بقي سيناريو السّقوط المدوِّي لـ «الاخوان المسلمين» في مصر هاجساً يؤرِّق «حركة النهضة الإسلامية» في تونس، ويَحكُم تكتيكاتها السياسيّة منذ صيف 2013، وبالتحديد منذ اغتيال الشهيد محمّد البراهمي (وهو الاغتيال السياسي الثاني خلال 6 أشهر، بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 6 شباط 2013). وجدت «حركة النهضة» نفسها محاصرة بالاحتجاجات الشعبيّة في قرى ومدن عدّة، نظراً لعجزها عن حلّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعيّة المتفاقمة، وإحساس الناس بأنّ حكم الإسلاميين يهدِّد النمط المجتمعي، والمكاسب التي حققها الشعب التونسي عبر سنوات من النضال والخطوات التحديثية المهمّة التي سبقت الاستعمار، خلافاً لكثير من الدول العربية والإسلامية.
تكثّف هذا الرفض الشعبي والسياسي لحكم الإسلاميين في اعتصام الرحيل، في تموز 2013، فانطلق الحوار الوطني برعاية الرباعي (الاتحاد العام التونسي للشغل، منظمة الأعراف، عمادة المحامين، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان) وانتهى إلى استقالة حكومة الترويكا، بقيادة «حركة النهضة» وتشكيل حكومة «تكنوقراط» برئاسة مهدي جمعة.
من هذا المنظور، فقد كان السياق الذي أدّى إلى استقالة حكومة علي العريض، يتميّز بالظروف التالية:
ـ إقليميّاً: الانتفاضة الشعبيّة في مصر ضد «الأخوان المسلمين» وإزاحتهم عن الحكم ومحاصرتهم من قبل الجيش.
ـ داخليّاً: اغتيال الشهيد محمد البراهمي، أحد رموز التيار القومي في تونس، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات ضدّ حكومة التّرويكا، ومكوّنها الرئيس «حركة النهضة الإسلامية» واتهامها، من قبل القوى السياسية، وأغلب منظمات «المجتمع المدني» والجماهير الشّعبيّة بالتورّط في الهجمات الإرهابية ضدّ المؤسسة الأمنية والعسكرية، وفي الاغتيالات السياسية.
وبذلك وجدت «حركة النهضة» نفسها أمام خيارين، الأوّل أن تتوخّى سياسة الهروب إلى الأمام، فيكون مصيرها مصير حركة «الأخوان المسلمين» في مصر، والثاني أن تقدِّم مضطرَّة، تنازلات تمتصّ من خلالها الصدمات المتتالية، وتُجنّبها السقوط المدوي. اختارت «حركة النهضة» الخيار الثاني، ونجحت نسبياً في الخروج من تلك الأزمة بأخفّ الأضرار، وراح راشد الغنوشي يجوب العواصم الأوروبية ليُسَوِّق، لصنّاع القرار فيها، أنّ تلك الخطوة (أي استقالة حكومة الترويكا) تندرج في إطار مراعاة الإسلاميين لمصلحة البلاد، ولم ينفكّ يتبرّأ أمام التونسيين من أيِّ علاقة للحركة بالتنظيم العالمي لـ «الإخوان المسلمين». ولتعزيز هذا التوجه، والتشديد على الاختلافات بين حركة «الأخوان المسلمين» في مصر ـ التي استأثرت بكل السلطات التشريعية (مجلس النواب) والتنفيذية (رئاسة الجمهورية) ـ و«حركة النهضة» في تونس، قرَّرت «الحركة» عدم الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية.
كان أداء المرزوقي، كرئيس للجمهورية، خلال الثلاث سنوات الماضية كارثيّاً


لكنَّ نتائج الانتخابات التشريعية، في 26/10/2014، وضعت «حركة النهضة» في مأزق جديد، إذ احتلت «حركة نداء تونس» المركز الأول الذي يُخوِّلها تشكيل الحكومة المقبلة، وتراجعت «حركة النهضة» للمركز الثاني، بالمقارنة مع انتخابات المجلس التأسيسي في 2011. خلطت إذاً هذه النتائج، والمشهد السياسي الجديد، أوراق «حركة النهضة» كافّة، فمن ناحية مُنِي حليفاها في الحكم بهزيمة قاسية، حيث اندثر حزب «التكتل» برئاسة مصطفى بن جعفر، وحزب «المؤتمر من أجل الجمهورية» برئاسة المنصف المرزوقي، وكلاهما مرشّحان لرئاسة الجمهورية، ومن ناحية أخرى لم تعد معنيّة بتشكيل الحكومة المقبلة، فصارت بذلك مهددة بفقدان رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية. في ضوء هذه المستجدات انعقد مجلس شورى «حركة النهضة» لاتخاذ موقف رسمي من الانتخابات الرئاسية، ودعم أحد المرشحين، بخاصّة بعد تعلُّق أغلبهم بصنّارة «حركة النهضة» وتحوّلهم لمتسولين على أبوابها. وجدت قيادة الحركة وأعضاء مجلس الشورى أنفسهم بين مطرقة دعم أحد حلفائها، الذين أصبح فوزهم صعباً، بالنظر لما حققوه من نتائج مخيبة لآمالهم في الانتخابات التشريعية، وسندان الدخول في تصادم مع رئيس الجمهورية القادم في صورة فوز أحد المرشحين الذي لم تدعمه «حركة النهضة». من هذه الزاوية قرّر مجلس الشورى ترك حرية الاختيار لقواعد الحركة، ذلك أنّ كل الطرق أصبحت ملغّمة بالنسبة لها، ولم يعد هناك تكتيك أو طريق مضمون. لكنَّ الذين يدورون في فلك الإسلام السياسي، من جمعيات وأحزاب ومنظمات وقواعد، يبدو أنّ قلوبهم تخفق للرئيس الحالي، المرشح المنصف المرزوقي. إنَّ الموقف الرسمي، المعلن، هو الحياد، لكن التوجّه العام لتحركاتها وأنصارها، هو التصويت ودعم المنصف المرزوقي، وهو ما جعل منها مناورة أخرى من «حركة النهضة» التي تعيش عزلة شعبية متصاعدة، وخسارات سياسية متتالية. كان أداء الرجل، كرئيس للجمهورية، خلال الثلاث سنوات الماضية كارثيّاً، فهو الذي أشرف على تنظيم مؤتمر «أصدقاء سوريا» الداعم للإرهاب، وهو الذي دخل في لعبة المحاور في المنطقة، مصطفاً إلى جانب قطر، وهو الذي ساهم في توتير العلاقات المصرية التونسية، والعلاقات التونسية الجزائرية، وهو الذي أعلن دعمه للإسلاميين في ليبيا. كما عبث المنصف المرزوقي بالتعيينات في المؤسسة العسكرية، وساهم في ارتباك أدائها في مواجهة الإرهاب. وقد وصل به الحد إلى استقباله، في قصر قرطاج، ميليشيات «رابطات حماية الثورة» المتورطة في العنف ضد بعض الأحزاب، وضد المعطلين (أحداث 9 أبريل 2012) وضد الاتحاد العام التونسي للشغل (أحداث 4 ديسمبر 2012) واستقبال بعض مشايخ السلفيّة، حتى أنَّ الشيخ الوهابي البشير بن حسين يعلن صراحة دعمه للمنصف المرزوقي، ويدعو للتصويت له.
وفي المقابل، فإن «حركة نداء تونس» ـ بعد أن تبين لها، من خلال نتائج الانتخابات التشريعية، أنّ المنافسة إذا انحصرت بينهم وبين الإسلاميين فإن إمكانية فوزهم كبيرة ـ تعمل جاهدة على التركيز، في حملتها الانتخابية، على أن المنصف المرزوقي هو مرشّح «حركة النهضة» الغير معلن، والتذكير بأخطائه السابقة، مع تجنّب دخول في مناقشات وتجاذبات مع منافسين يمكن أن يمثلوا تهديداً جدياً لمرشحها «الباجي قائد السبسي» (صاحب الـ 88 سنة وصاحب التاريخ الأسود على رأس وزارة الداخلية في ستينيات القرن الماضي ورئيس برلمان بن علي) إذا ما تمّ التركيز عليهم. بعبارة أخرى لا تريد «حركة نداء تونس» أن تكون سبباً في خلق مارِدٍ يصعب السيطرة عليه إذا استيقظ. ويلعب الإعلام، وشبكات التواصل الاجتماعي دوراً مشبوهاً في خلق وتنمية هذا الاستقطاب، الذي يخدم مصلحة المرشحين كليهما (الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي). يدرك جيداً اليمين الليبيرالي، ممثّلاً في «نداء تونس» واليمين الديني ممثّلاً في «حركة النهضة» ـ بالرغم ممّا بينهما من تنافس ظاهر ـ أنَّ وجود أحدهما يمثل شرطاً لاستمرار الآخر.
إنَّ إعادة هيكلة مؤسسات الدولة في تونس (رئاسة الجمهورية، الحكومة، البرلمان، الإدارة، الجيش...) التي نخرتها العمالة والفساد والبيروقراطية، بما يحوِّلُها من أداة بيد الطبقات الحاكمة لأداة في خدمة الشعب، يتطلّب نضالاً شاقاً، فيه تكامل بين العمل من داخل هذه المؤسسات، ومن خارجها، حتى يحصل التغيير النوعي المنشود في طبيعة جهاز الدولة وفي فاعليتها. ولتحقيق ذلك لا بدّ من كسر الاستقطاب بين اليمينَيْن اللذين أصبحا يحكمان الحياة السياسيّة التونسية في كل محطة مهمّة، ومنها الانتخابات الرئاسية.
* كاتب تونسي