يبدو أننا سنشهد انطلاقاً من القدس تطوّراً نوعياً في عمليات المقاومة ضدّ الصهاينة. هذا التطوّر لن يكون بالضرورة مطابقاً لما نعهده عن المقاومة من إيثار واستثناء «للمدنيين» من العنف القادم (يجب أن يكون شعار المرحلة الجديدة كلّ مستوطن مدني والعكس صحيح). في كلّ مكان يخضع لقوّة غاشمة استعمارية ومستبيحة للهوية المحلّية يحدث ذلك، والقدس ليست استثناءً في هذا السياق، لا بل هي من أكثر الأماكن التي يتضاعف فيها أثر هذه القوّة، ومعه بالطبع مقاومة هذا الأثر، عبر العمليات الفردية التي يغدو معها العنف بمثابة هويّة للشخص المسحوق أو المستباح.
لكلّ عنف ثوريّ... سياقه

يستحيل إيجاد أطر لهذا النوع من العنف، فهو متدحرج بطبيعته، ومتغيّر بحسب الشرط الذي تحصل فيه العملية. ففي غضون أقلّ من شهرين، انتقل ممارسوه من عمليات الدهس بالجرّافات والسيارات إلى الطعن بالسكاكين وصولاً إلى استخدام الفؤوس والذخيرة الحيّة ضدّ المستوطنين في عملية الكنيس الأخيرة. الانتقال من مرحلة إلى أخرى هنا لا يخضع لقانون ولا تحدّه سلطة، فقوانين الاحتلال التي يخضع لها أهالي القدس «انتهت مفاعيلها» مع أوّل عملية دهس حصلت في المدينة. حتى سلطة الأعيان والمتنفّذين العرب هناك باتت عاجزة عن وقف هذا التقدّم المطّرد لعنف الأفراد، إذ إنّ العمليات هذه المرّة ليست اعتيادية، ولا تشبه ما كان يحصل في المدينة إبان الانتفاضة الثانية. حينها لم تكن الاستباحة الصهيونية قد وصلت إلى هذا الحدّ، وكان بمقدور بضعة أفراد يمثّلون المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال أن يحتووا الشباب الغاضب ويمنعوهم من الصدام مع الاحتلال وأعوانه من المستعربين. لم تشهد تلك الفترة مواجهات عنيفة مع الإسرائيليين وبقيت الحادثة الوحيدة التي يمكن تذكّرها والمجاهرة بها كأيقونة للنضال، استشهاد ثلاثة عشر شاباً في أراضي الـ48 خلال التظاهرات الداعمة لانتفاضة الأقصى عام 2001. هذا الواقع لم يعد موجوداً الآن، وبتنا إزاء مرحلة جديدة أصبحت فيها الهويّة الفلسطينية مهدّدة بالاندثار. اليمين الحاكم في «إسرائيل» أصبح في خطر بعد تعرّضه لأكثر من هزيمة سياسية وعسكرية، ولم يعد أمامه إلا التعويل على صدام الهويّات، وهو ما يفسّر هجومه الرمزي والمادّي المتكرّر على المسجد الأقصى وأماكن العبادة الأخرى التي تحظى برمزية خاصة لدى الفلسطينيين والعرب في المدينة القديمة. في مقابل هذه الهجمة، لا يجد المقدسيّون من يحميهم ، ويتعذّر عليهم بسبب سيطرة الاحتلال على المدينة تكوين خلايا «عسكرية» يمكنها أن تردّ عنهم الوحشية الإسرائيلية ولو بشكل بدائي.

استدعاء روح المقاومة

في هذه الظروف بالذات اغتيل الشاب المقدسي محمد أبو خضير ابن مخيم شعفاط، واختار المستوطنون الأوباش لمضاعفة أثر اغتياله التنكيل به بوحشيّة، وبدأت على اثر ذلك احتجاجات عارمة في المخيمات الواقعة على أطراف القدس، تبعتها اشتباكات مع قوّات الاحتلال التي كانت قد بدأت بالتحضير للعدوان على غزّة.
اليمين الحاكم في «إسرائيل»
أصبح في خطر ولم يعد أمامه إلا التعويل على صدام الهويّات

شاهد أهالي القدس بأمّ العين كيف تركت الحرب آثارها على المجتمع الصهيوني والمستوطنات القريبة من غزّة، ويبدو أنّ إعجاب الشرائح العمرية الشابة هناك بتجربة المقاومة في غزّة كان أكثر ممّا نتصوّر. هم يعرفون صعوبة التكرار الحرفي لأساليب المقاومة وتكتيكاتها في القدس ومحيطها، فالمناطق هنا تخضع بالكامل لسلطة الاحتلال ولا يمكن القيام بنشاط مقاوم من أيّ نوع في ظلّ وجودها في كلّ ركن وشارع من القدس وجوارها. يمكن فقط مشاغلة الاحتلال واستنزافه عبر تصعيد الاشتباكات وتطويرها نوعيّاً لتصبح ذات تأثير أكبر على محيطه الاجتماعي المباشر. التداخل بين الأحياء «اليهودية» والعربية هنا يسمح بهذا النوع من التأثير، وإذا توافرت الإرادة لدى الشباب المنتفض يمكن تطوير التأثير ذاك، بحيث يتعدّى قوات الاحتلال ذاتها، ويصبح على تماسّ مباشر مع المجتمع الصهيوني الذي تمثّله المستوطنات وساكنوها خير تمثيل. الغاية هنا ليست الالتحام بحدّ ذاته، فهو لن يحصد نتائج مباشرة وسيتسبّب غالبا بخسائر على المدى القريب، وإنما نقل المعركة إلى مجتمع العدو وتدفيعه ثمن جرائم الاحتلال ومستوطنيه الأوباش. أبناء المخيّمات والأحياء العربية في القدس يعرفون كيف تحقّق ذلك في غزة، ويأملون بنقل التجربة إلى مدينتهم على طريقتهم.

غزة 2014... قوّة الالتحام المباشر

في هذه الحرب التي انتهت بانتصار «جزئي» حصل الاختبار الأوّل، ووصلنا متأخّرين إلى القناعة التي تفيد بضرورة مواجهة مجتمع الاحتلال أولاً، بحيث يتعذّر على قواته العسكرية جبر الضرر الناجم عن هذه المواجهة. وقد كانت النتيجة مبهرة بالفعل، إذ شهدت المستوطنات المحاذية لغزّة عملية نزوح كبيرة من جانب المستوطنين، ولم يتبيّن حتى الآن إن كانوا قد عادوا إلى مستوطناتهم أم لا. أصبح ممكنا مع هذا التطوّر نقل التجربة إلى أماكن الاحتكاك الفعلية، حيث لا سلطة تحتوي المواجهات وتفرغها من مضمونها ولا مقاومة تحتكر لوحدها فعل الالتحام وتوظّفه لمصلحة تفاهماتها اللاحقة مع الاحتلال. في غزّة حدث الأمر على النحو الآتي: عند كلّ خروج لمقاتلي حماس من الأنفاق كان يحصل اشتباك مع الجنود الذين يقومون بالدوريات لحماية المستوطنات، ومع الوقت وتصاعد وتيرة استعدادات المقاومة كانت الاشتباكات تزداد ومع ازديادها يتضاعف حجم القتلى بين الجنود الصهاينة. هكذا، ومع كلّ قتيل يسقط للاحتلال يتآكل عامل الردع أكثر، ويفقد المستوطنون المتّكلون كليّاً على هذا الردع قدرتهم على البقاء في مستعمراتهم. لم يسبق لهؤلاء أن عاشوا رعباً مماثلاً، ولم يكونوا يوماً أقلّ ثقة في جيشهم من هذه الأيام، فما حصل في غزة يتواصل على نحو معيّن في القدس، لا بل يتضاعف تأثيره بحكم التداخل الكبير بين المجتمعين الفلسطيني والصهيوني، وعدم إمكانية قيام الجيش بعمليات مماثلة لما يقوم به في غزّة.

المواجهة... إلى تصاعد

أثر غزّة يظهر الآن في القدس على نحو أوضح، فهنا ينفّذ الاحتلال سياساته من دون الحاجة إلى دفع ثمن سياسي كالذي يدفعه بعد كلّ عدوان على غزّة، أو عقب كلّ عملية استيطان في الضفّة. حتى الإدانات التي تأتي من دول صديقة لإسرائيل (تحديدا أوروبا التي يتوالى اعتراف حكوماتها وبرلماناتها «بالدولة الفلسطينية» الموعودة) تبقى شكلية ولا تؤثّر كثيراً في معادلات القوّة التي تميل باستمرار لمصلحة الاحتلال ومستوطنيه. لا يتغيّر شيء هنا مهما حصل في الخارج، وتبقى السياسات الاستعمارية منصبّة على تعديل الطبيعة الديموغرافية للأرض، عبر عمليات الضمّ والترحيل والإلحاق (تهجير عرب النقب وترحيلهم إلى مناطق أخرى وهدم المنازل بحجّة استملاكها في أحياء سلوان والشيخ جرّاح وتوسيع المستوطنات القائمة ومصادرة المزيد من الأراضي ومنع الناس من الوصول إلى حقولهم و...الخ). في السابق كان وجود «اليسار» الصهيوني في الحكم يسمح بإجراء تسويات في الكنيست والمحاكم والدوائر الحكومية الصهيونية، وبالتالي يتضرّر من نقل المعركة إلى الشارع، وإعطاء زمام المبادرة لما يسمّيهم بالراديكاليين الفلسطينيين. لم يعد ذلك ممكناً اليوم بوجود اليمين الفاشي الذي تحكمه إلى جانب العقيدة الصهيونية الصرفة المصلحة الآنية وحسابات الانتخابات المقبلة. والحال أنّ هذا «الوضوح الإيديولوجي» يبدو مناسباً لأهل القدس الذين ملّوا من تسويف اليسار الصهيوني وسياساته الاستعمارية المراوغة. الآن لديهم طرف يستثمر في الصدام وحده، ويظنّ أنه بذلك سينهي القضية، ويمنع الفلسطينيين من الالتفات لمصير القدس التي «تأكلها المستوطنات» يوماً بعد آخر.
في هذا السياق بالذات، تنشأ الظروف المؤاتية للعمليات الفردية ضدّ المستوطنين، وتكتسب مع الوقت طابعاً سياسياً، وهو تطوّر لا يعفي الأحزاب والفصائل الفلسطينية من مسؤوليتها عن حالة الاحتقان القائمة، ولا يعطيها صكّ براءة عن التقصير الذي أوصل القدس إلى ما وصلت إليه الآن من حصار وتهويد و...الخ. الخطوة التي أقدمت عليها الجبهة الشعبية أخيراً بتبني العملية الاستشهادية التي قام بها البطلان الشهيدان غسان وعديّ أبو جمل ليست بالقليلة، فهي تسمح باستمرار العمليات ضمن إطار سياسي، وتعطيها شرعية إضافية تضاف إلى شرعيتها المأخوذة من الغضب الشعبي العارم على الممارسات الصهيونية. حماس والجهاد أيضاً باركتا العملية، وهذا جيّد، ولكنه لا يكفي لحماية الأهالي في القدس من الهجمة المحمومة التي تتصاعد بين المستوطنين ضدّهم. الوضع الآن على شفا انفجار كبير، ولا تجب الاستكانة إلى الأوهام التي يعبّر عنها حراك النوّاب العرب في الكنيست الصهيوني (كانت إدانتهم للعملية وشجبهم لها أسوأ من المتوقّع، إذ إنهم لا يمثّلون المستوطنين في الكنيست ولا يدينون لهم بوجودهم داخله!)، فالعودة إلى ما قبل العمليات لم تعد ممكنة، وهذا يعني أنّ الوجهة السياسية ستتغيّر، وسيصبح القرار من الآن وصاعداً في يد الشارع الذي يقود المواجهات ويجبر الآخرين على اللحاق به. الغضب الذي يعبّر عنه هذا الأخير أكبر من قدرة المجتمع على احتماله، وهنا يأتي دور السياسيين والنشطاء الراديكاليين لتنظيم الغضب وحضّه على الذهاب في قنوات يمكن الاستفادة منها في المعركة القائمة ضدّ اليمين و«اليسار» الصهيونيين. الاثنان الآن شريكان في الحرب ضدّ الشعب الفلسطيني ولا يجب استثناء أحدهما من المواجهة، وإذا حصل ذلك بمعيّة الأحزاب العربية التي تتقاطع مع «اليسار» الصهيوني جزئياً فسيكون أفضل، لأنّ حصوله بدونها يعني أنّ الصدام لن يقتصر على الصهاينة، وسينتقل قريبا إليها. لا ننسى أنها تقوم بأدوار غير التمثيل السياسي للعرب والفلسطينيين في الداخل (على أهميته وحتميته في ظلّ انتفاء البدائل الأخرى)، فهي عبر وجودها هناك وفي هذا الظرف بالذات تعطي شرعية لوجود المستوطنين وممثّليهم من «اليسار» واليمين الصهيونيين. وبالمناسبة ، هذا «اليسار» الذي ليس له من اسمه شيء يعادي الفلسطينيين والعرب بالضبط مثلما يفعل اليمين، إن لم يكن أكثر.

خاتمة

المعركة الآن هي معركة الشعب بكامله في الداخل، وعدم الالتحاق بها أو التقصير في مواكبتها يعني ترك الناس تدفع ثمن الانتفاض ضدّ الصهاينة وحدها. وهذا سيؤثّر في بنية المجتمع الفلسطيني نفسه، وسيجعله منقسماًَ على ذاته في مواجهة لا تحتمل الانقسام أو الاجتهادات الخاصّة. بإمكان المعترضين على توسيع الصراع ليشمل أماكن العبادة اليهودية التعبير عن هواجسهم ، ولكن في إطار المواجهة نفسها وليس خارجها، فالتعبير عن الاختلاف خارج هذا الإطار يضعك في مواجهته، وعندها لن يعود بمقدورك الزعم أنك مع الشعب في معركته للحفاظ على وجوده وهويّته وكينونته. الاصطفاف مع الناس سيجذّر الصراع أكثر، ويمنع انزلاقه إلى مواجهات مكلفة (من قبيل استهداف اليهود كيهود وعدم التمييز كفاية بينهم وبين الصهاينة)، وهذا الكلام موجّه إلى فتح قبل سواها، لأنها الوحيدة التي تغرّد خارج السرب حالياً وتصطنع مواجهات جانبية ليس الآن هو أوانها. الخلاف اليوم إذا ما تصاعد لن يكون مع حماس أو الجهاد أو الجبهة الشعبية وإنما مع الكتلة الجماهيرية الكبيرة التي تنتفض ضدّ الصهاينة، وهذا إن لم تكن فتح تعلم كفيل بإنهاء أيّ فصيل سياسي مهما كان حجمه. دماء الشهداء لن ترحمكم أبداً إذا ما تقاعستم.
* كاتب سوري