إن رصداً دقيقاً وتخصصياً لنقاط قوة العقيدة القتالية وضعفها، والأداء العسكري للجماعات الجهادية السلفية الانتحارية، وفي مقدمها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، لم ينجَز بعد، لا من قبل الجهات العسكرية الرسمية في البلدان المعنية كالعراق وسوريا، ولا من قبل الباحثين المتخصصين في دراسة هذه الجماعات. ومع ذلك، فمن الممكن استعراض بعض هذه النقاط المتناثرة في منشورات ذات صلة بالموضوع.

لنبدأ بملاحظات بسيطة وثمينة كتبها مقاتل عراقي بسيط في صفوف الجيش العراقي يكنى بأبي موسى، أشرنا إليه في مناسبة سابقة («الأخبار»، العدد 2424، 21 تشرين الأول). شارك هذا المقاتل في العديد من المواجهات المسلحة ضد «داعش» بعد سقوط الموصل في العاشر من حزيران 2014، ولاحظ بثاقب بصيرته وبصره، ومن خلال تجربته القتالية الشخصية الملاحظات التالية التي نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي بتاريخ 15 تموز الماضي، ثم أعادت نشرها صحف وصفحات إخبارية عراقية عدة، لخص فيها مبادئ العمليات الهجومية والدفاعية لتنظيم «داعش»، وكيف ينبغي أن يكون الرد عليها. سنتوقف عند بعض هذه الخلاصات:
ــ يخبرنا هذا المقاتل أن «تنظيم «داعش»، في حالات الهجوم، يستخدم قذائف الهاون وقاذفات «الآر بي جي»، ثم يعمد إلى زج عناصره الذين يحملون تلك القاذفات والدوشكا ليمطر العدو بنيران كثيفة، فيما تصطاد مفارز القناصين التابعة له المقاومين أثناء فورة الهجوم».
نستنتج من هذه الملاحظة، أنّ الإضافة «الداعشية» المهمة تكمن في غزارة القوة النارية عند الهجوم السريع، وفي تغيير صفة القنص ووظيفته من فعل هامشي وأمني سري خارج سياق المعركة الرئيسية إلى فعل اشتباكي داخلها وفي ذروتها. وقد حقق هذا التطوير نتائج مهمة على الأرض.
ــ يضيف أبو موسى إنّه «في حالة الهجوم من مسافات بعيدة، «الاشتباك البعيد»، يقدم «داعش» الانتحاريين وهم يقودون شاحنات أو سيارات ملغمة، كما يرسل بعض عناصره ممن يحمل بعضهم أحزمة ناسفة، لكن ليست كلها ملغمة فعلاً، لبث الرعب في صفوف من يقاومهم، ثم يُدخلون مفارز مسلحة بالرشاشات الثقيلة «بي كا سي» والدوشكا إلى الاشتباك شبه المحسوم لهم». هنا، نلاحظ، أن العمليات التفجيرية الانتحارية لم يكن هدفها الوحيد إيقاع الخسائر الكبيرة في صفوف العدو فحسب، بل أيضاً ضرب تماسكه المعنوي والنفسي، وثمة مثال قريب على ذلك، يمكن أن نستشهد به؛ فقد كان لتفجير صهريج وقود مفخخ بالمتفجرات قرب فندق الموصل يوم سقوطها تأثير نفسي ومعنوي هائل اعترف به قائد عسكري عراقي كبير.
ــ أما بخصوص كيفية تنظيم «داعش» لدفاعه أثناء تعرضه لهجوم، فقد سجّل أبو موسى أن «مقاومة داعش بسيطة وسهلة، وخاصة في حرب الشوارع، حيث ينبغي تغيير الأسلوب القتالي التقليدي في الجيش العراقي من الاعتماد على المشاة الى الاعتماد على القناصين المجهزين بالقناصات المتطورة ذات المديات البعيدة والرؤية الفائقة، والآليات المدرعة المجهزة بالدوشكا الأحادية أو الثنائية أو الرباعية». وأضاف إن «مقتل بعض عناصر داعش، في أي اشتباك، برصاص القناصين المختفين جيداً يفقدهم توازنهم، ويدفعهم إلى ارتكاب أخطاء تقودهم إلى ما يشبه الانتحار، حيث يكشفون عن أماكن وجودهم ويصبحون صيداً سهلاً للقوات الأمنية بكل أسلحتها». وخلص أبو موسى إلى القول إن «من يريد هزيمة داعش، عليه أن يعتمد على القناصين المزودين بأسلحة قنص متطورة، وعلى مدرعات تحمي أفرادها من قناصي داعش ومزودة بالدوشكات الأحادية والثنائية، مع زيادة عدد عناصر القوات الأمنية في كل حظيرة أو سرية ممن يحملون سلاح «بي كا سي»، كما أن الغطاء الجوي له ثقله في المعارك ضد داعش، لكنه قد يفقد هذه الأهمية في الاشتباكات عن قرب، حيث تتداخل الخنادق».
إن الإكثار من القناصين المدربين جيداً، والذي لاحظه هذا المقاتل، وطالب بمحاكاته، ليس هو العنصر الحاسم في الاستراتيجية الدفاعية الداعشية، بل هناك ركن آخر لا يقل عنه أهمية وهو تلغيم المناطق المدافَع عنها بالعبوات الناسفة والألغام بشكل كثيف وذكي، وهكذا يكون المهاجم لدفاعات «داعش» بين نارين: نار القناصين المرابطين في الأماكن المرتفعة، ونار الألغام والعبوات الناسفة التي يرصع بها الهدف ترصيعاً شاملاً. وقد نجحت هذه الاستراتيجية الثلاثية (القنص والتلغيم والتفجيرات الانتحارية) في جميع المدن التي دخلها مسلحو «داعش» ولم تستطع القوات الحكومية أن تخرجهم منها، ويمكن أن نعتبر الفلوجة وتكريت أبرز مثالين ناجحين على هذه الاستراتيجية.
إن السؤال الأهم هنا، هو لماذا لم تأخذ القوات الحكومية والمدنية التي تساعدها بهذا الأسلوب فتتخلى عن الهجوم التقليدي بالكراديس البشرية للمشاة، والمعتمَد منذ الحرب العالية الأولى، لتمنع سقوط المزيد من المدن، وخصوصاً أن هذه الخطط باتت معلنة ومكشوفة؟ نستدرك ونقول إنّ ما نشره المقاتل أبو موسى وأمثاله حول أهمية سلاح القنص وجَد له صدى بسيطاً، حيث تكرّر الحديث آنذاك عن توجه القيادة العسكرية العراقية نحو تعميم مبدأ الاعتماد على القناصين، ونُشرت أخبار عديدة – مع أن الوضع العسكري يفترض عدم نشرها من باب الكتمان وحفظ الأسرار العسكرية - عن حملات إعداد وتدريب للآلاف من القناصة في العديد من المحافظات، وتمت الاستفادة كما قيل من المواطنين الموهوبين بما يدعى «التصويب الفطري أو الغريزي»، وقيل حينها إن عدد المتطوعين في محافظة واحدة هي «ذي قار» بلغ خمسة آلاف مقاتل قناص، غير أن المردود الفعلي لهذه الإجراءات لم يسجل أو يلاحظ بعد.
تقدم لنا معركة كوباني، المستمرة، بين مقاومي «وحدات حماية الشعب» القريبة من حزب العمال الكردستاني في تركيا، المدافعين عن المدينة في مواجهة مسلحي «داعش» درساً ثميناً بهذا الخصوص. فقد اعتمد هؤلاء، رغم تواضع إمكانياتهم التسليحية، مقارنة بتسليح داعش الثقيل، على القناصة والوحدات الفدائية الصغيرة المتحركة، فصمدوا حتى الآن صموداً بطولياً وكبدوا عدوهم خسائر فادحة خيّبت آمال المراهنين على سقوط المدينة ممن يزعمون «محاربة الإرهاب»، وفي مقدمهم الجنرالات الأميركيون والأتراك، فأجّلوا سقوطها وقد يمنعونه نهائياً لو توفر لهم الدعم التسليحي الجيد والغطاء الجوي الفعال.
ما دمنا بصدد الأداء القتالي لـ«داعش» واستراتيجياته الحربية، فلنلق نظرة على نقاط قوة تسجل له، كان قد رصدها أحد الباحثين العراقيين الضليعين في شؤون الحركات السلفية الجهادية هو هشام الهاشمي في كتاباته المتفرقة كي نتبين الفرق الكبير بين الصورة الإعلامية التي صنعها الرسميون العراقيون، سواء كانوا أمنيين أو إعلاميين أو سياسيين، لداعش وحلفائه، وبين صورته الحقيقية له على الأرض. ومن البديهي أنّ هذا الفرق بين الصورتين لن يكون لصالح راسم استراتيجيات عسكرية سليمة تهدف إلى القضاء على هذا العدو، فمن لا يعرف عدوه جيداً ويعطي تصوراً مغلوطاً عنه لشعبه وجيشه، لن يستطيع الانتصار، فالحكمة العتيقة تقول: اعرف عدوك كي تنتصر عليه!
لنستعرض بإيجاز ما نرى أنه الأهم في رؤية الهاشمي:
ــ يسجل الباحث أنّ لداعش مجلساً عسكرياً قيادياً متخصصاً يخطط ويشرف ويقود العمليات العسكرية. وتقول مصادر أخرى إنّ أغلب أعضاء هذا المجلس من ضباط جيش النظام العراقي السابق ذوي الخبرة والتجربة، بمن فيهم «خليفة» التنظيم إبراهيم عواد السامرائي، «أبو بكر البغدادي»، الذي كان ضابطاً في جيش النظام ومساعديه الأربعة الكبار. كما يعطي الهاشمي أهمية لقوة ومهارة الجهاز الاستخباري والأمني للتنظيم، الذي عجزت الأجهزة المعادية عن اختراقه أو تعويقه. وبحسب مصادر متخصصة، فإن هذا المجلس العسكري مؤلف من ثمانية إلى 13 عضواً جميعهم عراقيون، يقوده أربعة من كبار الضباط في عهد نظام صدام حسين، يرأسهم عقيد ركن سابق اسمه الحركي حجي بكر، كان قد انضم إلى التنظيم في عهد أميره القتيل أبو عمر البغدادي.
يسجّل الهاشمي أنّ قادة التنظيم يجيدون معرفة جغرافية الأرض التي يقاتلون عليها، ويستخدمون أساليب حرب التمويه والهجوم ثم التراجع، واختلاق محاور قتالية ضعيفة ولكن مع جلبة إعلامية، وذلك لتشتيت التركيز على الهدف التالي، ثم استخدام أسلوب الصدمة والمفاجأة عند الهجوم وهذا ما تكرر في معارك الاستيلاء على مناطق هيت وكبيسة والكيلو 35 – في 13 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري - ولكن الهدف الرئيسي السري بقي هو مركز مدينتي الرمادي وحديثة.
ورغم اتفاقنا مع جوهر ما قاله الزميل الهاشمي، إلا أننا نتحفّظ على مَيزة «معرفة جغرافية الأرض التي يقاتلون عليها». فحتى لو تأكد لنا وجودها، ستكون عرضة للتشكيك بجدواها على اعتبارين: الأول، هو أن أعداء «داعش» عراقيون يقاتلون على أرضهم ويعرفون جغرافيتها جيداً، والثاني هو أن غالبية قادة الصف الثاني والكوادر الوسيطة في «داعش» من الأجانب وغير العراقيين ولا يمكن أن يعرفوا جغرافية البلاد أكثر من أهلها.
يمكن أن نتفق مع ما ذهب إليه كاتب آخر هو جاستن برونك، الباحث في برنامج العلوم العسكرية في المعهد الملكي البريطاني، والذي لاحظ بصواب أن «هنالك ميزة عسكرية أخرى تتمثل في حركات الالتفاف – التي تقوم بها مجموعات داعش - حول المراكز الدفاعية لخصومها، والقضاء على أي مُدافع يحاول الانسحاب، وهذا تكتيك نفسي بقدر ما هو مخصص بالتحركات، ويتم تضخيمه غالباً من خلال القصص المروعة والتعذيب التي تنشر من قبل التنظيم في المناطق التي يفرض سيطرته عليها. وحتى أكثر القوات العسكرية اندفاعاً وأكثرها جاهزية، يمكنها أن تجري انسحابات تكتيكية إن شعرت بخطر محاصرتها من قبل عدد غير معلوم من القتلة المزودين بأسلحة أفضل، ولكن ما حدث في الموصل كان مهاجمة التنظيم لقوات قليلة التحفيز، وحتى هجمات مجموعة صغيرة مثل «داعش» أدت إلى زرع الرعب والهلع بين صفوف الجنود».
إن هذا التكتيك القتالي النفسي الذي يتحدث عنه برونك، بلغ ذروته في مجزرة «سبايكر» المشينة التي ارتكبها مسلحو «داعش»، ولطختهم ومعهم من يدافع عنهم ويبرر جرائمهم بعار أبدي، رغم أن بعض المحللين وشهود العيان من أهالي المنطقة والنائب المثير للجدل مشعان الجبوري اتهموا أنصار نظام صدام حسين وأقارب عدد من مسؤوليه الذين نفذ بحقهم حكم الإعدام بارتكاب هذه المجزرة بغطاء مزيف هو رايات «داعش». وقد نشرت أسماء وصور لهؤلاء وهم متلبسون بقتل الأسرى العزل، وقد قُتل في هذه المجزرة أكثر من ألف وسبعمئة جندي وطالب أسير في كلية القوة الجوية.
لقد دفع هذا التكتيك الدموي واللاأخلاقي لقتل الأسرى من قبل «داعش» بعض القطعات العسكرية إلى عدم الانسحاب حتى لو كان قرار الانسحاب صحيحاً وضرورياً، ليحاصرها العدو ويقتحمها لاحقاً، كما حدث في معسكري الصقلاوية والسجر في الأنبار، وما أسفر عن ذلك من كارثة وخسائر بشرية تتحمل القيادات العراقية مسؤولية حدوثها وعدم تفاديها.
غير أنّ أساليب «داعش» هذه فشلت تماماً في معارك السيطرة على مدينة «عين العرب/ كوباني» بمواجهة المقاتلين الأكراد السوريين؛ فمع أن المعركة لم تحسم حتى الآن بشكل نهائي، ولكن صمود المدافعين عنها طوال هذه المدة، يحسب انتصاراً عسكرياً كبيراً لهم. لقد كان «داعش» هنا - كما يلاحظ جستن برونك - أمام معركة غير اعتيادية (فرغم محاصرة التنظيم للمدينة وقيامه بالعديد من المحاولات المنسقة للاقتراب من مركزها، إلا أن أسلوب «فرم اللحم» الذي تشهده كوباني، بالانتقال من شارع إلى آخر لن يصب في صالح «داعش» ضد جيش لا يملك مكاناً للانسحاب، وبدعم جوي، فإن التنظيم، الصغير عدداً والذي يعتمد على العامل النفسي كسلاح له، يواجه تحدياً صعباً، بالتعامل مع شجاعة مقاتلين أكراد أقلاء، هم مَن يحولون دون استيلاء «داعش» على المدينة. إن الهجمات الجوية تعتبر أساسية، لكنها لن تتمكن وحدها من إخراج عناصر التنظيم «داعش» من المدينة). أي أن العامل الحاسم في صمود كوباني، كما يرى برونك، ونحن نتفق معه تماماً، لم يكن في القصف الجوي للتحالف الدولي بل في قوة وشجاعة ومرونة تكتيكات المقاومة الكردية البطولية على الأرض، واستعدادهم الهائل للتضحية، وبهذا أجهزوا على «أسطورة» داعش وأثبتوا بالملموس أنها ليست أسطورة أصلاً، بل مجرد خرافة قابلة للدحض والهزيمة.
* كاتب عراقي