«... وعلى جناح الارجاس مخرب حتى يتم ويصب المقضي على المخرب» (دانيال، 9:27)
نشر مكتب برامج الاعلام الخارجي في وزارة الخارجية الاميركية نبذة صغيرة تقع في صفحتين في شهر ايلول 2014 بعنوان «تراث في خطر: العراق وسوريا». قد يبدو الأمر للوهلة الاولى هزلياً لسببين، الاول طابع الترف المتمثل بالاهتمام بالثروة التاريخية لبلدان تدفع شعوبها فاتورة بشرية باهظة بسبب الحروب، والثاني بسبب الجهة التي اصدرت النبذة نظراً للكارثة الأركيولوجية والنهب المنظم للثروة التاريخية للعراق التي حصلت في خلال فترة احتلالها لهذا البلد بعد غزوه في 2003.

لكن الموضوع اكثر جدية ومأسوية كونه يهدد بطي صفحات عظيمة من تاريخ شعوب المنطقة وارسال شواهد كبرى منها الى العدم، وهذا سبب كافٍ للاضاءة على المسألة. في مقال سابق (نشر بداية العام الحالي)، عُرضت فكرة عامة عن وضع الثروة التاريخية السورية، مع شرح وتفصيل لبعض الحالات نظراً إلى أهميتها، لكن عمر الازمة ووقوع 93% من الثروة الاثرية والتاريخية في هذا البلد ضمن مناطق النزاع المسلح و/ أو النزوح، وتطورات الحرب التي جعلت قسماً من البلد تحت سيطرة المجموعات المسلحة، يفرض تأوينا فصلياً على لائحة قابلة للتعديل بشكل شبه يومي بالأساس.
يبلغ عدد المساجد
حوالى 18000 تضرر منها 1500 أي حوالى 8,3%

يبقى المرجع الأساس لجرد المواقع التي تعرضت للضرر لوائح المديرية العامة للآثار والمتاحف في سوريا، التي كانت قد اعدت لائحة اولى تغطي الفترة بين بداية الحرب الى نهاية اذار 2014، تلتها لائحتان الاولى تغطي الفترة بين نيسان وآخر حزيران 2014، والثانية من تموز الى نهاية ايلول 2014.
بمراجعة هذه اللوائح يتبيّن التركيز الجغرافي لكثير من هذه الأضرار، ما يسمح بجردها ضمن مجموعات، كحلب، ريف حلب (المدن الميتة)، بصرى في درعا، ماري، دورا اوروبس وعدد من التلال الاثرية في دير الزور. إضافة الى موقعين مهمين عادا تحت سلطة الدولة هما معلولا وقلعة الحصن. وأخيراً تفشي ظاهرة احتلال وتحويل وظيفة الكنائس او تدميرها، ونسف الاضرحة وحالة الكنيس الواقع في جوبر.
حلب تندثر، ربما تكون هذه العبارة الأكثر تعبيراً عن المأساة الرهيبة التي تعيشها المدينة على مستوى الدمار اللاحق بأبنيتها التاريخية. ففي المدينة القديمة ومحيط القلعة يبدو أن الأضرار إلى ازدياد مع تجدّد المواجهات بشكل دوري ودخول عنصر جديد على المعركة وهو الحفر تحت البناء والتفخيخ والنسف. بالنسبة إلى الأضرار فقد شملت سلسلة مواقع مدرجة على قائمة «الأونيسكو للتراث العالمي» كعدد من الجوامع كالخرفسية، السلطان، بانقوسا والميداني، وعدد من الخانات والمدرسة العادلية، اضافة الى مبنى السرايا، فندق الكارلتون، حمام يلبغا وثكنة هنانو. الكثير من هذه الأضرار لا تعوض كونها تسببت بانهيارات جزئية في المباني المذكورة أو تصدعات بنيوية من الصعب تجاوزها في الترميم. في كل الأحوال فإن أي حصر تفصيلي للاضرار لم يحصل بعد، والوضع ينتظر انتهاء الأعمال العسكرية، لكن الأكيد هو أن هناك مباني فقدت إلى لأبد ولا يمكن تعويضها. قد تكون حلب أكثر المدن السورية تضرراً جراء الحرب.
بالانتقال الى ريف حلب فالأضرار كبيرة بخاصة في مواقع عدة من المدن الميتة، وتتراوح بين البناء المخالف في المواقع وتكسير الحجارة بهدف استخدامها، الهدم والحفريات غير الشرعية واستيطان المسلحين... لا سيما قلعة سمعان، حيث التعديات كبيرة كالحفر والبناء في حرم الدير الشمالي، وبناء مخالف ملاصق لحائط البناء غربي، وأعمال تخريب وتكسير حجارة الدير الشمالي الشرقي بهدف البناء، تخريب قوس النصر، تخريب الفسيفساء التي كانت تغطي أرضية الحمامات، وأضرار في كنيسة المعمودية.
أما في بصرى (درعا) فقد تضرر وتهدم عدد من البيوت التقليدية والمباني الأثرية إضافة إلى مخالفات بناء في المنطقة الأثرية، وتضررت كنيسة القديسين سرجيوس وباخوس، ولحقت أضرار بخندق القلعة-المسرح، وتهدمت أجزاء من جدران جامع ياقوت، وثمة أضرار في الجدران الداخلية والأسقف في مدرسة أبو الفدا، فضلاً عن أعمال تكسير وتخريب في أكثر من موقع في الريف الغربي لدرعا.
في دير الزور والحسكة، التعديات تشمل عدداً كبيراً من التلال الأثرية المهمة، إضافة إلى موقعي دورا اوروبس وماري. ففي دورا اوروبوس دمرت الحفريات غير الشرعية، خصوصاً في منطقة المدافن، وبعضها باستخدام الآليات الثقيلة حوالى 80% من مساحة الموقع الإجمالية، إضافة إلى تدمير جدران بعض المعابد. أما في ماري فقد جرى تدمير عدد من الجدران والقيام بالتنقيب غير الشرعي في معابد داغان، عشتار وشمش، فضلاً عن سرقة جزء من سقف القصر الملكي مع بعض الهدم في الجدران وأعمال تنقيب غير شرعية.
موقعان مهمان استعادتهما الحكومة السورية وتبين فيهما حجم الضرر هما قلعة الحصن ومعلولا. في قلعة الحصن تبين أن حجم الضرر على اهميته محدود بالنسبة لما كان متوقعاً انطلاقاً من تقديرات مبنية على اساس بعض مشاهد القصف، لكن تجنب الجيش قصف القلعة مباشرة او اقتحامها جنبها دماراً كان يمكن أن يكون كبيراً جداً. بعد استعادة الموقع قامت السلطات المختصة بإزالة آثار وجود المسلحين داخلها بتنظيف الاقسام التي كانوا يستخدموها لمختلف الانشطة من سكن وطبخ وصناعة متفجرات وغيرها. وعند زيارة القلعة في حزيران 2014 كانت اعمال الترميم التي تقوم بها مديرية الاثار والمتاحف قد قطعت شوطاً كبيراً جداً، وتتضمن رد قسم كبير من الحجارة المتساقطة من الجزء السفلي لجدار الاصطبل المشرف على الخندق، اعادة الحجارة المتساقطة من بعض الفتحات في الجدار الداخلي للسور الخارجي، واعمال ترميم زخارف أقواس الرواق وواجهة قاعة الفرسان المتضررة...
أما في معلولا فالأضرار كبيرة جداً، فالقسم الاكبر من البيوت والازقة في البلدة القديمة دمر بسبب الحريق، وتعرضت المدافن والمغاور للنبش والتخريب. بالوصول الى الكنائس والاديار فالاضرار فادحة، حيث نُهبت الايقونات والانية الليترجية إضافة الى الحريق وتكسير الصلبان. في دير القديسة تقلا نهبت الايقونات وتعرضت الكنيسة للحرق، وفي دير القديسين سركيس وباخوس دمرت الجدران الشرقية والغربية وانهارت القبة الرئيسية. ولم تسلم كنائس: مار لاونديس، القديسين قوزما وداميانوس والقديسة بربارة من التدنيس والنهب. بعد انسحاب المجموعات المسلحة بدأت اعمال رفع الانقاض من الطرقات والمباني تمهيداً لترميم المدينة، ونُظفت الكنائس للصلاة فيها، ودُعّمت صخرة مار تقلا منعاً لسقوطها. أما مشروع الترميم العام فهو مشروع قيد الدرس ولم يبدأ بعد، لكنه واعد بالاهداف التي حددها.
تعرّض عدد كبير من الكنائس في سوريا إلى التدمير الجزئي أو الكلي جراء القصف كما في حمص، والبعض الاخر نُهب وحُرق كما في معلولا أو نُسف بالكامل ككنيسة الشهداء الأرمنية في دير الزور. لا أعداد دقيقة عن عدد الكنائس المتضررة وأنواع الضرر الذي تعرضت له، وتتراوح التقديرات بين 40 و100، خصوصاً مع تمدد تنظيم «داعش» وتدميره أو استيلائه على عدد من الكنائس في دير الزور والرقة. قد يبدو للوهلة الأولى أن الضرر الذي تعرضت له كنائس سوريا اقل بكثير من باقي دور العبادة وتحديداً المساجد، وهذا حتماً صحيح بمقارنة الارقام بالمطلق، اما نسبياً فالموضوع يختلف كلياً اذ يبلغ عدد الكنائس في سوريا حوالى 400 كنيسة، فباعتماد تقديرات الحد الأدنى، أي 40 كنيسة متضررة، تكون النسبة حولى 10%، بينما يبلغ عدد المساجد حوالى 18000، تضرر منها 1500، أي حوالى 8,3%.
بالتطرق إلى الاضرحة والمقامات الصوفية فتشير تقارير مديرية مديرية آثار حلب الى تدمير حوالى 90% منها، وهي كانت تنتشر فوق التلال الاثرية خصوصاً في منطقة اعزاز كتل اعزاز، تل الشيخ ريح، تل دابق وتل اخترين اضافة الى تلك الواقعة على اطراف القرى. ففي منبج دُمرت كل الأضرحة الموجودة في المنطقة بما في ذلك ضريح الشيخ العقيلي المنبجي الذي يعتبر أهم مزار في المنطقة، كذلك جميع الأضرحة الموجودة حول الكنيسة البيزنطية على طريق قلعة نجم، ودُرت ستة أضرحة مملوكية الطابع واقعة أمام قلعة منبج، معروفة باسم أضرحة شهاب الدين. ولم تنج تلك الكائنة في مناطق الباب، ناحية الزربة، الحاضر، الاتارب، تل الضمان، مسكنة، الخنفسة ودير حافر من التدمير.
أما كنيس جوبر الواقع في حي جوبر فهو يرقى إلى العصور الوسطى على اقل تقدير ويحتوي على عدد كبير من المقتنيات النادرة والمهمة كلفائف التوراة ومختلف الأواني المتعلقة بطقوس العبادة، فقد تعرض للنهب على يد المسلحين الموجودين في الحي، من دون تمكن مديرية الاثار او اي طرف اخر من جرد المفقودات او المقتنيات التي تعرضت للضرر أو التلف نظراً للوضع في المنطقة المحيطة به. كما أن وقوعه في وسط حي جوبر حيث تدور مواجهات عنيفة بما في ذلك القصف ادى إلى حصول «اضرار مادية كبيرة» بحسب تعبير تقرير المديرية العامة للآثار والمتاحف، من دون تمكن المعنيين من تحديد ماهية الاضرار بشكل دقيق نظراً إلى استحالة الوصول الى الموقع. إشارة إلى أن المشاهد المصورة التي بثتها بعض المجموعات من داخل الحي سياسية الطابع ولا تساعد في الإجابة على الأسئلة المتعلقة بالأضرار الحالة بالبناء. في اواخر شهر آب بدأت الحكومة السورية عملية عسكرية لاستعادة السيطرة على جوبر ما يعني ان مصير الكنيس وغيره من الابنية الاثرية والتراثية لن يتحدد بشكل دقيق الى حين انتهاء العملية وتمكن المعنيين من الدخول ومعاينة المباني، وقد تكون المفاجأة سارة اذا تكرر سيناريو قلعة الحصن بشكل او بآخر، وكانت الاضرار محدودة نسبياً، لكن لا معطيات تسمح الى الآن بالتكهن حول حالة المبنى.
أخيراً فإن عمليات التهريب الناتجة من اعمال النهب او التنقيب غير المشروع، والتي تبقى ارقامها ان لناحية عدد القطع او حجم العائدات المالية تقريبية غير دقيقة وصعبة التحقق. لكن الأكيد أن الظاهرة موجودة بقوة، وهناك مؤشرات موضوعية عليها، كأعداد القطع التي صادرتها السلطات الرسمية في الداخل السوري، أو السلطات في البلدان المجاورة، أو الصور الجوية لمواقع أثرية تظهر بوضوح شديد تحول شكل الموقع الى ما يشبه سطح القمر لضخامة عدد حفر التنقيب غير الشرعي. لا شك في أن الاتجار بالآثار، ابتداء من عمليات التنقيب، الى التهريب وصولاً الى الشراء او الاكتساب بأية طريقة اخرى هي عملية منظمة لا يمكن ان تتم من دون تنظيم شبكات لهذه الغاية في ظل تشريعات دولية ووطنية غير كافية، وغض نظر متواطئ من قبل حكومات الدول التي تستورد هذه القطع الفريدة والتي لا علاقة لها بها تاريخياً. والأكيد أكثر هو أن المديرية العامة للمتاحف والاثار بذلت وتبذل جهوداً عظيمة للحفاظ على هذه الثروة بالرغم من مواردها المادية والبشرية المتواضعة.
* باحث لبناني