تتحول أحلام يقظة رجال السياسة والدولة غالباً إلى كوابيس فعلية، تنغص عليهم حياتهم السياسية والخاصة، على حد سواء. وتتضاعف معاناتهم كلما غاب عن إدراكهم ان السبب في تلك الكوابيس الحقيقية يعود الى إطلاق العنان لرغباتهم لتستولي على مداركهم، وتتحكم في حركاتهم وسكناتهم، متعاملين معها كما لو كانت هي حقائق الواقع التي لا يأتيها الباطل من أي جانب من جوانبها. وبذلك يبنون مشاريعهم السياسية، وخططهم التكتيكية والاستراتيجية، على رغبات وأوهام لا نصيب لها من الواقع الفعلي.
ويبدو ان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان هو من هذه الفصيلة من السياسيين الذين يحلمون في واضحة النهار، ليكتشفوا ان أحلامهم قد تحولت، بعد حين، الى كوابيس يصعب فهمها، فأحرى التعايش معها. ولعل مأساة الرجل تتخذ منحى درامياً خطيراً، لكونه لا يبرح مجال أحلام يقظة، في مجال من المجالات، إلا ليغرق في أحلام يقظة في مجال آخر، الأمر الذي يجعله يستبدل كوابيس بأخرى في نهاية المطاف.
ويمكن اعتبار سياساته الاقليمية، وخصوصاً تجاه العراق وسوريا وفي موضوع المسألة الكردية، التجسيد الفعلي لهذا التخبط الذي غرقت فيه السياسة التركية منذ اكثر من ثلاث سنوات، رغم مزاعم رئيس الوزراء التركي الحالي، أيام كان وزيراً لخارجية بلاده، ان سياسة تركيا الاقليمية تقوم على صفر مشاكل. ويكفي، في هذا الصدد، النظر الى علاقات تركيا مع أهم جيرانها العرب، وغير العرب، لإدراك ان الحقيقة أتت على عكس مزاعم احمد داوود أوغلو تماماً، على اعتبار ان مشاكل تركيا مع الجيران هي في قمة هرم إنجازاتها السياسية، متى جاز تسمية ذلك إنجازاً أصلاً.
القضية الكردية بالنسبة للرئيس التركي تمثل
المنغص الدائم لحياته السياسية

فحرب تركيا على سوريا مفتوحة وشاملة، تحت ذريعة مساندة الثورة السورية التي لم يعد القسم الأكبر من الذين شاركوا في الحراك الشعبي في سوريا في شهر آذار 2011 يؤمنون به، بعد ان انقشعت الغشاوة عن أعينهم، ونظروا بعين الواقع والمصلحة الوطنية الى طبيعة ما يجري في سوريا من تدمير للبنى التحتية وتقتيل للمواطنين وتجنيد وتسليح للجماعات المسلحة الرامية إلى إسقاط الدولة الوطنية السورية، ومحاولة إضفاء الطابع الطائفي على مجمل الأحداث بما في ذلك تحرك الدولة لحماية نفسها، وحماية الشعب ورد العدوان الذي يشن عليه، من قبل قوى إقليمية ودولية مكشوفة الوجوه والخطط السياسية والعسكرية.
أما بخصوص قضية أردوغان مع العراق فحدّث عن الأحلام وأضغاث الأحلام ولا حرج. إذ حاول اعتماد أساليب متعددة يبدو لأي مبتدئ في السياسة أن بعضها يناقض البعض، الا ان الرئيس التركي يعتقد، بقوة، انها أساليب متكاملة لخدمة سياسة التدخل في شؤون العراق الداخلية، وبما يزيد أزمات هذا البلد الذي عانى لسنوات من الاحتلال الأميركي، وواجه حملة ارهابية تكفيرية منقطعة النظير خلال السنوات التي أعقبت خروج القوات العسكرية الأميركية. الأمر الذي يعطي الانطباع القوي بأن هناك علاقة ما تكاد تكون صريحة بين هذا الواقع وذلك السياق خاصة ان القيادة السياسية العراقية رفضت قبول استمرار التواجد العسكري الأميركي في البلاد، وهو موقف لم تغفره واشنطن لنوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق.
غير أنّ القضية الكردية بالنسبة للرئيس التركي تمثل المنغص الدائم لحياته السياسية، وربما لحياته الشخصية أيضاً. ذلك انه ممزق بين مواقف متناقضة يستعين بها هنا وهناك، وفق ما يعتقد انه المصلحة العليا لبلاده. فتجده يساند أكراد العراق ضد الحكومة المركزية لكنه لا يتورع عن قصف مواقع الحزب العمالي الكردستاني في أي وقت في العراق، قبل ان يعقد الهدنة الهشة مع زعيم الأكراد المعتقل عبد الله اوجلان والتي يبدو انها قد استنفدت الغرض منها بوصول اردوغان الى رئاسة الدولة.
ومن جهة أخرى، لدى اردوغان موقف آخر من أكراد سورية يحدده منذ اندلاع الازمة السورية موقف هؤلاء من الدولة السورية، إذ يمكن ان يبدي دعماً سياسياً لكل الحركات التي تنخرط في الحرب على دمشق، ولا يخفي عداءه المطلق للحركات الكردية التي ترى ان العدو الأساسي الذي ينبغي توحيد كل الجهود لمحاربته هو الارهاب، الذي ينشط بقوة في سورية، ويهدد المدن والبلدات الكردية، كما هو أمر تنظيم داعش في مدينة عين العرب (كوباني) التي أبان فيها اردوغان عن انتهازية سياسية منقطعة النظير، من خلال زعمه ان كوباني اصبحت فارغة من سكانها بالمطلق، وان معظمهم يجدون المأوى الضروري في تركيا. وبالتالي، فإن من تبقى في المدينة هم فقط القوات العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، وهو بالنسبة لتركيا تنظيم إرهابي والجناح السوري لحزب العمال الكردستاني من جهة، وقوى تنظيم الدولة الاسلامية الإرهابي من جهة اخرى. الامر الذي يجعل تركيا في حل من اتخاذ اي موقف غير الموقف الذي اتخذته بالابتعاد من التحالف الدولي ضد داعش لأن الانخراط فيه سيصب في مصلحة النظام السوري والإرهابيين الأكراد، وهو ما لا يمكن لأنقرة القبول به بأية حال من الأحوال.
والحقيقة ان الموقف التركي هذا لا يخرج عن نطاق أحلام اليقظة التي غرق في تموجاتها اردوغان انطلاقاً من الوهم القائم على ترك داعش تستولي على كوباني ودفع المجتمع الدولي الى محاصرتها، وربما فرض حظر جوي على المنطقة يحقق الحلم المكبوت للرئيس التركي في انشاء منطقة عازلة داخل الأراضي السورية. لكن يبدو ان هذا كابوس آخر من كوابيس اردوغان المتناسلة إلى ما لا نهاية.
* كاتب مغربي