السياسة في لبنان باتت مذمومة. وغالباً ما تُصوَّر كحرفة يقصد منها الخداع والتحايل على القانون. لكن السياسة فن نبيل وعلم شريف حاول كبار الفلاسفة شرح أصوله وتبيان أهميته في حياة البشر. والحقيقة أن هذا الواقع مردّه للالتباس الذي يقع فيه الكثير، ألا وهو عدم التفريق بين مفاهيم مختلفة لكلمة السياسة. من هنا كان يجب علينا بغية الحفاظ على قيمة السياسة الحقيقية من العودة بعض الشيء إلى الفلسفة السياسية كي يتمكن الانسان، خاصة في لبنان، من مقارنة الواقع الذي يعيشه مع المبادئ الفكرية التي من المفترض أن تحكم وجوده.
تقول لنا المفكرة الألمانية الكبيرة حنة ارندت إن السياسة توجد بين البشر، أي في الحيز الذي يفصل الأنا عن الغير، ويشكل في الوقت عينه القاسم المشترك الذي من خلاله تستطيع الأنا أن ترتبط بالغير، محققة حينها ذاتها كأنا في مقابل الآخر. السياسة إذاً لا يمكنها أن توجد إلا بين البشر، لأن الإنسان بطبيعته «حيوان سياسي» لا يستطيع أن يعيش خارج المجتمع. وفي شرح جميل لهذه الفكرة، يقول لنا المعلم الأول الفيلسوف الكبير أرسطو: «الإنسان من طبعه حيوان مدني، وإن لم يكن مدنياً، لا اتفاقاً ولكن بالطبع، اعتبر أسمى من البشر أو عدّ رجلاً سافلاً» (أرسطو، في السياسة، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، 1980، بيروت، ص. 8-9).
فالذي يستطيع أن يعيش في عزلة تامة هو إما إله أو حيوان: فقط الله نتيجة كماله المطلق لا يحتاج إلى أي شيء خارج ذاته، وكذلك بالنسبة إلى الحيوان الذي يمكنه أن يعيش وحده في القفار والغابات بحكم طبيعته. وبما أن الإنسان لا يملك كمال الله ولا هو ينحط إلى درك البهائم كان يحتاج في معاشه للتعاون مع بني جنسه، ولذلك كانت السياسة تدخل في ماهيته لأنها تحكم العلاقة بين جميع أفراد مجتمع ما.
يقوم البعض بتحويل
القوانين إلى مجرد وجهة نظر تتبدل حسب الظروف

لكن السياسة التي تطغى على طبيعة الإنسان المدنية لا تعرف ضابطاً، ويمكنها أن تجنح نحو خير الأمور أو شرها. لذلك، احتيج أيضاً إلى القوانين كي تحتل الحيز الفاصل بين البشر بغية الحد من اعتباطية السياسة، فكل ما لم يتناوله القانون يبقى مجالاً للتنافس السياسي، وكل ما حُسم بنص تشريعي يخرج عن سلطة تقدير الإنسان: خلاصة القول، القانون هو نهاية السياسة.
وبما أن الهدف من قيام الدول هو تحقيق العدالة، كان تحديد ما هو العادل ليس سهلاً على الإطلاق، بل هو يصبح صعباً جداً عندما يتعلق الأمر بالمجتمع ككل. لذلك انقسمت الفلسفة السياسية بين خيارين: الأول يريد أن تهتم القوانين بتحقيق العدالة، والثاني يرى أنّ القرار الذي يصدر عن سلطة محددة كفيل بإحقاق الحق.
فالقانون عام غير شخصي لا يستطيع أن يشمل كل الحالات الفرعية والجزئية التي قد تحصل، وهنا تكمن قوته وضعفه في آن واحد. لذلك، رأى أفلاطون في كتاب «الجمهورية» أن يستبدل سلطة القوانين العمياء بالقرار السياسي للملك الفيلسوف. هذا الأخير هو العدالة الناطقة التي تنظر في كل أمر بنحو محدد. فلا حاجة لنا لنصوص عامة يصعب تطبيقها بالتساوي على الجميع.
جراء ما تقدم، يتبيّن لنا أن الركون إلى القوانين لا يعود لفضيلة خاصة تتعلق بماهية القانون. فحاجتنا كبشر لقوانين مرده طبيعتنا الفاسدة، وهذا ما أدركه أفلاطون في نهاية حياته عندما أعاد للقانون في محاورة «النواميس» مكانته السامية وتخلى عن فكرة الفيلسوف الملك. فإذا كانت المدينة الفاضلة مجرّد هندسة عقلية مستحيلة التطبيق يمكن كخيار بديل الاعتماد على القانون بغية بناء أفضل نظام سياسي ممكن.
ولا بد هنا من التفريق بين الشيء السياسي (le politique) والسياسة (la politique). فعندما نقول إن الانسان حيوان سياسي، نحن في حقيقة الأمر نتكلم عن الشيء السياسي الذي يميز البشر في وجودهم ويدخل في صميم تجربتهم الحياتية. أما السياسة، حسب الفهم الثاني، فهي الصراع على السلطة وكيفية حكم الدول. لذلك، قد تكون السياسة عادلة أو ظالمة، وقد تنجح في تحقيق هدف ما أو تفشل. فعندما نقول إن القانون هو نهاية السياسة، نحن نقصد بكل تأكيد المعنى الثاني، لأن المجتمع يحتاج إلى فيصل كي يمنع تفاقم الخلاف ويحسم النزاع بين الأفراد بشكل سلمي.
وهذا التمييز جوهري لأنه يسمح لنا بحل معضلة كبيرة: كيف يكون القانون فوق السياسة وهو في نهاية المطاف مجرد عمل تصدره السلطة السياسية؟ سؤال فلسفي بامتياز ستسمح الإجابة عنه ليس فقط بفهم جدلية السياسة والقانون، بل أيضاً بإلقاء الضوء على الفهم الحديث والشائع لكل من القانون والسياسة.
يقول لنا أرسطو في «الأخلاق إلى نيقوماخوس» إن التشريع من أعمال السياسة. فالمشرع يحتاج لجملة من المبادئ التي توجهه في عمله وتساعده على سن قوانين جيدة. لكن هذه المبادئ لا يمكن أن يحصل عليها المشرع من نفسه، أي من جهة كونه مشرعاً، بل هو يتلقاها من علم السياسة. وهكذا يصبح القانون علة ونتيجة الاجتماع السياسي: فهو نتيجة كون التشريع لا وجود له إلا في دولة ما، وهو علة كونه المعيار الذي بموجبه نتمكن من التمييز بين الدولة والاجتماعات الجزئية (العائلة، القرية، الطائفة) وحالات الفوضى أو التوحش.
القانون هو نتيجة الشيء السياسي، لكنه علة السياسة. فحاجة البشر الطبيعية (الشيء السياسي) للتعاون تدفعهم إلى سن قوانين تحكم المجتمع، لكن تحديد مناسبة هذا النص أو ذاك يخضع لتقلبات السياسية وأهواء السلطة. فإذا بطلت النتيجة يبقى السبب لكن بطلان السبب يلغي حكماً النتيجة.
فإذا ألغينا القانون يبقى الشيء السياسي لكن الدولة (النتيجة) تزول معه، أي تلك السلطة الرادعة التي تعمل على إحقاق العدالة في المجتمع. إن بطلان القانون يؤدي إلى تحرر السياسة، أي تفلتها من المبادئ التي تضعها الفلسفة السياسية بغية إحقاق الحق وصيانة العدالة بين البشر. وما حصل في لبنان من تمديد لولاية المجلس النيابي وتعطيل للمجلس الدستوري بهذه الطريقة المستهجنة يشكل أمثلة بسيطة عن هيمنة «السياسة» على كل حياتنا الوطنية.
لذلك كان من الضروري جداً التأكيد أن السياسة كعلم (المفهوم الأول) هي التي تحدد مبادئ القوانين، بينما السياسة كفن الصراع على السلطة (المفهوم الثاني) يجب أن تخضع لسلطان القانون. والخطأ الشائع الذي يهيمن اليوم على تفكير كثير من الناس هو عدم التفريق بين السياسة كعلم والسياسة كممارسة، إذ يقوم البعض بتحويل القوانين إلى مجرد وجهة نظر تتبدل حسب الظروف والمصالح، لكون السياسة هي صاحبة القول الأخير. وهذا فهم خطير لا يمكن السكوت عنه، لأن السياسة التي تعلو القانون هي تلك التي تسير على هدي الفلسفة ونور العقل، فتصبح بالتالي عادلة لا محالة. أما السياسة التي لا تعرف وازعاً يردعها ولا عقلاً يلجمها، فهي تعسف وجور. وقد قال أرسطو إن القانون لا يوجد في أنظمة الفوضى (anarchie) والطغيان (tyrannie)، حيث إرادة الرهط أو الفرد هي المهيمنة.
فالقوانين التي تصدرها سياسة ظالمة ليست بقوانين لأنها لا تحترم علم السياسة الذي لا يمكن أن يشرع إلا من أجل العدالة والخير العام. فإذا فقد القانون فعاليته أصبحت السياسة حرة وعدنا إلى الخيار بين المعيار العام والقرار لم يعد أمامنا من خيار سوى الانصياع لمشيئة القرار السياسي المجرد. صحيح أن هذا القرار قد يكون عادلاً، لكنه رهان خطير جداً، لأن الشخص الذي سيتخذ قراراً كهذا يجب أن يتمتع بمواصفات الملك الفيلسوف الذي، وللأسف، لا وجود له إلا في جمهورية أفلاطون. القانون إذاً أو الاعتباطية، خيار يواجهه لبنان منذ فترة ليست
بوجيزة.
* باحث لبناني