كان محمّد علي مقلّد، على ما قيل، قياديّاً ومُنظّراً في الحزب الشيوعي اللبناني. وهذا وحده يجيب عن بعض الأسئلة عن الأزمة العميقة التي عانى ويعاني منها هذا الحزب. لا أناقش هنا في هذه المقالة إلا فكرة واحدة عن كارل ماركس ومفهوم الدولة ودورها. تدرك أن اليمين، في التاريخ المعاصر، شديد الامتنان ليساريّين سابقين، وكثير الاستعانة بهم، في حملاته الدعائيّة ضد اليسار. قد يكون قدري القلعجي أوّل من لعب هذا الدور، وتبعه كثيرون وكثيرات.

رفيق الحريري اجتذب وجنّد ـ بفعل سحر الشخصيّة فقط لا بفعل المال ـ فريقاً كبيراً من اليساريّين السابقين (معظمهم من «منظمّة العمل الشيوعي» لكن هناك بعضهم من «الحزب الشيوعي اللبناني»، وواحدهم يحتّل مقعداً في المكتب السياسي للتيّار الحريري العائلي).
لست مُحلّلاً نفسيّاً، لكن من اللافت أن هناك حالة قلق سياسي، لا بل نفسي، تعتري نفوس هؤلاء الذين يهجرون صفوف اليسار ويلجؤون إلى صفوف اليمين الرجعي. تجدهم يكرّسون طاقاتهم لمحاربة اليسار والفكر اليساري، مع أن اليسار حركة ضعيفة في العالم العربي. بمعنى آخر، لا ترى أن حجم اليسار في العالم العربي يستوجب هذه الجهد الدؤوب لمحاربته من قبل رفاق سابقين فيه. لكن السبب واضح: 1) هناك محاولة بائسة من اليساريّين السابقين لتسويغ انتقالهم من اليسار إلى أقصى اليمين الرجعي (النفطي أو الغازي أو الحريري). 2) أنظمة النفط والغاز التي ترعى كل اليساريّين السابقين وتستعين بهم في حملاتها الدعائيّة، لها حقد تاريخي مستمرّ ضد اليسار. ويصبح هجاء اليسار عندها جزءاً من تببيض الصفحة لإثبات الولاء. 3) يدرك اليساريّون السابقون، بحكم الجوار، أن رفاقهم السابقين يفهمون لعبتهم أكثر من غيرهم، ولهذا فهم مهووسون بالردّ ليس عليهم، بل على ما يدور في خلدهم (أي خلد رفاقهم السابقين الباقين في صف اليسار). 4) اليسار هدف سهل في العالم العربي لأن الحركة لا ظهير ولا سند إقليمياً أو عالمياً لها. «حيطها واطي»، كما يُقال بالعاميّة في المشرق. أما موضوع هذه المقالة فهو مُحدّد: هذا ما قاله محمّد علي مقلّد في مقالة في موقع «مدن (الملح)» بعنوان «محنة الديمقراطيّين مع اليساريّين» (وكلمة ديمقراطيّة في عرف ثقافة النفط والغاز ليست إلاّ ستاراً لليمين الرجعي):
«التشويه النظري بدأ من قراءة مغلوطة لفكرة شاعرية لدى ماركس قال فيها إن الانسان لن يعرف حرية طالما الدولة موجودة، وكان يناقش فيها أفكار هيغل الذي رأى أن الحرية هي ما سينتهي إليه التاريخ وأن التجسيد الفعلي للحرية هو الدولة، مدافعاً، يومذاك، عن قيام دولة الحق. فكرة ماركس تنتمي إلى حقل الفلسفة، وكذلك مصطلح الحرية نفسه. والفلسفة تعنى بالمنهج الذي يهتم بترتيب الأفكار أكثر من اهتمامه بالأفكار ذاتها. غير أن الورثة من الماركسيين ومنتحلي الصفة الماركسية مضوا بعيداً في انتزاع فكرة الحرية من الحيز الفلسفي إلى الحيز السياسي، من غير أي تعديل يناسب هذه النقلة، بحيث باتت الحرية، في نظرهم، مستحيلة بوجود الدولة، أي دولة «البرجوازية» بالضبط التي نشأت في حضن الحضارة الرأسمالية، دون سواها، وخصوصاً دون الدول «الوطنية والتقدمية»، وباتت مهمتهم الأساسية هي القضاء على هذه الدولة، لأنها دولة البرجوازية، واستبدالها بأخرى «تقدمية ووطنية واشتراكية»، لأن هذه الأخيرة، في نظرهم، لا تنطبق عليها فكرة ماركس الفلسفية، بل الشاعرية بجمالها».
تقرأ هذا المقطع وتجزم بأن الكاتب لم يبلغ في قراءة ماركس حتّى الكتيّبات الصغيرة التي كان تتضمّن شروحات ابتدائيّة عن الفكر المراكسي. تقرأ هذا المقطع وتتيقّن أن الكاتب يحتاج بصورة ماسّة إلى نسخة من الكتاب الاستهلالي المُصوّر، «ماركس للمبتدئين». يجهل مقلّد حتى فكرة ماركس عن الدولة في نقاش هيغل، ويجهل حتى ما قاله عن الدور الأخلاقي لها. ويبدأ مقلّد أطروحته باتهام اليساريّين ـ أي كل يساري رفض أن ينضوي في صفوف الحريريّة أو مرجعيّة النفط والغاز ـ بإسقاط فكر ماركس الفلسفي على فكرهم السياسي. يجهل مقلّد فكرة الـ«براكسيس» في المزاوجة بين النظريّة والحركة الثوريّة. هي الفكرة التي عبّر عنها ماركس نفسه في «أطروحات عن فيورباخ» (عام 1844) عندما كتب «الفلاسفة فسّروا العالم، فقط، وبطرق مختلفة، بينما الحاجة هي في تغييره». كيف يفوت مقلّد هذه الفكرة الأساس في فكر ماركس، التي فصلته عن التراث الفلسفي التقليدي؟ لا، كاد مقلّد في نظريّته المستجدّة أن يلوم اليساريّين لأن ماركس، في عرفه، كان يمزح، وما كان يجب أخذه على محمل الجدّ. هذا ما قاله مقلّد أعلاه. لا تأخذوا ماركس على محمل الجدّ في كتاباته الفلسفيّة. هذا هو مستوى نقاش الماركسيّة في إعلام الغاز والنفط. كيف يمكن لمن قرأ النزر اليسير من ماركس أن يكتب عن فصل بين الحيّز الفلسفي والحيّز السياسي، مع أن هذا ما ميّز ماركس عن الفلاسفة التقليديّين؟
يتخبّط مقلّد في فهم الخلاف بين ماركس وهيغل في موضوع الدولة، ولا يدرك أن ماركس (حتى فلسفيّاً، لأنه يجهل التلازم بين الفلسفة والسياسة في فكر ماركس) قبل فكرة المهمّة الأخلاقيّة للدولة مع أنه قطع باستحالة قيام الدولة الحقيقيّة (الراهنة) بهذه المهمّة. رفض ماركس أن يرى أن الدولة المعاصرة هي عقلانيّة. ويظنّ مقلّد أن فكرة الحريّة لم تكن تتعلّق بالدولة عند ماركس. يقول بول توماس، أستاذ الفكر السياسي في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، في هذا الإطار (في كتاب «كارل ماركس والفوضويّون»): «إن وهم الحريّة الذي تخلقه الدولة العصريّة ضروري، لأن الدولة لا تستطيع أن تحرّر الإنسان من الآثار الكارثيّة للوكالات الاجتماعيّة المُفترسة (الملكيّة الخاصّة والدين)» (ص. 69). لم يكن رفض الدولة من بنات أفكار خصوم مقلّد في 8 آذار، أو مَن لفّ لفّهم. حتى حقوق الإنسان، التي بات اليساريّون السابقون، القابعون في مواقع اليمين الرجعي في العالم العربي، يلهجون بحمدها، كانت هدفاً لسخرية ماركس: «لا يتعدّى (نطاق) حقوق الإنسان المفترضة الإنسان الأناني، الإنسان كما هو، عضوٌ في المجتمع المدني، أي فرد منعزل عن الجماعة، منسحب إلى نفسه، ومهتم بمصلحته الخاصّة بالكامل» («عن المسألة اليهوديّة»). ويضيف ماركس إن فكرة حق الحريّة «ليست إلاّ حق الملكيّة الخاصّة».
اليمين الرجعي السائد يريد أن يستخدم في حروبه يساريّين سابقين لمطواعيتهم الأيديولوجيّة

ينسى مقلّد أن الماركسيّة التقت مع الفوضويّة في العداء للدولة ولوظيفتها، وإن اختلف الطرفان في توصيف وتحديد الطريق إلى المجتمع الشيوعي غير الطبقي (أي في مسألة ضرورة أو شرّ إقامة دولة اشتراكيّة بروليتاريّة). قال دانيال غران: «الماركسيّة والفوضويّة شربا من نفس البئر البروليتارية» (في كتاب «الماركسيّة والفوضويّة»). وقد أفرد بول توماس (المذكور أعلاه) كتاباً عن «كارل ماركس والفوضويّون». إن النظرة إلى الدولة عند ماركس هي غير ما هي عند برودون، مثلاً، الذي تحدّث عن «السلطة المفرطة» للدولة، أو لآراء لاسال عن «الدولة الحرّة»، وكأن الدولة هي فريق محايد، أو خارج الصراع الطبقي الدائر في المجتمع.
وفي كتاب له جديد، حلّ عبد الكريم مروّة مشكلة الجوْر الرأسمالي ـ وهو ليس جوْراً في عرفه بل بعض التجاوزات التي تحلّها الدولة نفسها. أي إن الدولة في عرف مرّوة ومقلّد هي الطرف الذي يحلّ مشكلة عدم المساواة، لأن الدولة (على أن تكون حريريّة أو نفطيّة أو غازيّة، أي رأسماليّة بامتياز فاقع) هي محايدة ومُنصفة لا تنتمي إلى أي من الطبقات (راجع كتاب مروّة «نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي»). والكتاب (كما في كتاب محاورة مع طروحاته لحلمي شعراوي وعبد الغفار شكر صدر في القاهرة) يتضمّن تشويهاً فظيعاً للفكر الماركسي (الذي عرفه من خلال المعلّم ستالين الذي هدى ورعى فكر ولغة مجلّة «الطريق» العقيمة في سنواتها السوفياتيّة الستالينيّة) إذ إنه يعرّف الدولة بأنها «ناظم للمجتمع» وأن تعديل الدولة الرأسماليّة يصلح كي تكون معبّرة عن مصالح الطبقات الكادحة (على أن تكون الدولة برئاسة أمثال فؤاد السنيورة، مثلاً). كيف تناقش مَن يجهل ألف باء الماركسيّة؟ ليس الأمر سهلاً، ويتطلّب الكثير من الصبر والأناة. لا بل إن عبد الكريم مروّة يرفض «رفض الدولة الرأسماليّة». هذا هو يسار اليمين.
وبعيداً عن مروّة ومقلّد وأحمد الحريري، لنعد إلى المعلّم ماركس. إن قدرة الدولة على «اللعب الحرّ»، أي النشاط المستقلّ لأي دولة في المجتمع المعاصر، محدودة جداً (راجع كتاب «بول توماس»، ص. 78). لكن ماركس حسم الأمر بالتمام في «الأيدلوجيا الألمانيّة» (عام 1846) عندما كتب: «إن السلطة السياسيّة ليست إلاّ القوّة المنظمّة لطبقة في قمعها لطبقة أخرى» و«السلطة التنفيذيّة للدولة الحديثة ليست إلاّ لجنة لإدارة الشؤون المشتركة لعامّة البورجوازيّة». هل عصي كلام ماركس الواضح على فهم يمينيّ اليوم؟ أين الالتباس في هذا؟
كذلك فإن المطالبة بإنشاء دولة اشتراكيّة عند ماركس وإنجلز هي من أجل قهر الطبقة البورجوازيّة من قبل الطبقة الاشتراكيّة بعد القضاء على النظام الرأسمالي. في «البيان الشيوعي» يرد: «السلطة السياسيّة، والاسم دقيق، ليست إلاّ أداة بيد طبقة لقمع طبقة أخرى». وهناك فروقات أو تطوير في فكر ماركس عن الدولة، وهو يقول في «الحرب الأهليّة في فرنسا» (عام 1871) إن الدولة «ترتدي أكثر فأكثر طابع السلطة الوطنيّة لرأس المال ضد العمل... ومُحرّك الاستبداد الطبقي». هذه التي يريدها مقلّد ومروّة «ناظمة» للعلاقة السلميّة بين الطبقات. ويضيف ماركس في المرجع نفسه أن «تحرير الطبقة العاملة لا يمكن أن يتحقّق من دون تدمير آلة سلطة الدولة التي خلقتها الطبقة الحاكمة». لكن الدولة حبيبة لمحمّد علي مقلّد وعبد الكريم مروّة، فماذا تفعل؟
كذلك فإن الفكرة الماركسيّة بالقضاء على الدولة لم تكن فقط حكراً على ماركس وإنجلز، بل هي وردت في واحد من أهم كتب لينين، أي «الدولة والثورة». والالتقاء بين الفكر الماركسي والفكر اللينيني كان متمثّلاً في فكرة النظر إلى الدولة كمُنظّم لفرض قهر الطبقة البورجوازيّة ضد الطبقات الكادحة. لكن الفكر الماركسي والفوضوي افترقا في مسائل أخرى، منها دور الحزب القائد، وحول ما إذا كان هناك ضرورة في مرحلة اشتراكيّة انتقاليّة لإنشاء دولة اشتراكيّة للقضاء على البورجوازيّة والتمهيد للمجتمع الشيوعي. كان لينين أبعد ما يكون في فكره عن الفكر الفوضوي، وحتى عن الفكر الماركسي في كتاب «ما العمل» (عام 1902) والذي تضمّن تحقيراً بالطبقة العاملة وفشلها في بلورة الوعي الطبقي من دون تلقيمها من قبل الحزب الطليعي القائد ونخبته. لكن لينين اقترب من التلاقي الماركسي ـ الفوضوي في كتاب «الدولة والثورة» (عام 1917) عندما استشهد بفكرة «اضمحلال الدولة» وإقامة المجتمع الشيوعي.
لكن فكرة «اضمحلال الدولة» التي غيّبتها بالتدريج «الماركسيّة السوفياتيّة»، والتسمية الأخيرة لهربرت ماركوزه، (حاول أن تعثر على المصطلح في أعداد مجلّة «الطريق» القديمة أو في جريدة «النداء» مثلاً)، نُسبت خطأً إلى لينين، بينما هي من اجتراح إنجلز (غيّبت الماركسيّة ـ اللينينيّة ـ البكداشيّة ـ الحاويّة دور إنجلز الذي لم يرق الراعي السوفياتي). فإنجلز ذكر الفكرة في كتاب «ضدّ دوهرنغ» إذ يقول: «إن تدخّل سلطة الدولة في العلاقات الاجتماعيّة يصبح نافلاً في حيّز تلو الآخر، إلى أن يتوقّف (عن الوجود) من تلقاء نفسه. وحكومة الأشخاص تُستبدل بإدارة الأشياء وتوجيه مسيرات الإنتاج. لا تُلغى الدولة بل هي تضمحلّ». (القسم الثالث، الفصل الثاني). وفي كتاب «أصل العائلة والملكيّة الخاصّة والدولة» يقول إنجلز: «إن المجتمع الذي ينظّم الإنتاج من جديد على أساس تعاضد حرّ ومتساو بين المنتجين سيضع آليّة الدولة برمّتها في مكان تستحقّه: متحف الآثار، إلى جانب دولاب الغزْل والفأس البرونزي» (الفصل الرابع).
ولا يترك إنجلز مجالاً للشك في دور الدولة، إذ يقول في المرجع السابق: «إن الدولة، كقاعدة، هي دولة الطبقة الأكثر قوّة وسيطرة اقتصاديّاً، والتي تصبح ـ بحكم وسيطة الدولة ـ الطبقة الأكثر نفوذاً سياسيّاً». وكيف تفوت مقلّد أو مروّة فكرة البنية التحتيّة والبنية الفوقيّة في نمط الإنتاج الرأسمالي حيث تكمن الدولة والكنيسة والمعرفة جزءاً (أساساً) من البنية الفوقيّة (بصرف النظر عن الآراء الماركسيّة المستجدّة، من بنيويّة وغيرها). (يسمح التحليل الماركسي الأصلي ـ مثل كتاب إنجلز «أصل العائلة» في إشارة تاريخيّة إلى الدولة في القرنيْن السابع عشر والثامن عشر ـ بفروقات بين حالة وأخرى في الزمان والمكان من دون الانتقاص من الدور الوظيفي الطبقي للدولة). ويقول ماركس عن ذلك في «مقدّمة لمساهمة في نقد الاقتصاد السياسي» ما يأتي: «إن نمط الإنتاج في العالم المادّي هو الذي يقرّر الطابع العام للمسيرة السياسيّة والاجتماعيّة والروحيّة للحياة». ويصف إنجلز الدولة في كتاب «الاشتراكيّة الطوباويّة والعلميّة» بـ«الممثّل الرسمي للمجتمع الرأسمالي».
لكن ماركس يردّ وبعنف على «الهراء التاريخي» للاسال (وبالتالي لمروّة ومقلّد) في كتاب «نقد برنامج غوته»، وينتقد فكرة لاسال عن أن الدولة هي كيان مستقلّ وليست أداة قهر طبقي. يقول ماركس في ردّه: «السؤال يبرز إذن: ما هو التغيير الذي ستخضع له الدولة في المجتمع الشيوعي؟ بكلام آخر، ما هي الوظائف الاجتماعيّة التي ستبقى موجودة والتي يمكن أن تكون موازية لوظائف الدولة الحاليّة؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا علميّاً... وبين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تكمن مرحلة التحوّل الثوري من الأوّل إلى الثاني. ومصاحبةً لهذه تكون حقبة الانتقال حيث لا تكون الدولة إلا ديكتاتوريّة البروليتاريا الثوريّة». لكن الثنائي مقلّد ومروّة لا يريدانها إلا حريريّة.
أما عن بعض الاختلاف الجدلي الذي ورد في فكر ماركس عن الدولة ودورها، فظهر في الردّ على تجربة كومونة باريس. فقد كتب في «الحرب الأهليّة في فرنسا» أن «الطبقة العاملة لا تستطيع أن تمسك بآليّة الدولة الجاهزة، وأن تستخدمها لغاياتها هي». وهذا التصحيح في فكرة تحقيق الاشتراكيّة طوّر ما ورد في «البيان الشيوعي» وهو يجسّد فكرة «تحطيم الدولة» الرأسماليّة من أساسها. أما إنجلز فقد عبّر عن فكر كارل ماركس في «رسالة ببل» في عام 1875، عندما كتب أن «على الاشتراكيّين استبدال الدولة بـ«جيماينسفسن» (أو الجماعة)».
إن نظريّة الدولة في الفكر الماركسي هي فكرة الأداة. إن وظيفة الدولة هي في فرض الهرميّة الطبقيّة، أو في هي «أداة في يد الطبقة الحاكمة لفرض وضمان استقرار البنيان الطبقي نفسه» (بول سويزي، «نظريّة التنمية الرأسماليّة»، ص. 243). وهناك فصل في التراث الماركسي بين الدولة التاريخيّة ونموذج الدولة الحديثة التي هي، كما يقول إنجلز في «ضد دوهرنغ»: «بصرف النظر عن أشكالها، في الأساس آليّة رأسماليّة، هي دولة الرأسماليّين، أو الشخصنة المثاليّة لمجمل الرأسمال الوطني». وهذه النظريّة عن الدولة تفترق وإن قليلاً عن نظريّة الأداة الطبقيّة، لكن في كلا الحالتيْن هي لا تنتمي ولا بدرجة أو أقلّ إلى فكرة مقلّد أو مروّة عن الدولة الرأسماليّة الحديثة، التي زادت دلائل وبراهين وظيفتها كأداة، خصوصاً في ظل استخدام الطبقة الوسطى كمعين في استقرار الدولة، أي إن قهر الدولة الطبقي بات يخدع أكثر من طبقة واحدة مضطهدة.
تطوّرت فكرة أو نظريّة الدولة في الفكر الماركسي، بما فيه كتابات ماركس الأولى (في نقده لهيغل حيث رأى أن وظيفة الدولة هي لـ«إعادة إنتاج حرب الفرد ضد الجميع في المجتمع المدني»). والكتابات الماركسيّة بعد ماركس لم تذهب منحى مقلّد أو مروّة في اللوذ بالدولة لحلّ مشاكل المجتمع، أو من أجل الحدّ من الرأسماليّة وفق النظريّة الأخيرة لعبد الكريم مروّة. على العكس، كانت الكتابات الماركسيّة بعد ماركس تتحدّث بجزع عن إمكانيّة تبلور قوّة خاصّة غير مستقلّة عن مصالح الطبقة الحاكمة، لكن ذات قدرات وسلطات أقوى مما كانت عليه في تاريخه. كذلك فإن الإسهام الغرامشي في هذا المجال هو في التحذير من خطر الدولة، ليس فقط في جهازه القمعي العسكري فقط، بل في تشكيله للوعي المُهيمن من خلال تشريع السيطرة في جسم المجتمع المدني. وهذه الفكرة تؤدّي إلى تغيير في مهمات الأحزاب الشيوعيّة. لم تُكتب نظريّة ماركسيّة خاصّة بالدولة في المجتمع العربي. لكن أي إسهام في هذا الموضوع يجب أن يأخذ في حسبانه السمات الخاصة بسيطرة الدولة في المجتمع العربي. هي، على العكس مما يوحي مقلّد ومروّة، فاقدة للاستقلاليّة الوظيفيّة أكثر من دول رأسماليّة أخرى، لأنها تعتمد في سيطرتها على 1) الدعم العسكري و(أو) المالي من قبل دول الغرب الرأسماليّة. 2) كون الدولة الرأسماليّة الحديثة في العالم العربي خاضعة بدورها للدور الوظيفي الإقليمي والعالمي لدول الخليج. 3) التركّز المكثّف لرأس المال المُحتكر في كل قطر عربي، وارتباط هذا الرأسمال بمصالح الدول الغربيّة. لم تكن الدولة الحريريّة تقوم بمهمات محليّة خاصّة بالمجتمع اللبناني أو المجتمع المدني، على النسق الهيغلي. بل كانت تقوم بدور وظيفي لحكومات الخليج وحكومات الغرب وحروبها. إن محاكمة «البنك العربي» في نيويورك وارتهان البنك الذليل للمعايير السياسيّة الإسرائيليّة في دفاعه عن مصالحه (وتنصّل البنك عبر محاميه من أي تمويل لـ«الإرهاب») يبطل للمرّة المليون وهم نظريّة «الرأسماليّة الوطنيّة» (التي صدّرتها لنا «الماركسيّة السوفياتيّة»، التي رفضها مبكراً سمير أمين الذي فضّل مفهوم «الرأسماليّة الكومبرادوريّة» لأنها تابعة ومرتبطة).
ليس اليسار في أفضل حال في العالم العربي. اليمين يهيمن على الثقافة السياسيّة وعلى السلطة السياسيّة. لكن اليمين الرجعي السائد يريد أن يروّج لنظريّة «ما بعد صراع الطبقات»، ويستخدم في حروبه يساريّين سابقين لمطواعيتهم الأيديولوجيّة. لهم ان يشنّوا حملاتهم ودفاعهم عن مواقعهم الحاليّة، لكن حري بهم ترك الفكر الماركسي وشأنه. وفي الوقت الذي تشهد فيه أفكار ماركس تجدّداً وانتعاشاً في عواصم الغرب الرأسمالي، يستعير يساريّون سابقون أدوات الدعاية اليمينيّة في الغرب من أيّام الحرب الباردة لتسديد حسابات بائدة. لكن تحتاج تلك المهمّة إلى بعض من الاطلاع على أمهات الكتب الماركسيّة، لا على المجموعات الكاملة لخطب أمراء وشيوخ النفط والغاز.
ملاحظة: إن الترجمات عن ماركس وإنجلز الواردة في هذه المقالة هي لي.
* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت:angryarab.blogspot.com)