هناك مصطلح بلغات إجنبيّة (من اشتقاق يوناني) لعاشق الكتب: يسمّونه «بيبليوفيل». وهناك عبارة إنكليزيّة، «دودة الكتب»، لوصف من يلتهم الكتب، في مضمونها، التهاماً. أناتول فرانس كان واحداً من هؤلاء (كلّما أذكر اسم فرانس أتذكّر يوسف إبراهيم يزبك، الذي تأثّر به كثيراً في نسق شيوعيّته الرومنسيّة التي لم تعمّر). كتب فرانس أنّ «المعرفة الدقيقة الوحيدة هي معرفة نوعيّة وتاريخ نشر الكتب». (كان ولد فرانس يملك مكتبة متخصّصة في كتب عن الثورة الفرنسيّة).
ومَن أحبَّ الكتاب أكثر من عبده مرتضى الحسيني الذي جمع على مدى عمر كامل مكتبة ضخمة لا تضاهيها المكتبات الشخصيّة والتي تستحق ان تصبح مكتبة وطنيّة (وبسعر أقلّ من نفقات محكمة الحريري المُضجرة التي تتكفّل بها الدولة بأمانة لا عهد لنا بها). والناقد الأدبي والتر بنجامين كتب عن جمع الكتب في مجموعته «إشراقات». بنجامين على حق: إن لكل كتاب في مكتبة جامع الكتب حكاية وحيّزاً من ذاكرة شخصيّة. هناك كتب ذات قيمة خاصّة خصوصاً إذا كان الحصول عليها مضنياً جدّاً (كان حصولي على النسخة الباريسيّة من كتاب «الساق على الساق» لأحمد فارس الشدياق من أجمل لحظات سيرتي في جمع الكتب، كما كان بيعي له مُكرهاً، لفكّ ضائقة ماليّة بعد سنوات من اقتنائي، لحظة مؤلمة للغاية). لا تتساوى الكتب في مكتبة جامع الكتب. عشق الكتب سيرة حياة عند البعض. كيف يروي من جمع في سنوات عمره ما ينيف عن 20000 كتاب، مع ان الرقم هو تقديري لصعوبة العدّ الدقيق، ولأن الجمع لا يتوقّف. أدين في عشق الكتب إلى أخي الراحل ماهر، الذي زرع في أخوته حبّ الكتب والأدب العربي في سن مُبكّرة جدّاً. كان يعود إلى المنزل من المدرسة محمّلاً حقيبته من مكتبة المدرسة ما لا طاقة للحقيبة الجلديّة على حمله. كانت حقيبته تتفتّق. وحبّ الحرف العربي في الصغر (أو غيره بعده)، لا يمكن إلا أن يزداد في الكبر.
من مزايا القراءة الرقميّة سدّ الفروقات بين الطبقات في قراءة الكتب

أذكر أوّل كتاب كان له بالغ التأثير في السنوات الابتدائيّة. كتاب المجموعة الكاملة لجبران خليل جبران كان بداية رحلة مع اللغة العربيّة. لا أعتقد انه سبق الكتاب في العربيّة كتاب «مجموعة كاملة» لمؤلّف قبله. كان سهل الحمل ويشتمل على كلّ (أو معظم) ما كتب جبران بالعربيّة (وكان هناك كتاب آخر مُعرّب لمجموعة جبران عن الإنكليزيّة، وقد عرّبها أرشمندريت أفقد سحر لغة جبران كلّ ما لديها في لغتيْن). وكتاب جبران يفتح آفاقاً لعالم أكبر يبدأ بـ«الرابطة القلميّة» في أميركا، ويتصل إلى «العصبة الأندلسيّة» قبل أن يحطّ رحاله في العالم العربي. وعالم ميخائيل نعيمه وكتاباته الغزيرة متصلة هنا، لكن نعيمة كان أكثر تأثّراً بالأدب الروسي والكتابات الهنديّة من تأثّره بالأدب العربي، أو هكذا أرادنا ان نصدّق.
إن عشق الكتب ترعرع فيَّ في «مكتبة رأس بيروت»، في شارع «بلس». وأنا ممتن جدّاً للموظّف «أسعد» في المكتبة الذي كان يسمح لي بافتراش الأرض في الغرفة الداخليّة للمكتبة كي أمعن في القراءة والتصفّح ولمس الكتب بأصابعي. فاجأني «أسعد» قبل سنوات عندما زرت المكتبة وتذكّرني ولداً في أرجائها. كنت أعجب كم كانت تحتوي رفوفها من كتب، وكانت تدهشني بجديدها في كل زيارة. أتساءل هذه الأيّام والكتب تملأ رفوف كل أنحاء منزلي وغرفه، بما فيه المرآب، إذا كنت متأثّراً بنقل معالم إعجاب وتأثير من سنوات الصغر من تلك المكتبة بالذات. هل أنا عزمتُ على منافسة مكتبة «رأس بيروت» في اقتناء مجموعة من الكتب تفوق ما رأيته على رفوفها الكثيرة؟ هل أحشر الكتب حشراً على طريقتها؟ لا أدري، لكن رُبّ منافسة نافعة.
أتذكّر كم أن الكتاب كان عندي عربيّاً أو لا يكون. الكتاب بلغة أجنبيّة كان عندي كتاباً مدرسيّاً، ليس أكثر. أعجب اليوم ان نسبة الكتب في مكتبتي باللغة الإنكليزيّة تفوق نسبة الكتب باللغة العربيّة. لم تكن الكتب الإنكليزيّة تعي لي شيئاً قبل سنوات التخصّص الجامعي. تتراكم الكتب بعد ان تنسى كيف ومتى بدأت العمليّة. قد أعلمني حدسي أنني سأهوس في جمع الكتب في سنوات المدرسة الابتدائيّة. في الصف الرابع ابتدائي بدأت بلصق طابع خاص على أغلفة الكتب لتصنيفها في مكتبتي الصغيرة جدّاً آنذاك (ولقد كان تصنيفي عشوائيّاً، قلدتُ فيه تصنيف «ديوي» المُعتمد في المكتبات حول العالم - وتصنيف ديوي ولد في أواخر القرن التاسع عشر، وخضع للكثير من التعديلات والإضافات عبر السنين). لا تزال أولى كتب مكتبتي («هتاف الأودوية» و«كرم على درب» و«همس الجفون» و«المراحل» تحمل طابع التصنيف الاعتباطي الذي اعتمدته).
هناك كتب علامات فارقة في حياة القارئ وجامع الكتب. أذكر عندما عادت شقيقتي ميرفت، بالأجزاء الأربعة لـ«ألف ليلة وليلة» من مكتبة مدرستها. حثّتي على قراءتها وأذكر ان الكتاب أخذني إلى عالم سحري لم يُدخلني كتاب إليه مذّاك (كم تبدو أفلام «ديزني» المسروقة من حبكات «الف ليلة وليلة» مُضجرة ومائعة بالمقارنة). وكتاب ألف ليلة وليلة لا يستحقّ أن يُقرأ إلا بالنسخة التي حقّقها محسن مهدي، والذي جال دول آسيا وأفريقيا باحثاً عن أقدم مخطوطات الكتاب، وقارن بينها ودرس شجرة عائلتها قبل ان ينشر أقدم نسخة موجودة للكتاب. كما أذكر كتاب «سبعون» البديع (هل كُتبت سيرة بالعربيّة أفضل منه؟ لا أعتقد ذلك) الذي نالته شقيقتي في جائزة تفوّق في اللغة العربيّة. كتاب «سبعون» يشفي غليل المهتم بأدب جبران ونعيمة معاً، كما أنه يعلّم فن الصناعة الأدبيّة للكتاب. قد يكون هذا أفضل كتب نعيمة، مع أنه كان يفضّل «كتاب مرداد» الذي أراده ان يخلّده كما خلّد «النبي» اسم جبران في الغرب (وقد ترجمه نعيمة بنفسه إلى الإنلكيزيّة في لغة تتمتّع بما تتتصف به لغة الفرمانات الحكوميّة من أدب رفيع، وقد جاء الكتاب تقليد لكتاب قلّد كتاباً آخر).
لكن تجميع الكتب في سنوات الصبا شيء، وتجميعه في سنوات التخصّص الأكاديمي في الولايات المتحدة شيء مختلف كليّاً. تكتشف حقول وموارد في المعرفة لم تكن تعرفها من قبل، وبتركيز تخصّصك يزداد تخصّص المكتبة فتفتح فيها فروعاً (ومن دون تنظيمها). وفي أميركا، خصوصاً في مدن شرقها القديمة، هناك مكتبات تتخصّص في بيع الكتب المُستعملة، وبعضها يحوي كتباً عربيّة مُهملة. ولو أردت مكتبة تتخصّص في الكتب عن الاتحاد السوفياتي وكتب «دار التقدّم» فهناك كان مكتبة وإن بدت لي في أوّل زيارة وكأنها تُدار من قبل جهاز استخباراتي أميركي. وهناك مكتبة للكتب الفارسيّة أيضاً، أما المكتبات التي تتخصّص في الكتب العربيّة فهي لا تعمّر طويلاً ربّما لأن محال بيع الحلويّات العربيّة تدرّ أرباحاً أكبر.
وتضخّمت مكتبتي وأصبح هوس تجميع الكتب يفوق كل شيء اخر. ولا يقارب لذّة الكتب إلا لمس الكتب العربيّة القديمة في المكتبات الجامعيّة العريقة (مثل «برنستون» و«هارفرد» و«بنسلفانيا» و«نيويورك» و«كولومبيا» و«يل» و«شيكاغو»). وما تحويه مكتبة جامعة «هارفرد» من الكتب العربيّة لا تنافسه إلا مجموعة «مكتبة الكونغرس» التي لا مثيل لها وإن كان لا يُسمح للزائر بالتجوال بين رفوف الكتب (وكذلك الأمر في جامعة «هارفرد» إلا لمَن كانت له صفة مرتبطة بالجامعة). مرّة لقيت صدفة الأستاذ في جامعة «هارفرد»، محسن مهدي (أستاذ الفلسفة الإسلاميّة)، حيث تعرّفت عليه للمرّة الأولى. قلتُ له: لاحظ كيف أن قسم الكتب العربيّة فارغ من الزوّار بينما يعجّ قسم اللغة العبريّة بالزائرين. قال إن ذلك مرتبط بشروط وظروف الدخول إلى الجامعة.
ومرّة دخلت مكتب مدير لمكتبة جامعيّة معروفة. قلتُ له: لديكم كم هائل من الكتب العربيّة، ولا يبدو أن أحداً يستعملها. هل يمكنني شراؤها؟ كنتُ أتوقّع منه ان يطردني من مكتبه، لكنه قبِل بعد تردّد شريطة أن يبقى الأمر سرّاً بيننا. صناديق كبيرة من الكتب حمّلتها، مقابل بضعة دولارات لكل كتاب (وبعضها نفيس، وإن كان صاحبنا المدير لا يعلم بذلك). وقد شكرتُه في منشورات لي من دون أن أذكر اسمه. جرّبت الأمر في مكتبات جامعيّة أخرى، لكن قوبلت بالرفض والاستغراب من الطلب الغريب. وهناك صديقة كانت تعمل في واحدة من مراكز الأبحاث المعروفة في مدينة واشنطن، وهي لعلمها بولعي بتجميع الكتب، سمحت لي بتحميل ما أرغب من الكتب العربيّة النفيسة جدّاً، مقابل «حفنة من الدورات» كما تقول ترجمة لفيلم من الستينيات لكلينت إيستوود.
النشوة الكبيرة في مسيرة اقتناء الكتب تكمن عندي في اقتناء الكتب العربيّة القديمة الصادرة في القرن التاسع عشر، خصوصاً تلك المنشورة من «المطبعة الكاثوليكيّة» و«المطبعة الأدبيّة» في بيروت. هناك مطبعة «بولاق» لكن حرفها لم يكن أنيقاً وورقها كان رديئاً بالمقارنة. تغيّرت طباعة الكتاب في العالم العربي. محسن مهدي له نظريّة في ذلك: قال إن طباعة الكتاب أصبحت رديئة في العالم العربي بعد تحقيق الاشتراكيّة في مصر. قلتُ له: وما علاقة عبد الناصر في الأمر، وطباعة الكتاب قد تدهورت في لبنان ودول أخرى. على العكس، إن لعبد الناصر فضلاً كبيراً في نشر ما يُسمّى بـ«كتب الجيب»، أي نشر الثقافة والأدب والسياسة في كتب صغيرة ورخيصة الثمن كي تكون بمتناول الناس. قبل ذلك، كانت طباعة الكتب للنخبة فقط. ما همّ لو عانى الإصدار الفنّي للكتاب إذا أصبح في متناول نسبة أكبر من النّاس، خصوصاً أن التعليم المجّاني زاد من نسبة المتعلّمين بنسب كبيرة جدّاً (تلك كانت واحدة من الإنجازات العظيمة للعهد الناصري).
ولم أعلم أن من فوائد التعليم الجامعي الأميركي أنك تستطيع ان تطلب لـ«المراجعة الأكاديميّة» أي كتاب أكاديمي (أو حتى أدبي) من معظم دور النشر، خصوصاً تلك الأكاديميّة وبالمجّان. وهكذا بدأت مكتبتي بالتوسّع والتضخّم الهائل. وكلّما تنشر مراجعات نقديّة لكتب، كلّما تلقيت المزيد من الكتب من دور النشر، ومن دون أن تطلبها. كأن المكتبة بدأت تتوالد مثل الفئران. لكن بتُ أتساءل إذا كانت هواية اقتناء وقراءة الكتب خاصّة بالأثرياء لأن منزلي الصغير ما عاد يتسع لمزيد من الكتب: من أين لي أن أقتني منزلاً منيفاً كي يتسع لكتبي؟ لكن هذه المشكلة العويصة تزامنت مع العصر الرقمي. الكتب باتت متاحة رقميّاً.
لا أخفي أنني أصبت في البداية بامتعاض شديد. كيف تقرأ كتاباً إلكترونيّاً من دون أن تلمس صفحاته؟ كيف تقرأ كتاباً لا تستطيع ان تشم صفحاته، ولا تحكم على تجليده؟ وكيف تستمرّ القراءة الدؤوبة للروايات الطويلة والمجموعات الكاملة وثلاثيّات الأدب في عصر الرقميّة؟ عمدتُ في السنوات الماضية إلى سؤال التلاميذ هنا عن عدد الذين لم يكملوا قراءة كتاب واحد على مرّ السنوات. أكثر من النصف يرفعون أيديهم والعدد في اضطراد. بات جيل الإنترنت متعوّداً على قراءة عناوين وملخّصات. قل (وقولي) هي آفة «ويكيبيديا» وتلخيص التلخيص (لو أنهم في العالم العربي يدرون أن «ويكيبيديا» ليست مرجعاً موثوقاً).
لكنني بدأت بالقراءة الرقميّة على متن الطائرات. كنتُ لا أسافر إلا مصطحباً مجلّدات كبيرة من الكتب، خصوصاً في الرحلات الطويلة. جذبتي فكرة الحمل الخفيف لعدد كبير من الكتب في متن لوح إلكتروني. وبدأت بخوض عالم القراءة الإلكترونيّة وتجميع الكتب فيها. اكشتفتُ ان شركة غوغل، مثلاً، تقوم بنسخ إلكتروني (بي. دي. إف) لكلّ ما نُشر من كتب حول العالم وبكلّ اللغات (ويعتمدون في ذلك على مكتبات جامعيّة في عدد من البلدان). توصّل هذا النسخ إلى بدايات القرن العشرين، والتحميل مجّاني (مجّاني بمعيار القانون الأميركي، لأن التحميل في لبنان لا يستقيم إلا مجانيّاً). لكن النسخ الإلكتروني سيتعرّض لمشاكل قانونيّة جمّة عندما يصل إلى الكتب المنشورة في القرن المنصرم لأن حقوق الملكيّة ستتضارب مع المشروع الـ«غوغلي». ويستطيع المرء على برنامج «غوغل» للقراءة («غوغل بلاي») مثلاً ان يقرأ كتاب أحمد فارس الشدياق، «الساق على الساق» بطبعة باريس عام 1855. ودقّة أو حدّة الوضوح في التصوير تزداد مع تحديث الشاشات والأجهزة، وتكاد تشعر انك تمسك بالكتاب (في طبعته القديمة) بين يديك. لكنك لا تستطيع ان ترى الصفحات وهي تقلب، أو تميّز بين النصف المقروء من الكتاب الجديد وبين النصف غير المقروء من خلال النظر إليه (في سماكة صفحاته). كما أنك لن تستطيع ان تشمّ رائحة القرن التاسع عشر من خلال نظرك إلى كتب اليازجي أو البستاني. لكن التحوّل ليس بالصعوبة التي تخيّلتها.
هناك مزايا عدة للقراءة الرقميّة والتخلّي عن اقتناء الكتب. يمكن ان تتحوّل المكتبات إلى حاويات للكتب المطبوعة، ويمكن ان تُحفظ في أماكن محفوظة الحرارة كي تعمّر طويلاً، وتخدم في عمليّة النقل إلى النشر الإلكتروني. كما ان أسعار الكتب تزاد ارتفاعاً، وقرصنة الكتب من الفنون الماهرة للشباب العربي. لكن يجب التفاهم مع شباب وفنّاني القرصنة على معايير معيّنة، وهذا يصدر عن رجل يكنّ كل الإعجاب والتقدير للمقرصنين والمقرصنات العرب الذي يحاربون فرض معايير وتسعير الشركات العملاقة التي تريد ان تجعل من البرامج والكتب الرقميّة حكراً لأولاد الأثرياء. يجب الحرص على نقل أمين للكتب رقميّاً. هالني قبل أسابيع على الطائرة وأنا أصل إلى ختام كتاب عبد الوهاب المسيري عن «الإيديولوجيّة الصهيونيّة» ان المُقرصن (أو المُقرصنة) أهمل نقل صفحات المراجع والبيبليوغرافيا. هذا لا يجوز، ويجب أيضاً ان تجرى مراجعة دقيقة لكل عمليّة قرصنة لكلّ كتاب. هناك أحياناً كتب قام فيها ناقل بنسيان عدد من الصفحات. إن هذه الكتب ستُخلّد وسيتم تناقلها عبر السنين ويجب ان تكون حاملة لكل ما ورد بين دفتيْ الكتاب. (من غرائب الجهل الغربي ومنظمات الأمم المتحدة بشؤوننا أن تقارير الأمم المتحدة عن «النموّ الإنساني» تولول دوريّاً عن العدد القليل من الكتب المُباعة في العالم العربي، لا بل إن وقاحة منظمّات الأمم المتحدة تصدر أحكاماً عن نسب قراءة الكتب، وكأن عادة القراءة في بلادنا هي فرديّة - كما في الغرب - مع ان الكتاب يتمّ تناقله بين أفراد العائلة الكبيرة وبين الجيران والأقارب والعقارب. كما ان منظمّات الأمم المتحدة تجهل ان الجيل الجديد من الشباب العربي تعوّد على قراءة الكتب المُقرصنة عن الإنترنت).
ومن المزايا الأخرى للقراءة الرقميّة سدّ الفروقات بين الطبقات في قراءة الكتب، حيث لا يتوجّب بعد الآن إنفاق الأموال على شراء الكتب لدى أولاد وأبناء وبنات الطبقات الفقيرة. والعهد الناصري ولّى وليس هناك من يحاول تعميم ظاهرة كتاب الجيب المدعوم من قبل الحكومة، ودول الغرب تضغط على حكومات العرب لإلغاء الدعم عن الرغيف، فما بالك بدعم الكتاب الذي قد يتضمّن ما لا توافق عليه حكومات الغرب؟ والقراءة الرقميّة تحمي البيئة من القطع المُستمرّ للأشجار، هذا للذين واللواتي يحرصون على البيئة (مثل نقولا فتّوش). والقراءة الرقميّة سهلة الحمل والتنقّل: كان العالمون من العرب القدامى يحملون على ظهور نياقهم مجلّدات مخطوطات «الأغاني» وغيره من نفائس الكتب. لكن برامج القراءة العربيّة ومجموعات الكتب لا تزال بدائيّة لا بل متخلّفّة. قد يكون موقع «الورّاق» من أفضل ما لدينا من مواقع للقراءة المجّانيّة لكتب التراث لكن الموقع (والبرامج الملحقة به في الهواتف ذات الذكاء وفي الألواح الإلكترونيّة) يحتاج إلى تطوير وإعادة تصميم، خصوصاً للحرف وأشكاله وللحفظ وتسهيل قلب الصفحات. ليس تطوير القراءة الإلكترونيّة من أولويّات حكومات ومنظمّات العرب، كما أن الدول والمنظمّات الغربيّة لا تشجّع على صناعات وطنيّة لأنها تريد من دول العرب فتح فروع فقط لشركات غربيّة متعدّدة الجنسيّة، في كل المجالات بما فيها المشروبات الغازيّة.
ليس أكيداً أن الجاحظ مات بعد أن وقعت عليه كتبه فقتلته. هناك نظريّة ان الكتاب كان على صدره عندما مات فاختلط الأمر على الناس بعد ذلك لشدّة حبّه للكتاب (وكان قد تجاوز التسعين من العمر). لكن لو أن لوحاً إلكترونيّاً كان بمتناول الجاحظ، لما كان قد أصابه بجرح، حتى ولو وقع عليه أكثر من مرّة.
* كاتب عربي
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)