استمرار بروز الدين في جميع أوجه الحياة، ما يقودنا إلى أسئلة محورية في هذا الوجود الإنساني عن الحياة والموت، والأهداف الأخلاقية. العلم والعقل أكثر قدرة على معالجة مسائل القياس المادي، لا المعنوية والروحية التي يواجهها كل أفراد المجتمع.
علاوة على ذلك، يوفر الدين لغة للتعبير عن: الأخلاق، محاسبة السلطة على ممارساتها، وضع القضايا السياسية المعاصرة في إطار معياري أوسع. وعليه، حتى لو كان هناك فصل رسمي للكنيسة عن الدولة، الذي يجسد فصلاً بين السلطة الدينية والسياسية، فأفكار ومعتقدات الدين تستمر في توفير أساس للتماسك الاجتماعي، ولغة للسياسة «المعاصرة». لهذه الأسباب، احتجّت الدول العلمانية على هذه الحركة الدينية، وحاولت بعض الدول القضاء على الدين أو على الأقل تحجيمه. عُزي الفشل الرئيسي بتطبيق نظرية الحداثة، بأن هذه الدول معادية دائماً لجميع المعتقدات الدينية مهما كانت، وهذا الافتراض غير صحيح.
سعت الدول إلى تنظيم الدين والسيطرة عليه واستخدامه لأغراض خاصة، فهو لا يزال يمثل بالنسبة إلى المجتمعات الغربية أداة أساسية لمشروعها الوطني، ومشاريعها خارج الحدود.
قال أنتوني ماركس في هذا الموضوع: «في السياق الأوروبي، كان التعصب الديني أداةً تستخدم لفتح المجال لمشاركة شعبية كبيرة، مع أو ضد مركزية السلطة الحاكمة، وبعدما دعيت هذه الجماهير للساحات العامة، أصبحت تتجمهر بدعوة طائفية. وهو ما أثار حفيظة السياسيين والمستفيدين منهم من هذه الحركات».
حتى لو كانت المؤسسات الدينية أقل مركزية في الحياة الاجتماعية الحديثة، فالأفكار الدينية والصور الرمزية تبقى مؤثرة بشكل كبير في بناء وتعبئة الهويات الجماعية.
رُسِمت الأيديولوجيات القومية والطائفية، كرموز وزخارف دينية لتعزيز التضامن الاجتماعي والعمل السياسي، الأبعاد الدينية للقوميات، وقدمت الطريقة المناسبة للسرد التي يتم فيها إظهار التضحيات الفردية بصورة مقدسة، وربط ذلك بالماضي الأسطوري، وبالمستقبل الأفضل «ظاهرياً». مثال ذلك؛ استغلال اللغة الأخلاقية المتأصلة في التقاليد الدينية، لإضفاء الشرعية على السلطة السياسية، فيوفر الدين إطاراً لتفسير الأحداث السياسية والتعبير عن الأغراض «الأخلاقية» لها. حتى التقليد العلماني القومي، القادر على الامتداد عالمياً هو في جوهره مبني على مجموعة من الترتيبات السياسية.
لهذه الأسباب، يتم اللجوء إلى الدين، وتلعبُ الأسباب السياسية الدور المحوري بذلك، فيستخدم الدين من قبل جماعات المعارضة لنقد الوضع الراهن في ما يسمى «الوظيفة النبوية للدين» للتعبير عن برنامج سياسي بديل تقرّه المعارضة، يعترف بوصفها السلطة الشرعية للدولة. وبالمثل؛ لم تتردد النخب السياسية في الدولة لحظة في التوفيق بين الدين وأغراضهم الخاصة، واستخدمت الجهات الحكومية لعقود طويلة الدين لتقديس السلطة السياسية وإضفاء علاقات هيمنة مع هالة من الحق الطبيعي للحكم. الهدف النهائي من هذا التلاعب هو ربط العلاقات السياسية لفريق معين بالأغراض الأخلاقية والوطنية والدينية.
ما يميز ويعرّف هذا العصر، ليس العودة إلى الدين، وإنما انبعاث الرؤى المتعصبة للدين على حساب الليبرالية. ففي منتصف القرن العشرين، هيمن الطابع الليبرالي والحداثي للدين على الحياة العامة، وتمّ تحاشي التفسير الحرفي للنصوص المقدسة، والتأكيد على التعايش والتسامح الاجتماعي. كانت هذه التفسيرات الليبرالية للدين، تتفق مع المعايير العلمانية للحيادية وتنقل رؤية شاملة للمجتمع، وتربط الدين الحداثي مع اليسار السياسي، وتعزّز العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر. من ناحية أخرى، ركّز التوجه غير الليبرالي على حرفية النصوص الدينية، مترافقاً مع اليمين السياسي والأنماط التقليدية للتسلسل الهرمي الاجتماعي والسياسي.
في منتصف القرن العشرين، كان التعصب والأصولية مهمّشة ومقموعة سياسياً. اعتبر هذا التهميش كنذير سيئ لمستقبل الدين الذي نشهده حالياً، هذا هو الاتجاه الذي أحاط بأطروحة العلمنة. ومع ذلك، بدأ التأثير النسبي للتفسيرات المتنافسة للدين إلى تغييرات في الدين بين التسعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. خلال هذه الفترة، جاءت الأطراف الفاعلة السياسية الرئيسية لرؤية الأصوليات الدينية باعتبارها حصناً ضد الاشتراكية وعنصراً مشتركاً من الغالبية الوطنية.
تلقّى النشطاء ضد الاشتراكية في العالم، في فترة الحرب الباردة، الدعم من بعض الحكومات التي عملت على التقرب والتودد من الحركات الدينية المتعصبة كقاعدة انتخابية لها، وليس تهديداً يتطلب التهميش. يجب ألا نستغربَ إذاً، مع نهاية الحرب الباردة وتشويه سمعة اليسار السياسي، نشوء الحركات السياسية الدينية المحافظة، كوجود قوي وفعّال عدد كبير من المجتمعات حول العالم.
* كاتبة سورية