إثر حرب الخليج الثانية، عام 1994، نشر الناشط الراديكالي الفرنسي رينيه برتييه كتاباً عن الأزمة تحت عنوان "الغرب والحرب ضدّ العرب". في معرض شرحه لموقع الخليج في النظام المالي العالمي، لفت برتييه الى أن الكويت، في أواسط الثمانينيات، قد تحوّلت الى دولةٍ ريعيةٍ مكتملة، إذ تجاوز مردود الصندوق السيادي، الذي يحفظ الفوائض المالية من بيع النفط، عوائد النفط نفسها. بمعنى آخر، فاق "الرّيع من الرّيع" المصدر الأصلي للدّخل، وأصبح بالإمكان تخيّل نظام كهذا يستمرّ ويموّل نفسه، من غير الحاجة الى انتاجٍ وعمل، الى الأبد. بالطّبع، حتّى قبل أن تحلّ حرب الخليج وتُصرف أكثر أرصدة الصندوق، تعرّضت الإستثمارات الكويتية في الخارج ـــــ في أواخر الثمانينيات ـــــ الى عدّة نكسات، وفضائح اختلاس، واستثمارات خاسرة قلّصت قيمتها الى حدٍّ كبير.
حلم هذه الدولة الريعية "الصافية" هو ما عبّر عنه الأمير السعودي محمد بن سلمان، في عرضه لرؤيته "الإصلاحية" للإقتصاد السعودي، خلال مقابلته الأخيرة مع "بلومبرغ". خطّة بن سلمان تتلخّص، باختصار، في بيع أكثر الأصول العامّة المنتجة في السّعودية، وعلى رأسها "أرامكو" وصناعات البتركيمياويات والمعادن، وتسييلها في صندوقٍ سياديّ هائل، يقول بن سلمان إن قيمته ستزيد على التريليوني دولار، واستثمار هذه الأرصدة في مجالات متعدّدة حول العالم، تعتاش الخزينة من عوائدها وأرباحها، فتكون المملكة قد أنهت اعتمادها المزمن على النفط! نقل الإعتمادية من مصدرٍ ريعيّ الى مصدرٍ ريعيّ آخر يشير الى أن الأمير، ومن حوله، لم يستوعبوا الأمثولة الحقيقية خلف هدف "الإستقلال عن النفط"؛ ولكنّ جذور الموضوع قد تكون أعمق من ذلك.
بدايةً، هناك مشكلتان في منطق الأمير، أوّلهما أنّه لا يفهم تماماً، على ما يبدو، أنّ تحويل أملاك الدولة الى شركات مساهمة يعني أنّك تبيع هذه الأصول وتحوّلها، الى الأبد، الى ملكية في يد مستثمرين محليين أو أجانب تعود اليهم أرباحها وعوائدها. يمعنى آخر، أنت هنا لا تنتج شيئاً جديداً، بل تستبدل أصولاً وطنية، مادية، منتجة، بأرصدةٍ مالية؛ وتأخذ قراراً بالتخلي النهائي عن ملكية النفط وأراضي الدولة والشركات، التي تعود ــــ نظرياً ــــ الى الشعب السعودي. ولن تستفيد الدولة مستقبلاًً من أرباحها أو نموّها. ثانياً، تقديرات الأمير، التي بنى عليها خطته، قد تكون بعيدة جداً عن الواقع؛ ولو باعت الدولة السعودية كلّ ما تملك، ورهنت نفطها وانتاجه، فهي لن تحصل على تريليوني دولار أو على مبلغٍ قريبٍ من ذلك. و"التقديرات" التي تنشرها المجلات الغربية حول القيمة المفترضة لـ "أرامكو"، وهي تقوم على حجم احتياطاتها النفطية، ما هي الا لتسلية القرّاء ولا تعني أنها ستتحقّق في سوق الأسهم. هناك لعبةٌ تتكرّر مؤخراً كلما استضافت مجلّة عالمية كبرى الأمير السعودي في مقابلة، فتؤمن له الدعاية المطلوبة، وتقدّم خطّته الى العالم في أفضل ضوء ممكن، وتبقي النقد في حدوده الدنيا، حتّى لو احتوى كلامه على تناقضات فاضحة. "بلومبرغ"، مثلاً، لم تتحدّ الأمير في أيّ من ادّعاءاته خلال المقابلة ــــ ومثلها الـ "ايكونوميست" قبل أشهر ــــ واكتفت، حول موضوع "ارامكو"، بإشارة مهذّبة، في مقالٍ منفصل، الى أنّ أرقام الأمير قد تكون بعيدة عن الواقع، وأنّ المعادلة بين حجم احتياطات الشركة وقيمتها السوقية ليست اوتوماتيكية أو مطلقة، وأنّ شركةً كـ "روزنفت" الروسية، تضخّ خمسة ملايين برميل يومياً، أي نصف انتاج "ارامكو"، لا تزيد قيمتها السوقية على الخمسين مليار دولار (بينما "شيفرون" العالمية، وانتاجها أقلّ من "روزنفت" بكثير، تساوي أسهمها 180 مليار دولار).
غير أنّ المشكلة الأكبر هي أنّ بن سلمان، طوال حديثه "الإقتصادي" عن "رؤية المملكة العربية السعودية" وعن "خطة تحوّل وطنية"، لم يكن يتحدّث فعلياً عن الإقتصاد، بل يتكلّم بلغة رجل أعمالٍ يمتلك شركة، وينظر الى حساب العوائد والأرباح والإستثمارات. هذه العقلية الميركانتيلية (أي التي تقوم على حسابات ربحية وتجارية، وعلى تكديس الفوائض بدلاً من الإنتاج) هي ما يتبقى حين لا يعود الإقتصاد سياسياً، وهي ــــ كما يبدو ــــ اللغة الوحيدة التي يعرفها بن سلمان ومستشاروه. "نحن نبحث عن الربحية"، قال الأمير حين سئل عن مصير الأرصدة في هذا الصندوق الوطني، "سنسعى خلف الربحية سواء كان (الإستثمار) داخل السعودية أم خارجها". قد يكون هذا الكلام منطقياً في حالة شركة عابرة للدول تريد تنويع مصادر دخلها، ولكن إخراج الثروة الوطنية من البلد، واستثمارها في الخارج بحثاً عن عوائد أكبر، ليست طريقاً لبناء اقتصاد وطني (النروج، مثلاً، لا تحتفظ بأرصدتها الفائضة خارج البلاد بحثاً عن "أرباح"، بل لأنّها تريد ــــ قصداً ــــ إبقاء هذه الكتلة المالية خارجاً حتّى لا تضرب توازن الإقتصاد المنتج في الداخل، وتهيمن عليه، وتضخّم الأجور وتمنع التنافسية؛ ولكن السعودية هي في مكانٍ مختلفٍ تماما).
في النظرية الكلاسيكية عن "الدولة الريعية"، يسمح الريع النفطي للحكومات بإخراج السياسة من الإقتصاد؛ فالدولة مستقلة مالياً عن الرعية، ولا تحتاج ضرائب، وتسيّر الإقتصاد ــــ باستقلالية وبلا تفاوض مع أحد ــــ عبر توزيع الريع. هذا النمط التوزيعي في السعودية، مع أنه وفّر هيمنة مطلقة للنظام الحاكم واستقراراً سياسياً واجتماعياً، وسمح لفئةٍ محظوظة بتكديس ثرواتٍ خيالية، الّا أنّه لا يؤدي الى بناء اقتصادٍ حقيقي، يشغّل الناس وينتج القيمة، وهو سيصل حكماً الى نقطة حرجة ــــ يكفي أنّ مصدر الريع هو، غالباً، ثابت، فيما عدد السكان يتزايد. تصريحات محمد بن سلمان هي دليلٌ على أن الفريق الحاكم ما زال يفكّر بعقلية التاجر ولا يفهم أن بناء اقتصاد وطني، ونظام انتاج، ونظام لإدارة قوة العمل هي، كلّها، مهام سياسية في العمق، ولا يمكن تجنّبها عبر تغيير مصادر الريع أو تنويعها. مهما يكن، فإن محمّد بن سلمان لا يعرف أنّه، تحت شعار "الإصلاح"، يكرّر مسلك دولٍ عديدة في الشرق وجدت نفسها، خلال القرن التاسع عشر، في مأزقٍ اقتصادي ــــ من السلطنة العثمانية الى ايران القاجارية ومصر وغيرها ــــ فانكفأت عن محاولة مجاراة الغرب ومنافسته، وبدأت ببيع أصولها ورهن مواردها ومنح امتيازاتٍ للأجانب مقابل دفعات مالية تنقذها من الإفلاس، أو تسمح لحكّامٍ مبذرين بتمويل برامج "أوربة" غير واقعية. محمّد بن سلمان، اذ يعلن نيته بيع نفط بلاده لتمويل خططٍ رسمها له مستشارون أجانب، قد يكون سائراً على الطريق نفسه بينما مصالح الغرب الكبرى، ومعها الإعلام، تشجعه وتهلل له.