في كتابه المُهّم والحافل بالمُعطيات «أمن الخليج العربي: تطوّره وإشكالاته من منظور العلاقات الإقليميّة والدوليّة»، لاحظ المؤرخ الكويتيّ ظافر العجمي بدقةٍ أنّ النفط أخطر سلاح في السلم والحرب، فهو مصدر الطاقة التي تُحرّك مصانع السلاح في السلم، والطاقة التي تُحرّك معدّات الحرب. وأضاف متسائلاً: هل بإمكان دول الخليج العربيّ استخدام سلاح النفط مرّة أخرى لخدمة قضاياها؟ الجواب عن هذا السؤال في ظلّ المعطيات الموجودة، ومن مُنطلق أنّ العلاقات الدوليّة تُحكَم من قبل موازين القوى، الجواب هو لا، لا كبيرة.
الأنظمة العربيّة الرسميّة، وتحديداً في دول الخليج، تملك الكثير من أوراق الضغط، ولكن هذه الأوراق موضوعة في الأدراج، وتآكلت بفعل العفن، وللتذكير فقط، استخدم العرب سلاح النفط عام 1973 للضغط على رأس حربة الإمبرياليّة العالميّة أميركا، وربيبتها وحليفتها إسرائيل. واليوم، يُستخدم هذا السلاح الأشّد فتكاً، لوأد حركات التحرّر في الوطن العربيّ، بسبب العداوة المُطلقة لدول الخليج، للقوميّة العربيّة وللوحدة العربيّة، اللتين تُشكّلان على هذه المحميات الأميركيّة غير الطبيعيّة خطراً كبيراً، وبما أنّ التبعية المُطلقة لأميركا باتت شعار المرحلة، فإنّ الأموال العربيّة المنهوبة من الشعوب العربيّة تُستخدم من قبل الغرب «الشقيق» لتفتيت الوطن العربيّ، وتمزيق المجتمعات العربيّة من المُحيط إلى الخليج، ضمن ما يُسّمى مخطط الشرق الأوسط الجديد.
في هذا الزمن الرديء نشأت لدى بعض العرب ثقافة جديدة نُسميها مجازاً ثقافة الإعجاب
ونعتقد أنّ هذا الزمان وهنا المكان لتذكير أصحاب الذاكرة الانتقائيّة والقصيرة بمقولة ديفيد بن غوريون، والذي يُعتبر بنظر الصهاينة مؤسس الدولة العبريّة، قال هذا الحاقد: عظمة إسرائيل لا تكمن في ترسانتها النوويّة، ولا في ترسانتها المسلحّة، ولكنّها تكمن في انهيار ثلاث دول، مصر والعراق وسوريا. وهذا ما يفعلونه الآن: أخرجوا مصر من محور المُقاومة في عام 1979 عن طريق اتفاق الذلّ والعار (كامب ديفيد)، دمّروا العراق وأضعفوه، وبات هذا البلد، الوحيد الذي قصف إسرائيل في عام 1991 بأكثر من 39 صاروخاً، ممزقاً وطنياً، وطائفياً ومذهبياً. وتتار القرن العشرين، أي تنظيم «الدولة الإسلاميّة»، أصبحوا على قاب قوسين أو أدنى من الوصول إلى العاصمة بغداد. وفي سوريا يعملون بدون كللٍ أو مللٍ من أجل إسقاط آخر معقل للقوميّة العربيّة، عبر «الإرهاب ألأمميّ»، المدعوم من السعودية وقطر وتركيّا، هذه الدولة التي لا تُخفي أطماعها بإعادة أمجاد العثمانيين، الذين أعادوا الناطقين بالضاد إلى الوراء مئات السنين خلال عهد الإمبراطوريّة العثمانيّة. ومن الأهميّة بمكان التشديد في هذه العُجالة على أنّه إذا سقطت الدولة السوريّة، فستتحوّل القضية الفلسطينيّة إلى لقمة سائغة للثالوث غير المُقدّس: الإمبرياليّة، الصهيونيّة والرجعية العربيّة. بكلمات أخرى، الطريق إلى القضاء على فلسطين تمُرّ عبر سوريا.
■ ■ ■
في هذا الزمن الرديء نشأت لدى بعض المُستنطقين بالضاد ثقافة جديدة، نُسميها مجازاً ثقافة الإعجاب، فعندما تكون عاجزاً تبدأ بالبحث عن أمورٍ تُعجب بها، والآن في الموضة الإعجاب العربيّ بالأتراك، قادةً وشعباً، هذا الإعجاب الذي فاق كل التوقعات، حتى بات يُخيّل إلى الإنسان العادي أنّ الحقيقة تغلبت على الخيال، والعلاقات القطريّة التركيّة الوطيدة والحميمة أكبر دليل على تعاون العربيّ مع التركيّ ضدّ العربيّ. بموازاة ذلك، فإنّ الدولة الإقليميّة الثانية في الشرق الأوسط، الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، التي عندما نجحت ثورتها عام 1979، قامت بمنح منظمة التحرير الفلسطينيّة المبنى الذي كانت تستخدمه سفارة تل أبيب في عهد الشاه، الأمر الذي نعتبره رسالةً واضحةً إلى صنّاع القرار في تل أبيب، بأنّ ما كان لن يكُون. ومنذ ذلك الحين، وطهران تنتهج سياسةً مُعاديةً جداً لكلّ من أميركا وإسرائيل، والأخيرة تعتبر المشروع النوويّ الإيرانيّ تهديداً وجودياً عليها. ولا بدّ من التأكيد أنّ الإسرائيليين يقومون في هذه الأيّام بالهجرة إلى ألمانيا بشكلٍ مكثّفٍ لأنّ أسعار المواد الغذائيّة هناك أرخص، فكم بالحري إذا كان الحديث عن تهديد نوويّ مُضافًاً إلى ذلك، فعلى الرغم من العلاقات الجيّدة بين أنقرة وطهران، فإنّ نقاط الخلاف بينهما أكثر بكثير من مسائل تساوق المصالح بين الدولتين، وتحديداً في السياسة الخارجيّة. فلا نكشف سراً إذا قلنا إنّ إيران دعمت ولا تزال تدعم المقاومة اللبنانيّة المتمثلة بحزب الله، الذي قال عنه وزير الأمن الإسرائيليّ، موشيه يعالون، في مقابلة لصحيفة «هآرتس»، إنّه بات خطيراً جداً وربّما أخطأنا في تقدير قوّته العسكريّة، كما أنّها تُقدّم الدعم الماديّ والمعنويّ لفصائل المُقاومة الفلسطينيّة «السُنيّة» في المناطق الفلسطينيّة المحتلّة.
■ ■ ■
قبل عدّة سنوات، قام الرئيس التركيّ، رجب طيّب أردوغان، بزيارة لمصر وُصفت بأنّها تاريخيّة. وخلال مكوثه في القاهرة، أعلن على رؤوس الأشهاد، أنّه سيزور قطاع غزّة، أكبر سجن في العالم، للمُساهمة في كسر الحصار، ولكن بقدرة غير قادرٍ، ألغى أردوغان الزيارة. نميل إلى الترجيح بأنّ الضغوط الأميركيّة والإسرائيليّة كانت السبب الرئيسيّ وراء إلغاء الزيارة، وحتى اللحظة لم يَقُم أدروغان بالإيفاء بوعده، على الرغم من أنّ تركيّا وقطر أصبحتا «سبونسر» حركة حماس وجماعة الإخوان المُسلمين. ولا يُمكن قراءة «الدعم» التركيّ للفلسطينيين من دون العودة قليلاً إلى الوراء. تركيّا كانت أوّل دولة اعترفت بإسرائيل في الجمعية العموميّة للأمم المُتحدّة. أنقرة وتل أبيب، حليفتان استراتيجيتان، على الرغم من مسرحية «الخلاف المصطنع» بينهما، وتربطهما عشرات الاتفاقيات الأمنيّة، بالإضافة إلى ذلك، خلال عدوان الدولة العبريّة الأخير على قطاع غزّة، كشفت صحيفة تركيّة النقاب عن أنّ طائرات سلاح الجو الإسرائيليّ كانت تستخدم المطارات التُركيّة للتزّود بالوقود. وإنْ نسينا شيئاً، فلا ننسى أنّ هذه الدولة هي عضو في حلف شمالي الأطلسيّ، الذي قتل من العرب والمُسلمين في العقدين الأخيرين مئات الآلاف وشرّد وهجّر الملايين من بيوتهم في ليبيا والعراق. عضوية أنقرة في هذا الحلف المُعادي للأمّة العربيّة يُفقدها أخلاقياً وعسكرياً، صدقية الادعاء بأنّها تعمل من أجل مصالح الأمّة العربيّة. كما أنّ استماتتها في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ، أو بالأحرى إلى اتحاد نفاق القارّة العجوز، هو مؤشر آخر على أنّ هذه الدولة، تعمل كلّ ما في وسعها من أجل الإمعان في إضعاف الدول العربيّة لاكتساب النقاط الإيجابيّة في واشنطن وتل أبيب، كما أنّ أركان أنقرة يؤمنون، قولاً وفعلاً، بأنّ الانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ يتّم عبر البوابة الإسرائيليّة، أي أننا بصدد أكبر وأخطر دولة انتهازيّة، أصبح شعارها الغاية تُبرر الوسيلة.
■ ■ ■
وبحسب التصريحات التي أدلى بها العديد من المسؤولين الأتراك، فقد وافقت أميركا على شروط أنقرة للانضمام إلى الحلف الذي يُحارب تنظيم «الدولة الإسلاميّة»، والتي يُمكن إيجازها: الأوّل، إقامة منطقة حظر جويّ في الجانب السوريّ بالتعاون مع طيران التحالف، على غرار مناطق الحظر التي أُقيمت في جنوب العراق وشماله، ويمنع على أيّ طيران حربيّ سوريّ الاقتراب منها أو اختراقها. الثاني، التدّخل العسكريّ التركيّ البريّ والجويّ لقصف، ومن ثم الاستيلاء، على الأراضي التي يُسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلاميّة» في الرقة ودير الزور والحزام الأرضيّ الكرديّ الممتد على الحدود التركية السورية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب السوري. والثالث، تسوية دائمة للصراع في سوريا، تقوم على أساس إقامة حكومة جديدة على أنقاض النظام الحالي، وتقوية المعارضة السورية بعد إعادة غربلتها، وتدريب وحدات عسكرية جديدة في تركيا والسعودية والأردن يتم اختيارها بعناية فائقة بالمعايير نفسها التي اختيرت فيها قوات الأمن الفلسطينية في رام الله تحت إشراف الجنرال الأميركيّ دايتون (فحص دقيق من أربعة أجهزة مخابرات: الإسرائيليّة والأميركيّة والأردنيّة والفلسطينيّة)، وتكون هذه الوحدات هي نواة الجيش السوريّ الجديد (السعودية ستُدرب 5000 جندي) وصلت الدفعة الأولى منهم إلى إحدى قواعدها العسكريّة. هذا التصعيد التركيّ، قابلته إيران بتصريحات ناريّة أكدت من خلالها أنّها لن تسمح لكائن مَن كان، بأن يعتدي على السيادة السوريّة، كما أننّا نميل إلى الترجيح بأنّ روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء المسّ بحليفتها الاستراتيجيّة، سوريا، كما أنّ الجيش العربيّ السوريّ قد يستخدم أسلحته الباليستية، وعليه نرى أنّ الأتراك يقومون، بالإنابة عن إسرائيل، بمحاولةٍ مفضوحةٍ لإشعال المنطقة وإدخالها في دوامة من العنف، نعرف كيف تبدأ، ولكن لا نعرف كيف تنتهي.
* كاتب فلسطيني