استشهد الإمام الحسين مجاهداً، مظلوماً، عطشاً، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، طالباً للإصلاح. وكان ذلك في سنة 61 للهجرة، لا التاريخ ضعَّف الذكرى، ولا الصحراء القاحلة منعت تحديد الموقع وتعظيمه، ولا المخطط الأموي «اليزيدي» حقق مراده ورغباته بطمس معالم الفاجعة. بقي الإمام الحسين، وبقيت عاشوراء علماً خفاقاً، تشرئب لها الأعناق، ولا تزال قبلة الثائرين والأحرار في العالم، وهذا الكلام ليس مديحاً، والإمام الحسين فوق المديح، وليس كلاماً عاطفياً، بل هو كلام يستمدّ قوته من الواقع الذي يفرض نفسه بقوة الحقيقة، كالشمس في رابعة النهار.
وبعد، فإنّ مقال الباحث والأستاذ الحوزوي، علي عباس، المحترم جذبني لقراءته، وجعلني ناقداً، وأنا لست على دراية بذلك، لكني أحاول هنا أن أناقش مغالطاتٍ وردت في بعض كلمات المقال المذكور.
بدايةً، كلام الباحث، العزيز، عن أننا نعيش في مجتمعات لا تحترم النقد، ولا تمارسه، ربّما الأولى به أن يكون وجهة نظر، لا أظنه موفقاً بها، على اعتبار أن المجتمع العربي معروف بردّ الفعل على كلّ شيء. أما الحديث عن أن (الحسين المصلح) بات مقتل (الحسين المظلوم) فلا أرى تعارضاً بين المصلح، القتيل المظلوم، إلا إذا كان ذلك تبرئة للظالمين. وكلمة «قتيل»، هو (سلام الله عليه) يقول: «شاء الله أن يراني قتيلاً ويراهنّ سبايا».
أمّا قولك، أيها الباحث والأستاذ الحوزوي: «هذه الضربة الكبرى لمشروع الإمام الحسين الذي أطلقه عبر التاريخ»، لو كان له قوّة لما كانت الذكرى تكبر عاماً بعد عام. كذلك إنّ حديثك عن العباس، بعد إخضاع الرواية لعملياتك الحسابية، التي تفيد بأنّ «العباس قتل ألف رجل، ويحتاج الأمر إلى خمسمئة دقيقة، بينما المعركة استمرّت لساعتين»، فالجواب عليه يكون، أنّ العرب يستعملون بعض المفردات بالتعبير المجازي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، الكثرة يعبَّر عنها بالسبعين، والعظمة بالألف، والروايات المجمع عليها تقول: إنّ «الإمام علي بن أبي طالب في معركة الخندق ضرب عمرو، الذي كان يعدّ بألف فارس، وأرداه صريعاً» لم تحتج ضربته إلى خمسمئة دقيقة، كما تقول الرواية: «إنّ الإمام كان يصلّي في اليوم ألف ركعة» بالتأكيد لم يكن المقصود بذلك هو العدد. وبحسب موازينك فإنّنا نحتاج إلى مصطلحات جديدة.
ليتك خرجت على مرتكبي المحرمات بنفس الحدّة والشدة اللتين حملتهما على خطباء المنبر

أما بشأن توهين المحبين الباكين بعبارة «الجمهور غارق بدموعه، ويبدو أن لا فسحة للتأمل في ما يطرح من أفكار، والإنسان عندئذ بفقد موضوعيته»، فلا نظنّ أنّ النبي يعقوب ببكائه فقد موضوعيته، ولا الإمام زين العابدين الذي طال بكاؤه على الإمام الحسين فقد موضوعيته، ولا بكاء الزهراء على أبيها رسول الله أضعف موضوعيتها. وهنا نذكر قولاً للإمام الصادق حيث قال: «ما سمعتموه عنّا أهل البيت فاعرضوه على كتاب الله إذا كان موافقاً فخذوه، وإذا كان مخالفاً فارموا به عرض الجدار»، لم يقل (سلام الله عليه) اعرضوه على أنفسكم، إلا إذا جعلت نفسك، أيها الباحث والأستاذ الحوزوي، عدل القرآن.
أما وصف ليلى، أمّ علي الأكبر بالمشهد «السينمائي، ومراهقة علمية» فهذا موضوع تاريخي محض، والرواية التي نقلتها عن الشهيد مطهري، صححها العالم والمحقق الحجة السيد جعفر مرتضى العاملي.
وبشأن ذكرك لقصة القاسم ابن الإمام المجتبى، وقضية عقد الزواج على سكينة، تنفيذاً لوصية الإمام الحسن، فلا أجد مانعاً عقلياً ولا شرعياً، حيث «لا تكليف بغير المقدور» وما حصل كان مقدور عليه.
وبالوصول إلى حديثك بأنّ «بعض القراء يقدمون الإمام الحسين وكأنه خارق للطبيعة»، فحكماً الإمام الحسين لا يقاس بك، ولا بغيرك، حيث قال الإمام الصادق: «إنا أهل بيتِ لا يقاس بنا أحد».
كذلك إنّ وصفك بعض القراء «أصحاب محبة طائشة وأصحاب سذاجة وضحالة وعي»، فلا نظنّ أنّ من يوفّق بحبّ الحسين تليق به هذه الأوصاف، كما لا تليق بباحث وأستاذ حوزوي، مثل هذه العبارات. وفي ما يخصّ الشعائر التي وصفتها بأن «بعضها موضة تتماشى مع الابتكارات الجديدة، وأن القيادات العلمية ضعيفة أمام تيار الشارع»، فاعلم أنّ القيادات العلميّة لا يتحكم فيها الاستفزاز والمزاج، وإلا لم تعد قيادات علمية، والقيادات الواعية، ميزانها إمام المذهب، حيث إذا سأله أحد الأصحاب عن كلام الناس قال: «إيّاك أن تكون كالإمّعة هكذا قال الناس، وأنا واحد من الناس»، وإذا ذهبنا معك أنّ «الدين لله بكلّه، نتاجُ العقل والعلم» فماذا لو عرضت قصة ذبح إبراهيم الخليل لابنه إسماعيل (عليهما السلام) على عقلك وفكرك؟ وما رأيك بنبينا يعقوب الذي ابيضّت عيناه من بكائه على يوسف؟ وكيف يتقبل فكرك، النيّر، قصّة أهل الكهف، الذين ماتوا مئة عام ونيّف ثمّ أحياهم الله؟
واذا كان «التطبير والمشي على الجمر وبعض الشعائر» بحسب قولك ظاهرة همجية، فهل يعالج الأمر بأسلوبك المتهتك؟
ومرّة أخرى تعود للتركيز على القيادات الدينية، على أنها «أضعف من مواجهة بعض الطقوس الجديدة، غير المنضبطة، وعلى أنها تخاف فقدان شعبيتها»، نقول هنا: إنّ
القيادات الدينية، والمرجعية بالخصوص، إن سكتت على شيء فهو مباح وإلا وجب عليها التحريم، تصريحاً لا تلميحاً.
وأمّا الحديث عن أن الحسين ليس شيعياً، فنؤيدك الرأي، لكن ما ذنبنا إذا لم يتصدّ غير الشيعة لإحياء واقعة الطف، مع أن المنابر الشيعية مفتوحة لكل الفئات الدينية على اختلافها.
وبقولك: «إن الإمام الحسين خرج لطلب الإصلاح»، فيا ليتك خرجت على مرتكبي المحرمات بنفس الحدّة والشدة اللتين حملتهما على خطباء المنبر.
بما أن واجبك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فثمّة سؤال يطرح نفسه: هل ستتجرأ على السافرات، وتاركي الصلاة، وتاركي فريضة الحج، وعلى المفطرين في شهر
رمضان بمقال مشابه؟
وفي الختام نقول: إنّ مدرسة التشكيك بدأت منذ أن كانت واقعة الطفّ، ولها أربابها في كلّ زمان. لكنّها اندثرت وتلاشت، وطمست أسماء أصحابها، وبقي الحسين، وبقيت كربلاء تشبه الشمس بإشراقتها. ذات مرّة سئل أحد القيادات الدينية: إن في المسيرات العاشورائية فتيات سافرات يمشين هل نمنعهن؟ وهناك مسيحيون في صور طبروا هل نمنعهم؟ وهناك رجل لا يشرب ولا يأكل في اليوم العاشر مواساة للامام الحسين (ع) هل نمنعه؟ فأجاب: «لا يستطيعن أحدٌ منع أحدٍ من حبّ الحسين».
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا وإيّاك.
* طالب في الحوزة الدينية