يحاول البعض عقد مقارنات بين «داعش» وحركات دينية شبيهة عرفتها المنطقة في عهودٍ سالفة، كالغزو الوهابي للجزيرة وأجزاء من العراق والأردن في القرن التاسع عشر. العلوم الاجتماعية تخبرنا بأن الحركات الخلاصية والمتطرفة ليست ظاهرةً فريدة في التاريخ، وهي كثيراً ما تبرز في فترات التغيرات الكبرى والكوارث والاختراق الخارجي – أي الأحداث التي تهزّ الصورة المألوفة التي يملكها الفرد عن عالمه. ترافق الاستعمار الاوروبي للهند وافريقيا، مثلاً، مع نشوء حركات خلاصية عنيفة وشعبية، أدّت الى مقتل الملايين؛ وشهدت مرحلة الاحتلال الاميركي للعراق اخيراً ولادة عدد كبير من التيارات المهدوية التي راهنت على قرب نهاية العالم.
الّا انّه، قبل خمسة قرون بالضبط، ظهرت حركة مشابهة لعبت دوراً أساسياً في تشكيل منطقتنا وحدودنا وثقافتنا اليوم: «القِزلباش»، أي القبّعات الحمر، وهم من حركات الغلوّ الشيعي التي انتشرت بقوّة بين القبائل التركمانية في منطقة اذربيجان وشمال غرب ايران الحالية. يقول المؤرخ ستيفان وينتر انّك، حيثما نظرت في الأرشيفات العثمانية، فإنك تجد كلاماً عن «القزلباش» وخطرهم، وصولاً الى القرن التاسع عشر، مع أنّ الحركة كانت قد انتهت واندثرت قبل ذلك بقرون. شكّل «القبّعات الحمر» خطراً وتهديداً للسلطنة الى درجة انهم خلقوا عقدة لدى المسؤولين العثمانيين، الذين صاروا يستعملون تعبير «القزلباش الكفار» في وصف أي عدو داخلي أو تمرّد أو حركة خارجية لقرونٍ تالية.
اعتبر «القزلباش» أن الشاه اسماعيل الصفوي هو الامام المنتظر، واندفعوا في الحرب الى جانبه، غير أن الكيل طفح بالعثمانيين حين بدأت الحركة بالتسرّب الى داخل الأناضول، منتشرة بين الترك العلويين الذين شكلوا عماد السلطنة في بداياتها. هنا حصل انقلاب في اسطنبول، واستبدل السلطان بيازيد، الذي كان يعتبر متساهلاً مع المذاهب الأخرى، بسليم الصارم، الذي جرّد حملة ضخمة لهزيمة القبّعات الحمر والشاه اسماعيل في الاناضول وتبريز. وقد شكّلت الحملة، مع الحروب التي تلتها، حداً فاصلاً ما زال موجوداً الى اليوم في قلب العالم الاسلامي. اما ضمّ العثمانيين لبلادنا ولمصر، الذي حصل عام 1516، فلم يكن الّا «نتيجة ثانوية» لحملة السلطان سليم؛ اذ أيقنت الامبراطورية انّها، ان لم تهيمن على محيطها المباشر، فهي لن تأمن ظهور تهديدات مشابهة تخترقها في المستقبل. قد تبدو الحركات المتطرفة «عدمية» وبلا أفق، ولكنّها كثيراً ما تترك بصمة في التاريخ تستمر الى أمدٍ طويل بعد زوالها.