لا يوجد في سوريا حالياً مشاهد يمكن التعامل معها بوضوح كامل. ثمّة تحالفات تتغيّر باستمرار، وثمّة وقائع ميدانية تفرض نفسها على أيّ «قراءة مسبقة» لهذه التحالفات. وإذا كان الأمر سهلاً بالنسبة إلى الطرفين المهيمنين على المشهد حالياً، وأقصد بهما النظام و»داعش»، فهو ليس كذلك أبداً بالنسبة إلى الأطراف التي اختارت أن تكون ضدّ الهيمنة القائمة بشقّيها النظامي والمسلح.

أمام هؤلاء احتمالات محدودة ولكنها ممكنة، ولكي تصبح أكثر إمكانية عليهم أن يبذلوا مزيداً من الجهد في تفسيرها، بحيث لا تبدو لمن يحكم على المشهد من الخارج طوباوية أو منحازة إلى تفسيرات إرادوية بحتة. لدينا مثلاً معركة كوباني التي ينظر إليها البعض (وأنا منهم) بتفاؤل كبير ويعتقدون بقدرتها على فتح طريق ثالث للصراع في البلد لا تكون اليد العليا فيه لأيّ من القوتين المسيطرتين حالياً. يمكن من هذه الزاوية اعتبار هذه القراءة واقعية، وفي الوقت ذاته تملك ممكنات أخلاقية كثيرة، لكنها بالنسبة إلى آخرين لا يولونها الأهمية المطلوبة، تبدو متناقضة وعلى قدر كبير من «الاختزال والسطحية». ليس من شأننا الحكم على هذه الآراء خارج منطقها الذاتي، فهي بالنسبة إلى أصحابها تبدو معقولة، وتعتمد على قراءة استراتيجية للصراع يظهر فيها الفاعلون الداخليون وكأنهم أقلّ شأناً من القوى الإقليمية والدولية التي تدير المشهد عن بعد. هذا المنطق ليس جديداً ولا يمكن اعتباره أفضل من سواه، غير أنه يضع أمام المؤمنين بقضية كوباني احتمالات للمعركة قد لا تكون جيّدة بالضرورة. وهو ما يدعونا إلى مناقشته بجدّية بعيداً عن المفاضلة التي يسهل إجراؤها على الورق وبالضدّ أحياناً من الواقع الذي يتغيّر يومياً.

سؤال التحالفات

يعتبر أصحاب المنطق أعلاه أنّ التحالفات التي «تسير في ضوئها» المعارك بين «داعش» ووحدات حماية الشعب هي التي تحدّد طبيعة الصراع، ومن هنا يجدون أنه محكوم «بأفق زمني» لا يتعلّق بقدرة الطرفين على تصعيد الغزو أو المقاومة، بل بقرار يصدر عن القوى التي تتولّى إدارة الصراع بالوكالة.
لا يتحدّد الموقف من كوباني بالدفاع عنها فقط بل بالسياق العام للمعركة
الأرض التي يدور عليها الصراع تصبح في هذه الحالة قطعة جغرافية تغيب معها إرادة القتال، ويتحوّل هذا الأخير إلى شيء مبهم يستحيل تقديره من المتابعة الميدانية وحدها. لا شكّ أنّ التقدير الاستراتيجي يقدّم لنا في حالة كوباني - عين العرب معلومات وافية عن ارتباط «داعش» والأكراد بالتحالفات الدولية، وبالتالي يضع إطاراً للمعركة يختلف جزئياً عن الإطار الذي يوفّره الانحياز المسبق إليها من موقع التضامن مع المقاومة الشعبية فيها. المشكلة أنّ هذه المعلومات «لا تعود مهمّة» لاحقاً، فبحكم تغيّر الواقع القتالي يوميّاً ودخول أطراف جدد إلى المعركة (مثلاً لواء «ثوار الرقة» الذي يقدّم مساهمة متواضعة ضمن إطار ما يعرف بعملية «بركان الفرات» مضافاً إليه شراذم «الجيش الحر» التي وافق حزب الاتحاد الديموقراطي على دخولها كوباني أخيراً) تتراجع فعالية «المعلومات المسبقة»، ويصبح ربطها مع السياق الذي تجري فيه المعركة أصعب مع الوقت. حتى الآن تظلّ المعلومات تلك بحاجة إلى تدقيق، وهي للتذكير تؤكّد اندراج الأكراد المدافعين عن كوباني في التحالف الإمبريالي بطريقة من الطرق. فبحسب المعطى الاستراتيجي الذي يقدّمه الرفاق، لا يتحدّد الموقف من كوباني بالدفاع عنها فقط، بل بالسياق العام الذي تجري فيه المعركة، ومن الواضح بالنسبة إليهم أنه سياق يرتبط بتناقضات داخل التحالف الإمبريالي ذاته (تركيا، أميركا، البشمركة الموالية للبرزاني... إلخ). لا يبدون مهتمّين بتناقضات أخرى داخل المكوّن الكردي (أظن أنها أساسية وفارقة، رغم حصول الاتفاق في دهوك بين الأكراد، وبالتالي محاولة «تجاوزها» وجعلها ثانوية)، ويعتبرونها غير مؤثّرة بقوة الدفع الخاصّة بالمقاومة. فبالنسبة إليهم، تتساوى قوى البشمركة المسؤولة عن تسليم مدن عراقية كبرى (نينوى مثلاً) إلى «داعش» مع وحدات حماية الشعب التي لا تزال تقاوم التنظيم وتصعّب عليه مهمّته منذ شهر ونصف شهر على الأقلّ. أيضاً، يعتبرون البرزاني الذي يحكم كردستان بالتوازنات التي يمليها طابع المقاطعة الإقطاعي والمرتبط برؤوس الأموال الغربية مشابها لقيادة صالح مسلم التي حافظت على تماسك المجتمع المحلّي في مناطق الإدارة الذاتية وجنّبته التدمير على يد النظام أو القوى الوهابية «المحتلة» للجزيرة وشمال حلب. «من الطبيعي» أن تُهمَل هذه التناقضات في القراءة الاستراتيجية للصراع، فالتحالف الإمبريالي وفقاً لها لا يتطوّر باتجاهات مختلفة، بل يقوده «سمت» أساسي باتجاه النظام في سوريا وحلفائه الإيرانيين والروس. في المبدأ هذا صحيح، فالتحالف يبني استراتيجيته البعيدة على أساس الصراع مع روسيا وإيران وحزب الله، ولكنه في الحقيقة يواجه تحدّيات جسيمة، ويتعذّر عليه في الظرف الحالي تذليلها بدون معونة الحلفاء الإقليميين. من هنا نفهم «تطوّر» العلاقة بينه وبين تركيا، فالأخيرة رفضت الدخول في التحالف بداية، ثم وافقت مشترطة لهذا الدخول بنوداً أربعة قبل أن تعود «للرفض» على لسان أردوغان الذي قال أخيراً إنّه لن يحارب «داعش» عبر «تسليح» قوّات الاتحاد الديموقراطي التي يعتبرها حليفاً أساسياً لحزب العمال الكردستاني وزعيمه عبد الله أوجلان. هذا التذبذب لا يدلّ على وضوح في الرؤية الاستراتيجية، ويسمح «للنظرية» التي تقول بغلبة الواقع على الاستراتيجيات بأن تتطوّر أكثر. الواقع بحسب هذه «النظرية» يتغيّر يومياً ويفرض على قيادة التحالف الإمبريالي تعديل سياساتها بما يتلاءم مع الأحداث الميدانية. فهي مثلاً لم تكن متحمّسة لتسليح الأكراد في البداية، وتركتهم تحت وطأة حصار «داعش» المدعوم تركياً لأكثر من أسبوعين، ولم تتغير «استراتيجيتها» إلا حين تبيّن لها أن مقاومتهم للحصار قد فاقت التوقّعات. بمعنى أنهم عبر المقاومة البطولية أجبروها على ذلك، ولم يتركوها تفعل ما تريد ببيئتهم. عند هذه النقطة حصل التحوّل الذي أساء البعض فهمه وعدّوه نهاية لاستقلالية القرار الكردي الذي يقود المقاومة المسلّحة ضدّ «داعش» وتركيا. اعتبروا الأمر كما يفعل معظم الخبراء الاستراتيجيين تغيّراً استراتيجياً في التحالفات الكردية، ولم يتعاملوا معه على أساس أنه تكتيك فرضته موازين القوى التي مالت إلى مصلحة قوّات حماية الشعب في لحظة تخلّي العالم بأجمعه عنهم (أليست هذه معجزة يا رفاق؟ صنعها حزب الله من قبل وبعده مقاومة كتائب القسام وسرايا القدس في غزة، فلماذا نستكثرها على الأكراد؟). لا أدري ما هي الخيارات الأخرى الممكنة لديهم في لحظة كهذه. لا النظام السوري قادر على مساعدتهم (هذا إن أراد أصلاً، وأؤكّد مجدداً انعدامَ إرادته)، ولا إيران التي صرّحت بأنها مستعدّة لدعمهم، ولكن لفظياً وفي سياق محدّد يرتبط بمناكفة تركيا التي تحاصرهم وتدعم «داعش». في هذه اللحظة التي تتساوى فيها إرادة الموت والحياة، يصبح من الصعب في ظلّ انعدام الخيارات ألّا يقدم المرء على التنازل جزئياً، وأظنّ أنه لم يكن تنازلاً متدحرجاً كما يعتقد صديق ورفيق عزيز، بدليل أنهم حتى الآن لم يُستعمَلوا في سياق خطّة التحالف الإمبريالي لتحطيم البيئات الاجتماعية الحاضنة لداعش أو المرغمة على احتضانه. بقي «الاستخدام» الذي يتحدّث عنه الرفاق وألومهم جداً عليه في إطار التقاطع الجزئي والمحدود مع الغارات التي تشنّها الطائرات الأميركية، ولم يتعدّ حتى اللحظة هذا الحدّ.

اتفاقية دهوك ودخول البشمركة وشراذم «الجيش الحرّ»

الآن لدينا معطى جديد اسمه اتفاقية دهوك التي تنصّ على تشكيل قيادة سياسية موحّدة لأكراد سوريا، وفي ضوئها يصبح ممكناً توقّع «الأسوأ» بالنسبة إلى المقاومة في كوباني. استمرّت المفاوضات بشأنها - أي الاتفاقية - لأسبوع تقريباً، وخرجت بعد مداولات عديدة بنتائج قد تسعف المدينة المحاصرة على المدى القصير، لكنها لن تعود بعدها كما كانت من قبل. مثلاً تنصّ الاتفاقية على إشراك المجلس الوطني الكردي الذي ينسّق منذ فترة مع تركيا وكردستان والمعارضة السورية التابعة للغرب في الإدارة الذاتية المقامة في كوباني - عين العرب وعفرين والقامشلي، وهو أمر لطالما رفضه الاتحاد الديموقراطي الذي يدير هذه المناطق ويشرف على حكمها عبر مجالس تمثيلية منتخبة. قبوله به اليوم يؤكّد أنه إجراء اضطراري لفكّ الحصار عن المدينة وتفادي «مزيد من الخسائر» في صفوف المقاومة. لكن هذا لا يعني أنه ذو طابع رمزي، فهو مع الوقت وبعد انتهاء المعركة سيغيّر في بنية الإدارة الذاتية للمناطق هناك، ويحاول جعلها شبيهة بإدارة كردستان العراق، إن من حيث التحالفات أو نمط الحكم أو... إلخ. كلّ المؤشرات تقول إنّ هذه هي الطريقة الجديدة التي يعتمدها التحالف الإمبريالي وحلفاؤه للإطباق على المدينة واحتوائها، فبعد فشل «داعش» في اجتياحها أصبحت كلّ الخيارات متاحة، بما في ذلك تطويقها من الداخل عبر أعدقاء من البشمركة وشراذم «الجيش الحر» و... إلخ.
يلومني الرفاق على استخدام منهجية في التحليل تضع الواقع في سياق متغيّر وتحكم على ما يقولون من خلاله، وها أنا عبر فعل الشيء ذاته أصل إلى نتيجة ستنعكس سلباً على المقاومة البطولية التي دعمتها بقوّة منذ هجوم «داعش» على المدينة. هذا هو التغيّر الاستراتيجي في رأيي وليس التقاطع الجزئي مع غارات التحالف الإمبريالي. تغيّرٌ سيفكّ الحصار مؤقّتاً عن المدينة من خلال السماح لقوّات البشمركة (يقال إنها ستكون في عداد مئتي مقاتل أو أقلّ!) بالدخول إليها عبر تركيا، غير أنه سيفتح في المقابل الباب على مساومات عديدة بشأن اتجاهها السياسي. لا أحبّذ طبعاً مصادرة الاحتمالات منذ الآن، وأحترم في الوقت ذاته خيارات الأكراد في جعل وحدتهم السياسية ممكنة، على أن يكون المعيار في هذه الخيارات واضحاً. وهذا على أيّ حال أمر تحكمه التطوّرات على الأرض، فكما غيّرت - أي التطوّرات - سياسات التحالف الإمبريالي قد تفعل الأمر نفسه مع التوجّه الذي يتّبعه البرزاني والأحزاب الموالية له في سوريا. وان لم تفعل، فسيصبح ممكناً عندها انتقاد السياسات والتحالفات التي نتجت من اتفاقية دهوك، ولكن على نحو لا يتعارض مع دعمنا للمقاومة الكردية المسلّحة التي غيّرت كلّ المعادلات على الأرض وسمحت بتضافر عوامل عديدة لهزيمة التنظيم الذي عجزت كلّ جيوش المنطقة عن هزيمته. مرّة جديدة، لا يتعلّق الأمر بداعش ومجابهته فحسب، بل أيضاً بإرادة التحرّر التي تصبح قادرة بفعل المساواة الكاملة وغير المشروطة على مواجهة أيّ تحدٍّ يتعرّض له المجتمع أو البيئة المحلّية، وخصوصاً إذا كان على شكل غزو مدعوم من قوى إمبريالية وإقليمية. هذه القوى التي استهدفت بيئة المعارضة بالأمس عبر قصف المنازل وآبار النفط ومصافي تكريره البدائية تستهدف الآن - عبر داعش - الأكراد، وتحاول عبر المساومات مع تركيا وكردستان جرّهم إلى مربّع لا يعودون فيه قادرين على التصرّف كبيئة محلّية مستقلّة وبعيدة عن الاستقطاب المدمّر بين النظام والمعارضة. واجبنا الآن أن ندعم هذه البيئة بكلّ الوسائل الممكنة، وإذا تغيّرت طبيعة مقاومتها - وهذا ما أستبعده - بفعل التحالفات الجديدة، فلن نكون محرجين في انتقادها، لأننا منذ البداية دعمناها على قاعدة التضامن مع التجربة التي بدت لافتة بكلّ المقاييس، وخارج سياق الصراع القذر على السلطة والثروة بين النظام والمعارضة.
* كاتب سوري