يطلق الإنسان ما يعرفه ويُكرِّره على لسانه صبح مساء. كذلك هم قادة الأحزاب والدول. وغالباً ما يتصرفون بعكسه، فالواقع وحاجاته، أصدق إنباء من اللسان والذاكرة. ولهذا جاءت: إسمع كلامهم ولا تفعل أفعالهم.إيران بعد سوريا، ومن قبلهما عراق صدام حسين وليبيا معمر القذافي، وياسر عرفات فلسطين وقد اهترأوا من لدغات أميركا، لكنّهم ظلوا يطلبونها بتصميم وإرادة مسبقة حتى قتلتهم شر ميتة.

ومع هذا، وبواقع أن التجربة فاقعة الدروس صادمة النتائج، تبقى تجد أن في ايران، كما في سوريا، تيارات وجماعات ممن ينشدون الخلاص عن طريق أميركا، بل وهم يقاتلون جحافلها وتحالفاتها ويتحدثون عن تآمرها، تبقى عيونهم مسمّرة عليها وقلوبهم تهتف وترقص كلما سمعوا كلمة قد تفيد بأنها رضيت أو سترضى، فيبدأون الاستعداد للدخول إلى ناديها مباشرة أو عبر التحالفات الإقليمية، ولو كانت تقودها إسرائيل أو عبر أوروبا الذيل المهترئ لأميركا المتراجعة والمترددة بترنّح. وعلى الرغم من أن كل شيء حي يتعلم من تجربته، وهو بذلك غبي على غير عادة الأذكياء الذين يتعلمون من تجارب الآخرين، فالهوس بأميركا وخطب ودّها بدأ يتحول إلى مرض قاتل. والأخطر أن سوريا وإيران، اللتين لأربعين سنة قاتلتا الهيمنة الاميركية وأعاقتاها وأسهمتا في هزيمتها، كما حصل في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، تجدهما، وبعدما بدأت قوة أميركا تتراجع وتُخلي الساحة الدولية لشركاء آخرين، تلهث وراءها طلباً لرضاها وللتماشي معها. هذا الأمر سيان في المعارضات السورية على تنوّعها وكثرتها. وفي تيارات السلطة والمجتمع الإيراني، بما في ذلك النخبة والطبقة الحاكمة والمسيطرة. أما الغاية التي نتوخّاها، فهي التنبيه إلى أنّ أميركا بتجربتها الطويلة وبتعاملها مع من كان يرفضها أو يعيق تمدد سطوتها، تُهادن وتستثمر وتستميل، لكنها لا تصالح بل تُعدُّ العُدّة لتلقينه الدرس، ليكون عبرة للآخرين.
هذا ما حصل مع صدام حسين. وعلى رغم أنه قاتل نيابة عن أميركا في الحرب ضد إيران. وسلّم لها بعد غزو الكويت. ثم وفّر لها ما رغبت وما أرادت حتى في المصالح الاقتصادية والسياسية، لكنها حالما تمكّنت، غزت العراق وعلّقت صدّام على المشنقة وكذا فعل القذّافي عندما أعطاها كل ما يملك من أسرار، وسلّمها كل ما لديه من علاقات، وكشف النووي الايراني والسوري. ومكّن لها وللشركات الغربية، السيطرة على مفاصلها، بما في ذلك هندسة المجتمع والاقتصاد والاتصالات. ففعلت به كما كان مع سابقه وتجربة أبو عمار لا تزال ماثلة في الذاكرة.
أمام كل ذلك. هل يعقل المؤمنون، فلا يُقاربون الجُحر مرة ثانية، كي لا يُلدغون؟؟
يبدو أنّ السؤال لم يطرُق آذان البعض، لذا لا يرغبون بمقاربته أو البحث عن إجابات بديلة عليه، على الرغم من توفّر كل عناصرها. والأدهى أن بعض العناصر الأساسية كانت حصيلة صناعة سورية إيرانية، فلماذا اللهاث خلف أميركا واستعطافها والبحث عن مشتركات لخدمة مشروعها، فيما هي لا تقبل شريكاً.
وإن كان البعض لم يتعلم من تجربته أو ممن سبقه، أفلا يتعلم من تجربة المعارضات في سوريا ساعة كانت تُعلّق كل الآمال على الدور الأميركي. وتعوّل على الإسناد الأميركي وعلى المبادرات الأميركية ممنّية النفس بالمنّ والسلوى. وهي تنشد القصف والتدمير لبلدها وجيشها وشعبها، بقصد أو بغير قصد، اعتقاداً منها بأن تلك التضحية مستحبة وليست حراماً. فلم تحصد سوى أنها استُثمرت لتمرير ما تريد ولتعيد صياغة دورها، ولو إعلامياً، على أنها القائد الوحيد المقتدر في الحرب على الإرهاب والجماعات المتطرفة. وماذا هي فاعلة غير جعلنا وجعلكم من عبادها الصالحي، وهي حقا لا تملك القدرة لا القرار ولا المصلحة في تصفية داعش وأخواتها. وكلما ضربت واحدة، حاولت تجميع وتسليح وإعداد أُخريات، ليضربهم حلفاء أميركا أنفسهم.
ومناسبة الكلام هذا، ما يصار إلى تعميمه وكأنه الحقيقة والأمل المرتجى لجهة الرهان على متغيرات أميركية وانعطافة تعيد صياغة الموقف الأميركي والتحالف، بحيث تقبل ايران وتقبل سورية برئيسها وجيشها، وتنخرط معهم في حربهم على داعش والأخريات.
والحق بالمعطيات الواقعية يقول غير ذلك، فالحرب تدور عندنا وفوق أرضنا، ومعنا، ونحن القادرين وحدنا على خوضها وكسب النصر فيها إن أحسنّا الفعل وفعّلنا التفكير وأصلحنا القول. وبغير هذا، لن يكون نصراً ولن يكون إعمار ونهوض وكل ما يكون هو وقوع إيران وسوريا تحت الهيمنة الاميركية بوصفهم أدوات تنفيذية، ثم تقتص منهما بعد ان تنفد صلاحيتاهما. هذا جرس إنذار نعلّقه، لمن خانته الذاكرة أو أنهكته الحرب أو نخرته الأزمة، لسبب كامن فيه وبمن معه ومن حوله وليس بسبب قوة داعش او قدرة اميركا وقدريتها الموهومة.
اللهم قد بلغنا فاشهد. نسألك الرأفة والرحمة لعبيدك الصالحين

* أمين عام حركة الرديف السوري