يتعرّض المشرق العربي لعدوان أميركي وخارجي عليه، يهدف إلى ضرب دوله الوطنية وتفتيته. كتب باحثون غربيون خلال السنوات الماضية إسهامات رمت لفضح العدوان. أتاح جهد الأكاديمي البريطاني ريموند هينبوش استعادة مفاهيم وأفكار جرى تجاهلها خلال العقود الماضية، وتذكيرنا بالأساسيات التي تصلّب الموقف المقاوم.

الولايات المتحدة كدولة مسيطرة

استعاد الكاتب هينبوش في مقالاته بشأن العلاقات الدولية وموقع الشرق الأوسط فيها، الصادرة خلال فترة 2006-2014، مفاهيم وأفكار مدارس رئيسية أربعة، هي الواقعية (realist) والليبرالية (liberal) والبنائية (constructivist) والبنيوية (structuralist)، وعرّف جملة من المفاهيم الأساسية، من مثل الدولة المسيطرة (hegemon) والتراتبية (hierarchy).
الولايات المتحدة هي الدولة المسيطرة منذ الحرب العالمية الثانية بعد أن سبقتها إلى ذلك بريطانيا منذ التاسع عشر. تتفق كل المدارس على وجود الدولة المسيطرة، وتختلف على ماهية الدور الذي تضطلع به، وهل هو سلبي أم إيجابي (هينبوش، 2006 ب: 283). في النظريتين الواقعية والليبرالية، الدولة المسيطرة أمر إيجابي في العلاقات الدولية، لأنها توفر «خدمة عامة» يحتاجها الكلّ. تركز المدرسة الليبرالية على دورها في توفير العملة المعتمدة في التبادل الدولي، وفي جعل التعاون ممكناً بين دول العالم. وتركز الواقعية على دورها في حماية النظام الدولي، من خلال التصدي لدول قد تلجأ بمفردها لمبادرات تزعزع استقرار هذا النظام. تجد هذه الأفكار والمواقف موقعاً لها في «نظرية الإستقرار النابع من السيطرة» (hegemonic stability theory) التي تسوّقها المدرسة الواقعية (هينبوش، 2006 أ: 455).
تمارس الدولة المسيطرة دورها هذا استجابة منها لرغبة دول العالم في أن تمارسه، أي بشيء من العزوف والتأفّف. وهي في تعاملها مع الآخرين تريد الخير لهم (benign hegemony). كما أنها لا تتحرّك إلا تجسيداً لإرادة الغالبية، ومن ضمن المؤسسات الدولية، أي الأمم المتحدة بالتحديد، ووفقاً لما يمليه القانون الدولي.
تزايد القائلون بأن الولايات المتحدة أصبحت إمبراطورية تقوم على القهر

تصدى الباحثون من داخل المدرسة الواقعية ومن خارجها، خصوصاً المنتمون منهم إلى التيار البنيوي لهذا التقريظ لدور الدولة المسيطرة. وجد كراسنر أن تدخلها يحصل ضد أحد أهم أسس النظام العالمي الذي أرساه مؤتمر وستفاليا عام 1648، أي مبدأ سيادة الدول على أراضيها. وقد مهّد لهذا الافتئات على سيادة الدول تسامح المجتمع الدولي مع الانتهاكات لها التي أوجبتها الأعراف الجديدة، وأهمها موجبات «التدخل لأسباب إنسانية» (المصدر نفسه: 460).
ورأى آخرون أن القاعدة هي أن الدولة المسيطرة تنزع إلى زيادة سيطرتها وليس الحد منها، وأن ما يردعها هو وجود حالة «توازن للقوى» (balance of power). أي إن «توازن القوى» كعامل تعكسه بنية النظام الدولي (systemic) هو ما يحول دون عدوانية الدولة المسيطرة على من هم أضعف منها (المصدر نفسه: 456).
كيف مارست الولايات المتحدة دورها كدولة مسيطرة خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة؟ انتقل العالم من نظام الثنائية القطبية إلى نظام الآحادية القطبية (unipolarity)، وإلى تفرّد الولايات المتحدة بقيادة العالم (unilateralism). وقد تعاطت هذه الأخيرة مع دورها هذا بوصفها قوة مسيطرة شريرة (malign)، أي قادرة على التسبّب بأذى يطاول الكلّ، يتجاوز «الخدمة العامة» التي تؤديها (المصدر نفسه: 461).
أشار هينبوش إلى تزايد القائلين بأن الولايات المتحدة أصبحت إمبراطورية تقوم على القهر (coercitive empire). واستعاد موقف شالمرز جونسون الذي قال إن هذه الإمبراطورية لا تحتاج إلى أن يكون لها كيان رسمي، وأن قوامها هو النخب والدول المستزلِمة لها على المستوى الدولي، وقواعدها العسكرية المنتشرة في العالم، وقدرتها على السيطرة العسكرية على المناطق التي تصنّفها على أنها استراتيجية (المصدر نفسه: 457).

الحرب على العراق وما أثبتته

أعطت الحرب على العراق دليلاً على هذا التعريف لدور الولايات المتحدة. لم تعد هناك روادع كان يفرضها نظام الثنائية القطبية، ولم ترَ الولايات المتحدة نفسها معنية بأخذ موافقة القوى العظمى الأخرى على ما تقوم به. وافقتها في مشروعها دول كبرى كبريطانيا واليابان، ومانعت أخرى كفرنسا والمانيا، ولم تؤثر في قرارها ممانعة روسيا والصين، ومشت دول العالم الأقل شأناً وراءها إما خوفاً أو طمعاً بمكاسب. اتخذت دول محدودة صغيرة موقفاً في مجلس الأمن مناوئاً للحرب، منها الكاميرون وغينيا وغيرهما (المصدر نفسه: 454). ووقفت سوريا في نهاية المطاف مع دول قليلة في مواجهة الولايات المتحدة. وقد نفّذت هذه الأخيرة عدوانها على العراق رغم تصويت الهيئة العامة للأمم المتحدة ضد الحرب. ذكّر هينبوش بتجربة «عصبة الأمم» التي عبّد عجزها عن منع القوى العظمى من الاعتداء على الدول الضعيفة الطريق إلى الحرب العالمية الثانية.
أظهرت الحرب على العراق خطل التنظير الذي تقدمه النظرية الليبرالية من أن التدخل الخارجي للدولة المسيطرة يحكمه القانون الدولي ويفترض موافقة المؤسسات الدولية. استطاعت الولايات المتحدة أن تفعل ما تريد، من دون أن يثنيها أي رادع. ورأى البنيويون أن ذلك يعكس حالة سيطرة جماعية لدول الغرب أو المركز (collective hegemony) (المصدر نفسه: 460).
ما الذي برّر هذا العدوان؟ أرجع هينبوش والمدرسة البنيوية عدوانية الولايات المتحدة الخارجية، وعدوانها على العراق، إلى دور السياسة الداخلية، أي وجود أطراف داخلية لها مصلحة في الحرب، عبّر عنها فريق المحافظين المحيط ببوش الابن. عكس فريق المحافظين هذا مصالح الشركات الكبرى في قطاعي النفط وإنتاج الأسلحة، ووجود تيار إيديولوجي ديني محافظ يأخذ بسياسة الهوية، أي يستخدم الانتماء الديني لاستقطاب الجمهور، يمثله صهاينة ومسيحيون أصوليون. وهو تيار لا يقتصر وجوده على النخب بل يتمتع بقاعدة جماهيرية واسعة، ويعتقد أفراده أن احتلال إسرائيل لأرض فلسطين هو شرط عودة المسيح المنتظَر (هينبوش، 2006 ب: 298). وقد تأثر فريق المحافظين المحيط ببوش بمنطق حزب الليكود الإسرائيلي، وعكس في ذلك حالة «أسرلة (israelization) للسياسة الخارجية لأميركا» (هينبوش، 2006 أ: 453). المهزلة أن نتنياهو المتطرّف رفض شاكراً المشروع الذي أعدّه بعض أطراف هذا الفريق لإعادة صوغ الشرق الأوسط وفق إرادة الولايات المتحدة كدولة مسيطرة، وإسرائيل كدولة مسيطرة إقليمية، لأنه بدا مشروع مواجهة شاملة مع كل الشرق الأوسط وشعوبه (هينبوش، 2006 ب: 312). عكست السياسة الخارجية الأميركية بالتالي، ليس المصالح الوطنية الأميركية بالضبط، وإنما مصالح قوى الضغط وجماعات المصالح التي استطاعت تجيير قوة أميركا لتحقيق مصالحها الخاصة.
أوضح كراسنر واقع الولايات المتحدة، حيث المجال العام مطواعاًَ، يسمح باحتلاله من قبل قوى الضغط وجماعات المصالح وتجيير سلطة الدولة لها. وبدا العدوان على العراق حرباً لا تمليها ظروف أمنية قاهرة (security dilemma)، كما هو تبرير الحرب في النظرية الواقعية، وإنما «حرب نظام بعينه» (war of regime)، أملتها المصالح الخاصة التي احتلت موقع القرار وجيّرته لمصلحتها (هينبوش، 2006 أ: 458). سمى الباحثون العدوان على العراق «حرباً من أجل السيطرة على الموارد» (resource war). وهو ما عبّر عنه وولفوفيتز من أن الخيار وقع على العراق بدلاً من كوريا الشمالية، لأن العراق منطقة استراتيجية «تسبح في النفط» (المصدر نفسه: 457). قدّم هينبوش جهداً استثنائياً في رصد المراجع التي تناولت قرار إعلان الحرب على العراق عام 2003. كان ثمة خوف من ارتفاع أسعار النفط بسبب بلوغ السعودية، المنتج الرئيسي له، الحد الأقصى الذي يمكن تصديره، وبحيث بدا العراق بحكم احتياطيه الكبير، البديل القادر على تأمين وفرة في العرض تؤمّن استقرار الأسعار (هينبوش، 2006ب: 292). لو توقفنا عند هذه النقطة في السرد، لبدت أميركا فعلاً حاجة كدولة مسيطرة ذات دوافع حميدة تتناول استقرار سوق النفط، ولبدت في ذلك وكأنها تحقّق مصلحة العالم، أو «خدمة عامة». لكن الأمر يتطلب معالجة إضافية. بيّنت الوقائع أن سيطرة صدام حسين على نفط الكويت لو تمّت عام 1990، لما كان حصل تغيير في الأسعار، بحكم اضطرار العراق لالتزام الأسعار العالمية، وأن فائدة هذا الاخير من نفط الكويت كانت ستكون بالعائدات الإضافية التي ستوفرها له. الأمر نفسه كان سيحصل عام 2003، أي زيادة العرض من دون ارتفاع الأسعار لو رُفِع الحظر عن تصدير نفط العراق بدلاً من احتلاله. بل إن إظهار الدولة المسيطرة وكأنها معنية بتحقيق وفرة تؤمّن استقرار الأسعار، يتناقض مع رهانات أوساط المحافظين الجدد على ارتفاع لأسعار البترول في مناسبة الحرب. وهو ارتفاع من شأنه رفع أرباح منتجي البترول في تكساس، وأرباح منتجي الأسلحة الذين يعوّلون على مشتريات دول الخليج منها لرفع أرباحهم. ولقد كانت أرباح الشركات في هذين القطاعين في تراجع قبل الحرب (المصدر نفسه: 295). والبعض من صقور المحافظين الجدد، من مثل ريتشارد بيرل، رأوا في احتلال العراق سانحة للتخلص من عبء العلاقة مع السعودية (المصدر نفسه: 312). لم يشأ الأميركيون إزالة العقوبات عن العراق ورفع الحظر عن تصدير النفط فيه. أرادوا وضع اليد على إنتاجه بواسطة الاحتلال المباشر. كانوا يريدون توفير فائض في العرض، من دون الأخذ برأي مالكي النفط ومنتجيه، وبشروطهم هم (washington’s terms) (المصدر نفسه: 289). مثّلت سيطرة أميركا على نفط العرب على مدى نصف قرن على الأقل حتى ذلك التاريخ، أحد أسباب تفوقها على البلدان الصناعية الاخرى، واحتكارها لدور الدولة المسيطرة. أظهرت الوقائع التي كانت تُكشَف تباعاً خلال حقبة ما بعد 2003، أن الإدارة الأميركية التي اتخذت قرار الحرب، كانت تعرف أن العراق ليست لديه أسلحة دمار شامل، وأنه لا يشكّل تهديداً لأمنها. كما أظهرت أن الاتهامات التي سيقت بحقه كانت كاذبة ومتجنّية، وأن مروّجيها كانوا يعرفون ذلك (المصدر نفسه: 310). وجد الباحثون وقادة الرأي أن قدرة «عصابة» تنتمي إلى أقصى اليمين السياسي، على تحييد الإدارة الحكومية والكونغرس وإلغاء أشكال الرقابة المؤسسية المعتمدة للذهاب إلى الحرب، أعطت دليلاً على الأوضاع البائسة التي باتت عليها الديمقراطية الأميركية (المصدر نفسه: 299).
كانت الحرب أمراً سهلاً ومتيسراً بالنسبة إلى أميركا، بفعل التفاوت الفادح بين التقنيات الجديدة التي عوّل عليها الجيش الأميركي، وبين وسائل الجيش العراقي التي بدت من عصر سابق (obsolete). استخدم الجيش الأميركي الوسائل التكنولوجية كتحديد الأهداف عبر الأقمار الصناعية واستخدام أشعة الليزر، وتمكن من خلال ضرب الأهداف من الجو، من إلحاق الهزيمة بالعدو قبل النزول حتى إلى الأرض. قُتِل 39 ألف عراقي في المواجهات العسكرية، وارتفع عدد الضحايا إلى مئة ألف خلال السنة الأولى من الاحتلال (هينبوش، 2006ب: 317). استعاد هينبوش الآراء القائلة بأن «الثورة المحقّقة في الميدان العسكري»، أي التقنيات الجديدة المستخدمة، أعادت للحرب اعتباراً كوسيلة لفرض سيطرة الولايات المتحدة على العالم الثالث، كانت قد فقدته بعد حرب فيتنام (هينبوش، 2006 أ: 458).
لم تكن حربا الولايات المتحدة ضد العراق في 1990 و2003 سوى محطتين في تاريخ طويل من العدوانية التي مارسها الغرب الاستعماري ضد العالم العربي. بل لم تتعرّض أمة في العالم كما يكرّر هينبوش، لما تعرّضت له الأمة العربية من عدوان خارجي عليها بدءاً من التاسع عشر.

المراجع

Hinnebusch R., “Empire and after : toward a framework for comparing empires and their consequences in the post-imperial Middle East and Central Asia”, Journal of Historical Sociology, Vol. 27, n. 1, 2014, pp. 103-131.
Hinnebusch R., “Hegemonic Stability Reconsidered: Implications of the Iraq War”, in Rick Fawn, Raymond Hinnebusch (eds.), The Iraq war: causes and consequences , Boulder : Lynne Rienner Publishers, 2006b , pp. 283-322.
Hinnebusch R., “Identity in International relations: Constructivism versus Materialism and the Case of the Middle East”, Review of International Affairs, Vol. 3, n. 2, 2003, pp. 358-362.
Hinnebusch R., “The Iraq War and International Relations: Implications for Small States”, Cambridge Review of International Affairs, 19, 3, 2006a , pp. 451-463.
Hinnebusch R., “ The Middle East in the world hierarchy: imperialism and resistance”, in: Journal of International Relations and Development , vol 14, n. 2, 2011, pp. 213 - 246.

* أستاذ جامعي